عندما يقول المعصوم فإن قوله من القرآن ولو عرضناه على القرآن لوجدنا اثر له . وكثير ما اشار أئمة أهل البيت إلى جزء من آية في كلامهم وكأنهم يطلبون منا مراجعة هذه الآية لمعرفة حكم من يتكلمون عنه. ومن ذلك مثلا أن الإمام علي عليه السلام عندما اخذه القوم لكي يُكرهوه على بيعة ابي بكر مرّ به القوم على قبر رسول الله (ص) فالتفت الإمام علي (ع) إلى القبر وقال : (يا ابن ام ان القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني).(1) وهو قول هارون لموسى وكلمة استضعفوني اي قللوا من شأني بعد غيابك وتكاثروا عليّ ،وفي ذلك اشارة أيضا إلى هارون اخو موسى عندما انقلب عليه بنو إسرائيل واتخذوا العجل واوشكوا على قتله وهو نفسه جرى في أمة محمد عندما انقلبوا على علي ابن ابي طالب (ع) واتبعوا العجل وكادوا ان يقتلوه وذلك لقول عمر بن الخطاب لعلي (ع) (بايع وإلا قتلناك).(2)
وكذلك عندما نطق رأس الامام الحسين عليه السلام ذاكرا فصلا من سورة الكهف : (ام حسبت ان اصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا). فالحسين يُريد ان يقول للناس بأنه مثل اصحاب الكهف الذين تم مطاردتهم وطردهم واخافتهم ويريد ان يقول لمن قتله بأنه وأصحابه أحياء مثل اصحاب الكهف الذين يعتقدهم البعض بأنهم ماتوا وهو مصداق قوله تعالى : (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله).
ومنها قول الامام الحسن (ع) عند صلحه مع معاوية حيث أجبر على ذلك نتيجة لتخاذل جيشه فخطب في جيشه حيث قال : (لا أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين) . فأشار الحسن (ع) بهذه الآية إلى اختبار نوايا جيشه وامتحان ولائهم محذرا لهم بأنها فتنة ، والآية مسبوقة بقوله تعالى : (فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن ادري اقريب ام بعيد ما توعدون). وهو أشد انواع التحذير ،فالامام الحسين (ع) يريد ان يخبرهم بأنهم تولوا وانقلبوا.(3)
وهكذا تستمر اللغة الرمزية في كلام المعصوم لتخبرنا بأحكام يجب علينا استنباطها حول كل من تناوله النبي او الائمة (ع) في حديثهم لمعرفة حقيقة ما جرى وما سوف يجري عليهم وعاقبتهم.
اما رسول الله (ص) فعندما طلب قلما وقرطاسا (ليكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده أبدا) .(4) قال عمر بن الخطاب (ما شأنه أهجر استفهموه حسبنا كتاب الله).(5) فقال النبي (ص) : (دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه). لفت نظري قوله (ص) : (خير مما تدعوني إليه) وما هو سبب قول النبي لذلك، وما هو الذي دعوه إليه حتى اضطر إلى قول هذه القول الخطير مستدعيا هذه الآيات في قوله؟ .
شعر رسول الله (ص) بأن لا فائدة من هذا الكتاب بعد الذي قاله عمر حيث زرع الشك في هذا الكتاب قبل أن يكتبه النبي فإذا كتبه حامت حوله الشكوك وهل كتبه النبي وهو في كامل قواه العقلية ام انه من شدة (هجر) المرض ووجعه اي هذيانه . حاشا لله ان يكون ذلك ممن لاينطق عن الهوى. وهنا لابد للنبي ان يرد بكلام يُبين فيه حقيقة ما كان يدعو إليه القوم وخصوصا ما قاله عمر ، فقال النبي كلاما خطيرا على ما يبدو لم يلتفت له المفسرون من قبل أو تعمدوا تجاهله لما فيه من اسائة إلى رمز من رموزهم. وهو قوله لمن حوله في الغرفة وفيهم عمر بن الخطاب : (أنا فيه خير مما تدعوني إليه) . فماذا كان القوم يدعونه إليه ؟ وبالرجوع للقرآن حيث ان القاعدة تقول ان حديث المعصوم يجب ان يُعرض على القرآن لسببين.
الأول : لكي يُعرف أن له أصل في القرآن وانه عن الوحي على لسان المعصوم لوجود مشابه له في القرآن.
الثاني : لكي ترجع الأمة إلى القرآن لمعرفة ماذا كان يقصد النبي من قوله هذا ؟
بالرجوع إلى القرآن تبين أن النبي اشار إلى الآيات التي تقول : (يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله ..لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب).(6)
من هذه الآيات الخطيرة التي استدعاها النبي وهو يحتضر اشار لنا بأنهُ (ص) فهمَ ما كان يصبو إليه عمر بن الخطاب ومجموعته التي كانت معه في الغرفة وهي أن عمر كان يُحاول ابعاد النبي عن كتابة هذا الكتاب لأنه شعر بخطورته فقد كان النبي (ص) يدعوهم إلى النجاة من خلال كتابته لهذا الكتاب ، ولكن عمر وجماعته كانوا يدعونه إلى النار عن طريق اجباره على عصيان الله تعالى بالامتناع عن كتابة هذا الكتاب في تعيين شخص بعده والاكتفاء بكتاب الله ، ولكن النبي عند اصراره اطلق عمر قنبلته فقال (ان النبي ليهجر) أي اصابه الهذيان وبذلك وضع حدا لهذا الكتاب من أن يُكتب . ومن هنا نفهم اشارة النبي (ص) لنا بأن نقرأ هذه الآيات ونتدبرها فنعرف من خلالها ان الذين قاموا بمنع النبي من كتابة هذا الكتاب هم مثل فرعون وملأئه الذين كانوا يدعون قومهم إلى النار عن طريق عصيان النبي، ثم بيّن النبي (ص) أن حكم فرعون هذه الامة واتباعه النار يُعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة يدخلون النار الأبدية الحامية (أشد العذاب). ثم اشار النبي إلى أن الذين منعوا هذا الكتاب هم (من المسرفين) وأن المسرفين هم أصحاب النار. ثم اوعدنا النبي (ص) بأننا سوف نرى آثار ذلك يوم القيامة من خلال قوله لنا : (فستذكرون ما أقول لكم). وهو موعدٌ ضربهُ لنا رسول الله (ص) سنكون فيه شهودا على ما حصل على يد أغيلمة من قريش.
واما قوله (ص) : (لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة). فهو متعلق بولاية علي عليه السلام حيث أن الامامة ليست في الدنيا فقط بل في الآخرة. أما في الدنيا : (فمن لا يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ، وأن الأرض لا تخلو من حجة). واما يوم القيامة فقوله تعالى : (يوم ندعو كل أناسٍ بإمامهم).(7)
فلينظر أحدنا إلى نفسه مع أي إمام سيُحشر يوم القيامة.
المصادر:
1- سورة الأعراف آية : 150.
2- ورد في كتب السنة والشيعة منها الإحتجاج ج1 ص181 ـ 185 وبحار الأنوار ج28 ص189 ـ 191 والخصال للصدوق ص461 و 462 واليقين لابن طاووس ص336 و 337 والدر النظيم ص441 و 442 ونهج الإيمان ص578 و 579 وغاية المرام ج2 ص120.
3- اجمع المفسرون انها نزلت في بني أمية حيث قال المفسرون : (وإن أدري لعله أي لعل الإمهال فتنة لكم أي اختبار ليرى كيف صنيعكم وهو أعلم . ومتاع إلى حين قيل : إلى انقضاء المدة . وروي أن النبي (ص) رأى بني أمية في منامه يلون الناس ، فخرج الحكم من عنده فأخبر بني أمية بذلك ؛ فقالوا له : ارجع فسله متى يكون ذلك . فأنزل الله تعالى وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون ، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين يقول لنبيه (ص) قل لهم ذلك. وهو أشد انواع الوعيد .
4- الحديث متواتر نقله كل اهل السنة والجماعة والشيعة ايضا وهو في صحيح مسلم - كتاب الوصية حديث رقم: 4319. الرواية كاملة : قال ابن عباس يوم الخميس وما يوم الخميس اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا ما شأنه أهجر استفهموه فذهبوا يردون عليه فقال دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه .
5- وقال النووي : اتفق قول العلماء على أن قول عمر (حسبنا كتاب الله ) من قوة فقه عمر ودقيق نظره ، لأنه خشي أن يكتب النبي أمورا ربما عجزوا عنها فاستحقوا العقوبة . ويحتمل أن يكون عمر قصد التخفيف عن رسول الله (ص) لما رأى ما هو فيه من شدة الكرب ، وقامت عنده قرينة بأن الذي أراد كتابته ليس مما لا يستغنون عنه. انظر كيف يُبررون سقطات عمر. ثم كيف يكون عمر فقيها وهو يقول عن نفسه (حتى النساء افقه منك يا عمر).
6- سورة غفر آية : 41 ـ 46.
7- سورة الاسراء آية : 71.
|