• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : قصةٌ فريدة عن لُعبةٍ عَتيدة .
                          • الكاتب : ليث العبدويس .

قصةٌ فريدة عن لُعبةٍ عَتيدة

ليَ معَ كُرة القَدمِ مذهبٌ فريد وفلسَفَةٌ غريبة، قَدْ ألتَقي فيها مَعَ نَفَرٍ مِنَ القلائِلِ الذينَ يُشاطرونني ذاتَ التوجّه الموغِلِ في الغَرابة بِصَددِ ساحِرة الجماهير، فيما – وعلى صَعيدٍ آخر -  قَدْ افترقُ مَعَ الأغلبية الساحِقةِ مِنَ عُشاقِها ومُحبيها مِنْ مِليارات البَشَر الذين سَحَرتْ ألبابَهُم تِلكَ الانحناءةُ المُكوّرةُ لِرُقعَةِ الجِلدِ المدبوغ القاسي المُتدحرِجِ على مُستَطيلِ العُشب الأخضَر، فَمُجَرّد اتخاذ موقِفٍ مُخالِفٍ لإجماع الأغلبية – ولو على مُستوى الرياضات البريئة – يُحيلُكَ فوراً الى أقليّةٍ تُعاني النبذَ والإلغاء، بل يَكفى لِوَصمِك بالشُذوذ تَمهيداً لِحَشرِكَ في خانة "غريبي الأطوار"، ولأني أحمِلُ في صَدري إنجيل اشمِئزازي العَميق مِن كُرة القَدَم، وهي سابِقةٌ جَدُّ خطيرة من كائِنٍ بَشَري، فلي الحَقُّ أنْ أخشى على الدوامِ مِن مَحاكِم التفتيشِ الجوّالة التي تُطارِدُ مُعتَنِقي الديانَة الجديدة وَتَتَعَقّبُ حوارييها، فَتُشبِعُهُم تَسفيهاً وتحقيراً، كيف لا وَقَد عُبنا إلهاً أرضياً تتقاذَفُهُ الأقدامُ وتتجاذَبُهُ الأحذية.

 وَقَبلَ أن تُطلِقوا عَليَّ النارَ بِمَدافِعِ أحكامِكُمُ المُسبَقة التي صِغتُموها قبلَ تَدوين التاريخ واعتدتمُ الزَعيقَ بِها في كُلّ جلسة استماعٍ ومسرحية مُحاكمة، ولَكَم آلَمَتْ قلبي الحزينُ عَجرَفَةُ آراءِكُم المُقوّلَبة الجاهِزة، وَقَبلَ ان تَهطِلَ على رأسي المَصدوعِ دعاوي التجديفِ والهرطَقة والخُروجِ مِن دائرَة دينِ " الفيفا " تَقَدّسَ سِرُّهُ وتبارَكَت لِجانُهُ واُمطِرَ بِشآبيبِ الرَحمَةِ مَقَرُّه، قَبلَ كُلّ احكام الكُفر والزندَقَةِ والتَفسيق التي صِرنا  - مِن كُثر مُزاولتِنا لها – نَستَهتِرُ في إطلاقِها جِزافاً وِبوَفرةٍ تُثيرُ الغَثيان بِسَببٍ او بِدونِه، فيما يَعلو صَريرُ مَفاصِلُ حياتِنا السرّية المُرهَقَةُ بِموبِقاتٍ مُخيفةٍ حولتنا إلى آلةِ إثمٍ عمياء كَسيحةٍ تَزحَفُ على كُروشٍ مِنَ النِفاقِ والدَجَلِ العلني المفضوح وتستهلِكُ النَزرَ اليسيرَ المُتبقي مِن مروءاتِنا العصماء حتى أضحت قوافينا الغابِرةُ تخجل من تهاوينا المُريع ونُكوصِنا الدائِب، فهل بَعدَ ذلك الإفلاسِ من شيء، مُمزقونَ نحنُ منذُ الأزل بِزُحارِنا الفِكري وَشللنا الثقافي، فَهل تُلَملِمُ كُرة القدم شَعثنا المُهلهَل؟

 قبل ان يرتَفِع صَخَبُ الإدانة ويعلو لَغَطُ الاحتجاج، أضَعُكُم، عَبيدَ الأشياء المُكوّرة - وما اكثَرَها في حياتِكُمُ البائِسة، من نُهودِ الجواري الكواعِبِ في القُصورِ المَنيفة حتى المونديالات السَخيفة – في صورة نظريّة المؤامرة التي تروني – كباقي رِفاقي المُتناقِصين يومياً بفضل ماكنة أعلامِكم الكُرويّة الشَرِهة – قَد اجتاحتني هستيريَتُها واعتراني جُنونُها، وَقُبيلَ بَسط الطرح على طاوِلة النِقاش أتساءلُ – ولتُشرِكوني الإجابة – هل تَعَمّد مصممو الكُرّةِ أن يَجعلوها مُدوَرَةً مُجوفَةً عَقيمةً بَلهاء في مُحاكاةٍ مازِحَةٍ ساخِرةٍ سوداويةٍ لِرؤوسِنا – نحنُ جياعُ العالم الثالث - ؟

هَل أصلحنا الأرض المواتَ وردمنا مَكبّات النفايات وداهمنا الصحراء بأحزِمة خضراء يانِعات لِنُعَربِد بعدها على الكُرة بهذه الحَماسة؟ هَل استأصلنا البلهارزيا والجُذام والأيدز وشلل الأطفال لِنندَمِج في لوثات الملاعب؟ هل سَكبنا دَمعة ساخِنة عند ملجأ أيتام مُهمَلٍ كمقبرةٍ أو دار عَجزةٍ غاصٍ كزريبة او مركزِ مُعاقين صار كَمُعسكر احتِجازٍ لِنتَبَجّح بِمهاراتِنا الكُرويّة؟ هل شققنا نهراً او رفعنا جِسراً او مَدننا قُنطرةً او طردنا لَعنةً لعناء لِنتدافَعَ – بالملايينِ – كأسراب الجراد – مَخمورينَ مُخدّرينَ مأسورينَ كأيّ قَطيعٍ مُشرّدٍ ضال، نبحَثُ عَن مُجرد " نَصرٍ" نصطادُهُ او يصطادُنا – لا فرق – بِشِباكِ حارِسٍ غافِل، بعد أن استيقَنّا بِعُمقٍ ان لا " نصر" آخرَ يبرُقُ في الأُفُق؟

وقبل كُلّ هذا وذاك – وكي لا ننحَدِرَ في مهاوٍ لا تُحمَدُ عُقباها – هل أسسنا لِمُستَقبَلٍ مُتماسِكٍ بدلَ الغَد الهُلامي المُشوّه الذي لا شَكَّ سَينبَلِجُ ونحنُ عنهُ نيامٌ في حواف الظِلال وتجاويف التاريخ وجيوبِ النسيان وفُقدان الذاكِرة الذي كَرِهنا وكرِهناه؟ مؤلِمٌ أن يُفَتِشَ المَرءُ في جُيوبِهِ المثقوبة فلا يَقبِضُ غيرَ الفراغَ والهزيمة، هل نحنُ ساخِطونَ على أنفُسِنا الى هذه الدرجة بحيثُ نُنَفِسُ في الملاعِبِ الرحبة عن كُلِ عُقَدِنا العويصَةِ القابِعةِ في ضيقِ أدمِغَتِنا الإسفنجية، فنحنُ – وخِلافاُ لِباقي الأُمَم – نولَدُ ومعنا استعدادٌ فِطريٌّ للإصابة بـ "باركِنسون" كُرة القدم!

وصدقوني، ولعلكم تهزأونَ الآن مِن تَقعُري وتَكلُّفي وَتَصَنُعي، وتضحَكونَ مِلئ أشداقِكُم مِن شِدّة " الجَدَب الرياضي" الذي أعانيه، لَأنْ أقضيَ نَحبي – كالجاحِظِ – قَتيلاً تحتَ رَفّ كُتُبٍ مُنهار، أو صريعاً – كلوركا – بِرصاص كَتيبةِ إعدامٍ فاشيستيّة، خيرٌ لي ألفَ مَرّةٍ مِن الغَرَقِ في أتونِ حُلمِ الكُرةِ – ذلِكَ الأفيونُ القويٌّ الذي تأنَفُ نفسي تَعاطيه، ولَأَنْ أموتَ وعلى مُحيّاي حَسرةٌ على حال بني جلدَتي أرأفُ على روحي المُحتَضَرة من هَذيانِ مُشجّعٍ مخدوع.

 

ليث العبدويس alabedwees@yahoo.com

 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=11383
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 11 / 16
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18