• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : رسالة من المجلس المدرسي إلى المجلس التأسيسي العربي .
                          • الكاتب : محمد الحمّار .

رسالة من المجلس المدرسي إلى المجلس التأسيسي العربي

استهلت تونس بداية من يوم 22-11-2011 حقبة حديثة من تاريخها. وذلك بافتتاح أشغال المجلس الوطني التأسيسي. وبالرغم من وجود ممثلين للشعب فيه عُهدت إليهم مهمة صياغة دستور للبلاد، إلا أنه من حق ومن واجب كل مواطن الإدلاء بدلوه في تصور الواقع المنشود لتونس الجديدة، إن بخصوص الأصول أم بخصوص الفروع؛ إن بخصوص العاجل أم بخصوص الآجل.
 
في باب الأصول يحق التشديد على أنّ عروبة تونس وإسلاميتها حُلم جميل كلنا مطالبون بإحيائه ثم بتحقيق صورة جديدة له. علما وأنّ تونس العربية والمسلمة هي تونس المتحدة مع سائر الناطقين بلغتها ومع سائر المتدينين بدينها. كما أنّ تونس هذه عالمية بتاريخها أولا وبثورتها المعاصرة ثانيا.
 
أن تكون تونس عربية ومسلمة و عالمية يعني أن تكفّ عن التقوقع في فلك فرنسا وعن القبوع في كف الولايات المتحدة الأمريكية. مع هذا فقد حان الوقت لأن نتعامل مع مثل هاتين القوتين، ومع غيرهما، على أنهما شريكتين تقليديتين، بكامل الندية وعلى قدم المساواة. 
 
فمِثلما نحن نحتاج إليهما هما تحتاجان إلينا. وإن هنالك أمر يحتاجون إلينا بخصوصه اليوم فهي القيم الخفية، مِن حقوق الإنسان ومِن حريات أساسية كانت مُغيَّبة. أعني قيم الإنسان بلغة المسلمين. فالإسلام، الذي ندين به منذ خمسة عشر قرنا، لم يعلمنا الاعتداء على الغير وابتزاز خيرات الآخر الضعيف، واستنزاف قوى الآخر المعتل. لذا فأولى رسائلنا إلى فرنسا وأمريكا وإلى الدول التي كانت مهيمنة كافة أن "كفوا عن تصديركم إلينا قشور القيم التي تؤمنون بها مع أنكم حريصون على الاحتفاظ بلبّ تلكم القيم لكم دون سواكم وفي نفس الوقت على تجسيد قيم خفية تُجاهنا مثل الاستبلاه والاستصغار والغدر والنفاق والطمع والتكالب والاستقواء."
أما القيم الخفية والمُغيَّبة التي من واجبنا اليوم تمريرها لهؤلاء فهي الشفافية و الصبر والثبات ونكران الذات والقناعة وما إلى ذلك مما لم تُعره منظومة حقوق الإنسان الناطقة بـ"اللغة الأجنبية" اهتماما . بهذا المعنى، فإنّ مثل تلك البلدان التي كانت مهيمنة مطالبة برفع يدها عن ثرواتنا، إن البشرية أم الطبيعية، وأن تنظر إلينا من موقعها كشريك مُكتفٍ بدوره.
في هذا السياق ينبغي على السلطة الجديدة في تونس (وفي أي بلد عربي متحرر) أن تنتهج سياسات داخلية وخارجية باتجاه تعزيز معاني الشراكة والتشاركية والتبادل والتبادلية والتعاون وذلك بالاستناد إلى معاني الكرامة والعزة والندية والتعويل على النفس، وبفضل درأ المؤامرات والتصدي إلى المكائد. لهذا الغرض يتوجب العمل على تثوير كل المنظومات في حياتنا وعلى رأسها الأنساق التعليمية والاجتماعية والقضائية.
 وما من شك في أنّ المسؤولية الأكبر جسامة تؤول إلى السلطة التربوية والتعليمية. وإلا فلا الاقتصاد ولا غيره من القطاعات الضالعة مباشرة في العيش اليومي ستكفّ عن أن تكون تابعة كالعادة لا قدر الله، لإرادة بلدان الهيمنة الامبريالية.
فالعقل السليم هو الكفيل بتصوّر السبل المؤدية إلى الاستقلال، ماديا (اقتصاديا) كان أم معنويا (رمزيا؛ فنيا وأدبيا وإعلاميا وغيرها). والعقل السليم نتاج المدرسة السليمة. وهذه الأخيرة هي التي ترعى الشباب تبعا لِما يريد هو، لا تبعا لِما يريده له قادة الرأي في المجال السياسي والسلطوي المحلي، ولا لِما يريده له مهندسو التذيّل للخارج. والمدرسة مُهندس أول لهذه الخطة الطبيعية والنبيلة، فهي بالتالي المشرف الأول على تسهيل العمل بإرادة الناشئة.
من هذا المنظور تتعالى السلطة التربوية والتعليمية على السلط كافة إن لم نقل تعتلي عرش الشراكة مع الدولة بالذات. إذ إنّ الدولة في الثقافة الإسلامية لا تستمد شرعيتها مباشرة من برلمان، ولو كان هذا الأخير منتَخبا، وإنما من الجماعة. والمدرسة هي بامتياز المكان الملائم الذي يجتمع فيه الرأي الصواب والمنهاج المنسجم مع ثقافة الشعب. 
لذا إذا شئنا التوفيق في التجربة الديمقراطية بما فيها التجربة البرلمانية علينا الكف عن احتساب البرلمان مكانا ذي قداسة تفوق المقدسات نفسها. إذن على البرلمان أن يصغي إلى السلطة التربوية والتعليمية قبل أن تصغي إليه هي. إذ البرلمانيون، وأعضاء المجلس التأسيسي، أبناء وبنات المدرسة قبل أن يكونوا ممثلين للشعب ومكلفين برسم التوجهات والسياسات لفائدة المدرسة، من بين قطاعات أخرى. 
هكذا تكون الهيئة التمثيلية، من مجلس تأسيسي وبرلمان، مرآة عاكسة للجماعة المتربّية و المتعلمة، لا للجماعة المُسيسة مثلما هو الشأن في البلدان التي استوردنا منها نظام الديمقراطية. هؤلاء "قتلوا" الله، مصدر القداسة الكبرى، فلسفيا ليستبدلوه بالدولة. أمّا نحن فعقلنا في ديننا الذي من الله، والدولة عندنا مطالبة من هنا فصاعدا بتجنب مثل ذلك الدور غير الطبيعي. والشراكة التي ستجمعها بالمدرسة كفيلة بتلبية هذا الشرط.
لا يمكن إذن أن تبقى المدرسة عندنا عالة على المجالس والبرلمانات، ولا أداة لتنفيذ سياسة الدولة التي يسنها البرلمان من غير أن تطبع هذا الأخير بطابعها، طابع الشعب المتربي والمتعلم. وإلا مِن أين للدولة أن تقرر سياسة راقية في التربية والتعليم طالما أنها ما تزال تعتبر المدرسة والمدرّس مُجتمعَين بَيدقا بيد القيادات المعتاشة من الشعب، وما تزال تُسَخرهما لخدمة السلطة الحاكمة من جهة، ولخدمة النظام العالمي الراغب في المزيد من التغوّل عبر آليات على رأسها إفراغ مجتمعاتنا من أدمغته؟ أليس المعلم في ثقافتنا مَن قيل فيه إنه كادَ أن يكون رسولا؟



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=11752
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 11 / 29
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 13