• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : الجيل القادم و كتابة التاريخ؟؟؟ .
                          • الكاتب : د . محمد شداد الحراق .

الجيل القادم و كتابة التاريخ؟؟؟

 من أصعب لحظات التاريخ و أكثرها مرارة ، أن تتعايش أمة مع الهزيمة، وتعتاد التطبيع مع المذلة و الهوان ، وتقبل العيش على هامش العالم وفي ذيل الأمم. ما أقسى أن تسيطر الهزيمة النفسية على الشعوب ، وتسلب منهم الإرادة والعزيمة، وتدمر فيهم الرغبة في التحرروالانعتاق  والحماس في العطاء و البناء، وتقتل فيهم الإحساس بالكرامة. حينما تسود الهزيمة النفسية ، تفقد الشعوب الثقة في ذواتها، وتقبل بالتبعية غير المشروطة والانقياد التام، ويهون عليها التنازل الذليل عن مقومات العزة وثوابت الهوية. الهزيمة النفسية أخطر فيروس يفتك بالشعوب،  يصيب جهاز المناعة، يدمر خلايا الغيرة و الشهامة، يعطل الإرادات و يشل القدرات، ويجعل صاحبه يعيش حياة الانكماش و الانسحاب و التراجع إلى المواقع الخلفية، ويلقي به في أغلال الأوهام و المخاوف، ويفرض عليه رفع راية الاستسلام وإلقاء سيف المقاومة والاكتفاء بغمده للزينة أو للذكرى.
   ماذا يقرأ الجيل القادم في كتب التاريخ ؟ و أي تاريخ يمكن الافتخار به ؟ وأي احترام سيكنه الخلف للسلف؟ ...الدماء تنزف، الأعراض تنتهك، الخيرات تنهب، الأراضي تغتصب،......ولكن لا حركة و لا صوت ولا فعل ولا رد فعل. إعاقة تامة ، شلل كلي ، غيبوبة طويلة لم ينفع معها أي إنعاش. الدماء التي كانت في الماضي فوارة ثائرة، قد نزلت درجة حرارتها إلى مستوى قياسي . تجمدت في العروق، انقطع هديرها، توقف لهيبها وتوهجها ، فتر عزمها واندفاعها . لم تعد تستجيب لأي استفزاز أو إثارة. ماتت الأرواح فلم تعد الأجساد الجوفاء تحس بالألم برغم الجراح المتتالية والضربات المتوالية (فما لجرح بميت إيلام).
    زهد زعماؤنا الجدد في قاموس الملاحم و الأمجاد و البطولات و المواقف التاريخية الخالدة ، وفضلوا صياغة قاموسهم الجديد بلغة الهزيمة والوهن والغثائية. اكتفوا بالتنديد و مرادفاته التي أصبحنا نحفظها عن ظهر قلب في كل مناسبة أليمة، و لم نعد نطمع في أكبر منها. أصبح المواطن العربي يعيش في غموض كبير، اختلطت عليه المواقف، هل يسالم أم يقاوم؟ هل يغضب أم يهادن؟ تستفزه صورة الضحية وهي تصافح الجلاد، يجرح كبرياءه منظر العناق المتبادل ، يثيره مشهد السمر مع رموز المجازر و المحارق . لا يفهم المواطن العربي البسيط معنى تلك البسمات والمصافحات ، هل هي للشكر أم للتهنئة أم ..ماذا؟ فإذا كان المواطن الحالي لم يفهم فإن الجيل القادم لن يرحم. سيحاسب الجميع، سيلغي مادة التاريخ من برامجه الدراسية، سيدمر المتاحف والمقابر والصور.
       إن هذه المشاهد التي نراها والتي لا نراها، ومن الأفضل ألا نراها، هي صورة متطرفة للهزيمة النفسية التي نحياها في ظل عولمة اللامبالاة وسيادة ثقافة الجبن والعجز والوهن والتراجعات. مشاهد مؤلمة ومؤرقة ومستفزة. وكيف لا تكون كذلك ونحن نعيش في دوامة من التناقض القاتل والمفارقات الغريبة؟ حينما أقنعنا أنفسنا بالهزيمة، حولنا كل معاركنا إلى بلداننا و مجتمعاتنا. تخندقنا في المواقع الدفاعية، وخضعنا لكل ضغط أو ابتزاز أو مساومة. أعطينا لغيرنا مفاتيح التحكم في عقولنا، أعطيناه الضوء الأخضر ليمارس لعبة المسخ و الطمس والإبادة التامة لقيمنا و ثقافتنا. حينما فقدنا زمام المبادرة و الثقة في النفس صنعنا من الخيال حواجز نفسية وسدودا وهمية. و رسمنا للآخر صورة العملاق الذي لا يقهر، وقزمنا قامتنا، وتوارينا وراء ستار المبررات الأسطورية، وقدمنا الولاء للصنم الذي صنعناه بأوهامنا.
كانت هزيمتنا النفسية أول مراحل هزائمنا المتلاحقة. كانت ممهدة و سابقة لأي هزيمة في هذا الزمن الاستثنائي. كانت هي المدخل المباشر إلى هزيمتنا الحضارية. وقد ساهمت فعاليات كثيرة في تكريسها وتخصيبها وتوليدها. فدعاة التطبيع و المبشرون الجدد بعالم الحداثة والثقافة الكونية كانوا أول من دق المسامير في نعش العروبة، وحولوا أنظار الأجيال عن قضاياهم المصيرية  
وعمقوا في وجدانهم ثقافة اللامبالاة، و أشغلوهم بالتفاهات. ساهموا في صناعة جيل لا ارتباط له ولا انتماء. جيل لا يحس بخصوصية الدماء التي تجري في كيانه. ولا بقداسة التراب في أرضه وبلاده. فقد عمل دعاة الهزيمة على إغراء الأجيال بالنموذج الغربي ، دفعوا الشباب الناشئ إلى النظر إلى الآخر بخلفية انهزامية، وبنفسية المغلوب الذي يتبع الغالب في كل شيء. كرسوا في وجدان الشباب الإحساس بالدونية، و أقنعوهم بأن الغرب نموذج للكمال. معبود جديد لا يقهر ولا يسأل ولا يحاسب، حتى و إن قتل الأرواح البريئة و انتهك الأعراض الطاهرة و اغتصب الأراضي المقدسة. فمن يستطيع كتابة هذا التاريخ؟ 
 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=10224
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 10 / 10
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19