نشطت القوى الأرهابية في العراق منذ سقوط النظام السابق على يد الجيش الأمريكي وحلفائه منذ إحتلال بلاد الرافدين في العام 2003. ولقد أصبح الشعب العراقي ومنذ ذلك الحين وإلى اليوم هدفا للقوى الأرهابية التي دخلت العراق بحجة مقاومة الجيش الأمريكي , غير أنها ألقت بثقلها الأعظم في معركة أعلنتها ومن طرف واحد ضد أبناء الشعب العراقي المظلومين ولم تكن عملياتها التي إستهدفت عبرها القوات الأمريكية سوى لذر الرماد في العيون حيث بلغ عدد القتلى من الجنود الامريكيين ولحين الأنسحاب الأمريكي قرابة الأربعة ألاف وخمسمئة فيما يعد عدد ضحايا الأرهاب من أبناء الشعب بعشرات الألاف على أقل التقادير إن لم نقل مئات الألوف من الضحايا.
ويشكل تنظيم القاعدة العمود الفقري للأرهاب في العراق فيما تعتبر تنظيمات حزب البعث المنحل وأعضاء الأجهزة الأمنية سيئة الصيت للنظام السابق ,أذرع الأرهاب في البلد. ولم يخف الطرفين تعاونهما بل إن تنظيم القاعدة حظي بدعم لامحدود في بعض المناطق العراقية سابقا وبتأييد عدد من رجال الدين والمؤسسات الدينية كهيئة علماء المسلمين التي يرأسها الشيخ حارث الضاري.ولقد أصبح الإرهاب اداة سياسية, فهو ينتقي اهدافه ويحدد توقيتات عملياته طبقا للأوضاع السياسية في البلاد. إلا ان الهدف المشترك لجميع عملياته هي إرباك الوضع السياسي ومحاولة جر البلاد إلى اتون الحروب الأهلية ولذا فقد كانت بعض عملياته نوعية كعملية تفجير مرقد الأمامين في سامراء , او تفجير مواكب العزاء الحسينية أو في إستهداف الأسواق الشعبية التي يغلب عليها لون طائفي دون اخر او في إغتيال بعض القادة السياسيين كما حصل عند إغتيال السيد محمد باقر الحكيم ورئيس مجلس الحكم السابق عز الدين سليم.
ولقد عجزت الحكومات العراقية التي تعاقبت على سدة الحكم في بغداد بعد السقوط عن القضاء على الأرهاب,رغم انها أنفقت مئات المليارات من الدولارات في معركتها ضد الأرهاب ورغم ان الشعب العراقي دفع ثمنا باهضا في هذه المعركة المستمرة,ورغم انها كانت مدعومة من لدن أقوى دولة في العالم ألا وهي أمريكا التي سخرت إمكانياتها السياسية والأستخباراتية والعسكرية في معركتها ضد الأرهاب في العراق والتي يعتقد العديد من المحللين أنها خاضتها بمحض إرادتها ووفق إستراتيجية محددة للقضاء على المجاميع الأرهابية المنتشره في الكثير من الدول والتي إستدرجتها أمريكا للعراق للقضاء عليها في معركة حاسمة إنتقاما لعملياته الأرهابية التي هزت العالم في أيلول من العام 2001 وكإجراء وقائي لمنع وقوع أعمال إرهابية أخرى.
وقد تلاقت أهداف أمريكا والعالم الغربي مع مصالح العديد من دول الشرق الأوسط التي وجدت في الصراع في العراق فرصة سانحة للأجهاز على التنظيمات الأرهابية السرية المتواجدة في تلك الدول وذلك عبر تسهيل عبورها للعراق ومن ثم الأحتراق في المحرقة هناك. ومن ناحية اخرى فإن تلك الأعمال الأرهابية التي أريد لها ان تربك الوضع في البلاد جعلت العراق نموذجا تشير إليه دول المنطقة محذرة شعوبها من مغبة التغيير أو الأستعانة بالقوى الخارجية لأحداث تغيير في أنظمة الحكم, لأن مثل هذا التغيير سوف لن تكون نتيجته سوى ودمار وفقدان للأمن وعدم إستقرار كما هو عليه الحال في العراق.
وقد فشل كلا الطرفين في هذه المعركة ولم يحقق أي منهم أهدافه , فالأرهاب لم ينجح في جر البلاد لأتون حرب أهلية بعد ان نجح العراقيون في تطويقها وخنقها في مهدها وأما الأنظمة العربية وغير العربية التي ساندت ودعمت الأرهاب فلم تنجح لا في إعادة عقارب الساعة في العراق إلى الوراء ولا في الوقوف بوجه رياح التغيير التي هبت على المنطقة , فمعظم أنظمة المنطقة اليوم إما سقط أمام رياح التغيير او في طريقه إلى السقوط ولا يوجد نظام عربي واحد اليوم في مأمن من رياح الثورات التي تعصف في المنطقة.
وأما الولايات المتحدة الأمريكية التي نجحت في توجيه ضربات قاصمة للقوى الأرهابية إلا انها لم تستطع إكمال مهمتها في القضاء التام على تلك المجاميع بل تركت العراق اليوم ليكمل تلك المهمة العسيرة. فبعد مرور أكثر من ثمانية أعوام على بدء المعركة ,نجحت القوى الأرهابية يوم الخميس الماضي في تنفيذ سلسلة من الهجمات الأرهابية التي إجتاحت العاصمة العراقية بغداد وفي مناطق متفرقة منها وفي توقيت واحد وفي ظل أجواء سياسية متوترة تعيشها البلاد.
وعند التمعن في هذه العمليات الأرهابية من حيث البعد الزماني والمكاني والأهداف فلايسع المراقب إلا التسليم بدقة تنظيم هذه الجماعات وقدرتها على المباغتة والأخذ بزمام المبادرة وفي الدخول كعامل ضاغط في الصراع السياسي الجاري في العراق اليوم. فهذه العمليات تمت في يوم واحد وفي زمان متقارب وفي أماكن عدة من العاصمة وبعضها حساس ويصعب إختراقه مثل تفجير بناية النزاهة في منطقة الكرادة المحصنة. فهذا التزامن وهذا الأنتشار الواسع في انحاء العاصمة يكشف عن قدرة لا يستهان بها للقائمين بها. ومن ناحية اخرى فهذه العمليات تكشف ان هذه القوى هي في اتم الأستعداد وهي مجهزة بكامل الوسائل والعناصر اللازمة لتنفيذ مثل هذه العمليات الأجرامية.
فهي تمتلك المال اللازم لتمويل هذه العمليات المكلفة , ولديها إمكانية تقنية وفنية عالية لتنفيذ مثل هذه العمليات ولديها فرق ميدانية تجمع المعلومات وتستطلع وتتقدم خطوة إن لم نقل خطوات على الأجهزة الأمنية العراقية , فضلا عن توفر العناصر الأرهابية المستعدة لتنفيذ هذا النوع من العمليات الأنتحارية التي تستهدف إيقاع أكبر عدد من الضحايا بين المواطنين الأبرياء.وبإختصار فهناك تنظيم دقيق وعلى درجة عالية من التنسيق بين مختلف أطرافه. وأما من حيث الأهداف فلا شك بأن الهدف الأساسي لهذه القوى والذي بات واضحا الأن بعد إنسحاب الجيش الأمريكي من العراق,ألا وهو إرباك العملية السياسية الجارية في البلاد ومن ثم إسقاط النظام القائم اليوم في بغداد.
ولذا فإن توقيت مثل هذه العمليات يتزامن دوما مع وقوع تطورات سياسية وتوترات في العملية السياسية وتأزم في العلاقات بين الفرقاء السياسيين.فمرة تتزامن العمليات مع بدء الأنتخابات أو عند تشكيل الحكومة أو عند عزم العراق إستضافة حدث كبير وهكذا. ولربما يحاول البعض ربط العمليات الأرهابية تلك ببعض الفرقاء السياسيين كما حصل مع تفجيرات يوم امس عندما ربطها البعض بالكتلة العراقية التي ينتمي لها نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي ونائب رئيس الوزراء صالح المطلك على خلفية صدور مذكرة توقيف بحق الأول وإعفاء الثاني من منصبه من قبل رئيس الوزراء. إلا أن الأنسياق وراء مثل هذه الفرضيات سوف لن يؤدي إلأ إلى مزيد من التوترات والأحتقانات ويزيد من المخاطر التي تحيط بالعملية السياسية. فمع عدم وجود دليل قاطع على مسؤولية فريق سياسي عن هذه الأعمال الأرهابية , فإن توزيع الأتهامات سوف يخدم المجاميع الأرهابية التي تهدف من وراء توقيتها الخبيث هذا لتنفيذ هذه الإعمال هو لتعميق روح التنافر والتباعد بين القوى المختلفة ولسد أبواب الحوار لحل الأزمات السياسية وفتح باب الصراعات المسلحة على مصراعيه.
واما من ناحية الحكومة العراقية فقد كشفت هذه العمليات الدامية عن حقيقة أضحت ساطعة اليوم ألا وهي أن هذه الحكومة مهترئة وضعيفة وان الأجهزة الأمنية العراقية فاشلة وبإمتياز. فلو حصلت هذه التفجيرات في مكان واحد أو في أو في أزمنة متعدد لقلنا بأن ما حصل هو إختراق أمني وضعف في الأجهزة الأمنية في ذلك المكان أو الزمان, ولكن أن تقع هذه التفجيرات في أماكن متفرقة من العاصمة وبعضها محصن وبالتزامن فهذا يعني إنهيارا أمنيا وعجزا واضحا في قدرة الأجهزة الأمنية ولأسباب عديدة منها الأستفراد بقيادة هذه الأجهزة ,ومنها ان هذه الأجهزة مخترقة من قبل المجاميع الأرهابية ,وأن هذه الأجهزة تنعدم فيها الكفاءة , وهي منخورة بالفساد , وهذه الأجهزة تتقاسمها الولاءات الطائفية والعرقية والحزبية بل وحتى الأقليمية.
فمثل هذه الأجهزة التي تفتقر لكافة مقومات النجاح لا يمكنها أن تكبح جماح جماعات متطرفة منظمة تحظى بدعم الأرهاب العالمي وبدعم العديد من الدول الأقليمية . ومن ناحية أخرى فإن هذه الأجهزة تعمل في ظل حكومة أريد لها ان تكون حكومة شراكة إلا ان واقع حالها هو حكومة عداوة كما وصفها السياسي الكردي محمود عثمان, وهي لا ينطبق عليها سوى قول الشاعر (متى يكمل البنيان تمامه .....إن كنت تبني وغيرك يهدم). فالأجهزة الأمنية وفي ظل أجواء الصراع السياسي بين مختلف الفرقاء لا شك بانها تصبح موضع تجاذب بين الفرقاء السياسيين وفقا لأعتبارات شتى مع عدم تبلور مشروع وطني تنصهر في بوتقته هذه الأجهزة في ظل الأستقطابات الطائفية القومية والحزبية.
وأمام هذا الواقع المر تبدو فرص نجاح الحكومة في معركتها ضد الأرهاب ضئيلة , مالم تعود أجواء التوافق السياسي في البلاد وأن يتم الألتزام بالمواثيق والعهود الموقعة وإن كان تنفيذها مرا بطعم الحنظل, وأن تعيد القوى السياسية قرائتها للواقع السياسي العراقي مع الأخذ بنظر الأعتبار التغيرات الأقليمية في المنطقة والتطورات المستقبلية المتوقعة , وان تتم إعادة بناء الأجهزة الأمنية وفقا لمبدأ الكفاءة والنزاهة والولاء للوطن , وبغير ذلك فإن المعركة ستظل مستمرة ومفتوحة على كل الأحتمالات وأسوأها الحرب الأهلية وما يستتبعها ولا شك بأن الخاسر الأكبر فيها هو الشعب العراقي بمختلف طوائفة وأعراقه وليس السياسيين الذين أمَنوا مستقبلهم ومستقبل عوائلهم عبر الممرات الآمنة التي شقوها خلال سنوات حكمهم الماضية والتي توصلهم إلى قواعدهم الخلفية في شتى بقاع الأرض!
|