أكاد اقسم برب الفلق أن المأزق السياسي في العراق ليس بسبب تهميش السنة أو تمتين الشيعة. فالمتن الشيعي والهامش السني ليسا سوى تبرير كذلك الذي يقول أن معاوية وصدام يمثلان السنة وبالتالي فان الوقوف ضدهما هو وقوف ضد السنة.
التاريخ مزور. بمعنى انه واقع موجود ولكن مبرراته مزورة جملة وتفصيلا. فإذا كان صدام قد قتل من السنة آلافا، فان معاوية قد قتل من الصحابة آلافا أيضا. وكما سلط صدام مخابراته وأمنه وأجهزة قمعه على العراقيين بعثيين وشيوعيين وإسلاميين وديمقراطيين ومستقلين. كان معاوية يقول لمن اخرج سيفه وقال: معاوية أمير المؤمنين فان ذهب فهذا، وأشار إلى يزيد، ومن رفض فهذا، وأشار إلى السيف. بأنه اخطب العرب.
هكذا يصبح موضوع السلطة والقوة هو محور الخلافات التاريخية وليس الإيمان وشهادة أن لا اله إلا الله والصحابة العدول. فالصحابة فرق سياسية انضم بعضها إلى السلطة وانضم بعضها الآخر إلى المعارضة فأيهم العدول وأيهم الصحابة؟
لماذا نقرأ التاريخ؟ لأنه أولا مستمر ويحكم بشروطه الأولى التي ظهر فيها، ولأنه ثانيا قسم المجتمع إلى فريقين سياسيين مثلما هو الوضع الآن في لبنان: الممانعة والموالاة. ولأنه ثالثا يكذب فيضفي صفات دينية ومذهبية وقومية عنصرية على جرائمه وانتهاكاته للإنسان وحقوقه ومصالحه.
نظرة واحدة فقط لا أكثر تكشف أن موضوع السلطة الإسلامية العربية ليس إنسانيا. فموضوع مثل العدل مثلا لم يأخذ من (الفكر) الإسلامي على مدى 14 قرنا سوى رسالة بثلاثين صفحة كتبها أبو احمد الاسكافي في القرن الخامس الهجري. ومع هذا فان العدل الذي تناوله الاسكافي كان صفة الله التي تشكل احد أركان المعتزلة.
كان موضوع السلطة وما يزال غائبا في البحث الإسلامي. بمعنى أن السلطة فعل مجرد في التاريخ العربي والإسلامي. لا مضمون لها من حق وعدل ومساواة وشرعية وتداول وشورى وقانون وسيادة وتوزيع الثروة وإنماء المجتمع.
حسنا، قد يكون غياب هذه الأسس صفة مشتركة بين امبراطوريات ودول التاريخ، لكن مستويات الاختلاف واضحة. ففي أثينا كانت الفلسفة (تشرع) للديمقراطية، وفي الإمبراطورية الرومانية، كان التراث اليوناني حاضرا، وفي القرون الوسطى، وخلال الإمبراطورية الرومانية المقدسة، كان توما الاكويني، قد شرع في دمج أرسطو بالفقه المسيحي، وفي عصر الأنوار ظهرت القيم الديمقراطية كهدف أخير للدولة والسلطة. وحتى الآن لم يشرع الفكر الإسلامي في نقد مفهوم السلطة على أساس ديني ولكنه يفتقر إلى القيم الدينية التي تلعب الروحانية والوجدانية دورا كبيرا في الفكر الشرقي. ولذلك تتجذر الأيديولوجيات المفعمة بأنواع من الإرث القومي والمناطقي والقبلي والوجدان المحلي. قد لا يكون الصراع سنيا وشيعيا ولكنه قد يكون أعمق من ذلك مستندا علي وجدان الريف ووجدان البادية، ووجدان الموصل ووجدان البصرة، ووجدان العمارة ووجدان تكريت، وهذا يعني أن الطائفية ليست بالضرورة العلامة الفارقة الوحيدة للصراع على السلطة. فالتعصب المناطقي قد يكون ابعد خطرا في الاتجاه إلى التمرد أو بإعلان الإقليم من الطائفية. فماذا لو كان الشيعة والسنة متساوين في العدد ويسكنون بمعدل50%لكل طائفة في جميع محافظات العراق؟
من الواضح أننا مكبلون بتاريخ ثنائي يتمسك به قسم كبير من السياسيين العراقيين، مدعومين بتمسك الأنظمة العربية ورجال الدين السلفيين بهذا التاريخ. والسبب واضح أن هذا التاريخ يقسم الناس إلى قسمين: الحاكم والمحكوم. وما يحدث في العراق من غليان طائفي ظاهرة سياسية وليس ظاهرة فقهية أو دينية. ولذلك هناك طرف واحد متهم بأنه طائفي وهو الطرف الذي يريد الحصول على حقوقه. ولذلك يقف اللجوء إلى الطائفية السياسية عائقا أمام استكمال عملية سياسية مستقرة وآمنة.
الايديولوجيا السياسية طائفية
إن سياستنا عقائدية، سواء بالمعنى المدني أو بالمعنى الديني. وعقائدنا السياسية شمولية ،جامعة مانعة، سواء القومية او الماركسية او الدينية. ولذلك يغيب الوطن والوطنية. واذا غاب الوطن والوطنية غاب القانون وحل محله الفكر الانقلابي، وغاب الدستور الذي يحل محله الالغاء والاقصاء السياسي، وغابت العدالة ليحل الخطاب السياسي وهكذا تضّيع الاصطفافات السياسية والحزبية حقوق المواطن ودولة القانون والمساواة ووظيفة السلطة في النظام الديمقراطي باعتبارها الهيئة التي تخدم المجتمع وتحول الجهاز البيروقراطي الواسع الى خادم لشؤون المواطنين.
لماذا يصطف الآن مثقفون يساريون وقوميون، حزبيون ومستقلون، مع الاصطفافات الطائفية. فالشيوعي الشيعي أصبح منحازا لمذهبه (وليس لطائفته وهذا فرق كبير جدا، فانحياز الأحزاب الإسلامية ليس للطائفة بمعنى التجمع البشري، وإنما للمذهب ولذلك أصبحت الطقوس مقياسا. إن غالبية الشيعة ينحازون للمذهب باعتباره وعاء وجدانيا وليس بالضرورة أن ينحازوا للسياسيين الشيعة، وكذلك ينطبق هذا على غالبية السنة. فإذا أجرينا استفتاء(وليس انتخابات لان الأمر مختلف تماما) فمن المحتمل أن النتائج ستكشف عن أغلبية شيعية ضد (الحكم الشيعي) وأغلبية سنية ضد (الحكم السني).
لدينا الآن (أم المشاكل) وهي مذكرة اعتقال ضد نائب رئيس الجمهورية وإقالة نائب رئيس الوزراء وتوتير العلاقات المتوترة أصلا بين قائمتين هما دولة القانون ورئيسها رئيس الوزراء نوري المالكي والعراقية بأكثر قيادييها.
أصل المشكلة هو لوحة (الكولاج) السياسية التي رسمها الأميركيون والبريطانيون. والكولاج هو تلصيق . وقد اختير لهذا التلصيق لغة جديدة ظهرت في العراق بعد 2003 من مفرداتها: مكونات الشعب العراقي، الطيف العراقي، السنة، الشيعة، التهميش، الصفويون، الحكومة العميلة لإيران، الأقلية السنية، الأغلبية الشيعية وغيرها.
ومن المفردات التي التصقت بهذه اللغة: حكومة الوحدة الوطنية، حكومة الشراكة الوطنية، التوافق، المحاصصة، الفساد، الإرهاب، المصالحة الوطنية، وهي مفردات التصقت بالعملية السياسية والنظام الجديد بحيث لا تنفك منها حتى الآن.
لدينا دستور ولكن لدينا نفوذ سياسي اكبر منه ويقود الى التوافق والمحاصصة. ولدينا انتخابات ولكن لدينا نفوذ سياسي يقود الى تجاوز استحقاقاتها. ولدينا ديمقراطية ولكن على اساس ايديولوجي وقومي ومذهبي وعشائري يتناقض مع الديمقراطية. ولدينا قانون ولكن لدينا سوء استخدام لهذا القانون. ولدينا تعددية ولكن لدينا نزعات نحو التفرد بالسلطة واقصاء الآخرين. ولدينا نص على التداول السلمي للسلطة ولكن لدينا عقل انقلابي لايؤمن بالسلام وانما بالحرب والعنف والتصفيات للاستحواذ على السلطة. واذا صدق ان الهاشمي ضالع في مخطط اكبر شأنا تشترك به قطر والسعودية واسلاميو ليبيا الجديدة، فسيكون من شأن هذا الضلوع ان يترك آثارا مدمرة على مصداقية السياسيين وعلى الثقة التي يوليها الناخبون لهم باعتبارهم حماة لمصالحهم وامنهم واستقرارهم لا ادوات بيد دول اجنبية سواء كانت عربية او غير عربية.
اليست هذه هي مفردات ام المشاكل؟
لكن ماهي المعايير الثابتة التي نستند اليها في العمل السياسي؟ الوطنية؟ لا ، لان الوطنية شعار ايديولوجي يدعيه الجميع بلا استثناء حتى لو كانت هذه الوطنية هي اصابع دول اقليمية وعالمية للتأثير بالوضع العراقي؟ القانون؟ لا لان تسييس القانون يجعل جميع الاحكام القضائية متهمة بالتسييس. معايير مشتركة؟ لا ، لان كل حزب له ايديولوجيته وعقيدته السياسية وبالتالي تكون هي معاييره. فاذا اختلفت مع هذه المعايير فانت جاسوس ولست وطنيا. يقول كامل الجادرجي في نقده لفهد مؤسس الحزب الشيوعي وقائده (على ذمة كتاب صورة اب لابن الجادرجي) : انه كان يصنف كل شيوعي يختلف معه الى جاسوس بريطاني حسب فئات العملة العراقية آنذاك: جاسوس بعانة (4 فلوس)، جاسوس بدرهم (خمسين فلسا) ، جاسوس بريال (100 فلس)، وطبعا لم يصل لديه اي جاسوس الى فئة الدينار لانه لايريد ان يعطي قيمة حتى بمراحل الجاسوسية لخصومه.
هذا واقع يشمل الجميع. انه عقلية الغاء التعددية واحتقار الرأي الآخر واقصاء للفكر وتحقير للثقافة. فرغم ان فهدا كان مناضلا الا انه عاش بهذه العقلية الستالينية.
والواقع ان الفضيلة السياسية قليلة ولاتصبح معيارا بينما تنتشر الرذيلة السياسية وتصبح منهجا. ومن عادتي انني اراجع بعض المواقع الالكترونية بين فترة واخرى ومنها جريدة ايلاف لقياس مستويات تطور وعي الكتاب ووعي القراء الذين يردون ويعلقون. يهولني العنف الخطابي لدى الذين يتبادلون الردود. وتهولني القسوة من افراد طائفة ضد طائفة اخرى، وبالطبع تسمح ايلاف بذلك وتشجعه لانه ينعكس على العراق ويزيد في الانقسامات العراقية ويوترها اكثر. وبمناسبة العراق فان كل العرب لهم الحق في الحديث عن العراق الا العراقيين وكل العرب يختصون بقضايا بلدانهم الا العراقيين. فاللبناني والمصري والسوري والفلسطيني والتونسي والسعودي وغيرهم كلهم يدعون الى الندوات التي تناقش الشأن العراقي ويعطون آراءهم ويتنقدون الا العراقي فانه لايسمح له بالحديث عن اية قضية عربية تخص بلدا عربيا. حتى ثورات الربيع غير مسموح للعراقي ان يعطي بها رأيا.
الرمزية: المعصومية والخطأ
ليس من المستحيل ان يكون نائب رئيس الجمهورية ارهابيا، وليس من المستحيل في نفس الوقت ترتيب تهم بالارهاب لاقصائه. لكن المشكلة هي هذه: كيف نعالج الموضوع؟ حتى الآن لا يثق احد بالقانون. واذا امسكت القوات الامنية ارهابيا فسرعان ما نسمع تصريحات ان سبب الاعتقال طائفي. يقول ممثل للقائمة العراقية، (لايمكن اتهام الهاشمي بالارهاب لانه رمز من رموز البلاد). ماهذه الخرافات حقا؟ هاهو جاك شيراك الذي خدم فرنسا على مدى اربعة عقود واصبح رئيس جمهوريتها يقف امام القضاء ويتلقى حكما بالسجن لمدة ثلاث سنوات. وهو رمز قيمته في فرنسا اكبر من قيمة طارق الهاشمي في العراق بعشرات المرات. من اين جاءت عصمة الرموز هذه؟ اذن من اين لنا هذا الفساد وهذه الاختلافات القاسية والتهم المتبادلة والاستحواذ على حقوق المواطنين وحقوقهم في دولتهم ومواطنتهم. في محاكمة سقراط، والهاشمي ليس مثل سقراط، وجهت إليه تهمة الوقوف بعيدا عن الحياة السياسية للمدينة، أي عدم انضمامه للديمقراطيين الذين استعادوا الديمقراطية من دكتاتورية الثلاثين. وفي دفاعه الذي رواه أفلاطون استشهد سقراط بمثلين من أمثلة مشاركته بشؤون المدينة احدهما ضد الديمقراطية والآخر ضد دكتاتورية الثلاثين. فعن اي رموز مقدسة ومعصومة يتحدث السياسيون العراقيون؟
ماذا يعني ان نلقي بجميع اشكال المعالجات القانونية (وبعضها يحتاج الى تدقيق دستوري وقانوني) على عاتق الطائفية وعاتق الطائفة ايا كانت هذه الطائفة؟
يعني ان بعض السياسيين يحاولون توريط مذهب باعمال عنف لكي يحصدوا نتيجة سياسية لصالحهم بدون احترام سمعة ذلك المذهب واحترام مواطنيه.
هل حقا هناك إقصاء للسنة؟
انا اقول نعم هناك إقصاء للشيعة. والموضوع برمته لا سنة ولاشيعة ولا هم يحزنون. فكم من السنة استفاد وحصل على حقوقه من نضال وحكم السياسيين السنة؟ وكم من الشيعة استفاذ وحصل على حقوقه من نضال وحكم السياسيين الشيعة؟
الذين استفادوا ثلاثة أصناف: الأقارب وأفراد العائلة، أعضاء الحزب المطيعين، الذين اشتروا الوظائف والحقوق والصفقات والمقاولات بمبالغ نقدية أي بالرشى أو الرشاوي. فاين الهيمنة الشيعية واين التهميش السني؟
انها اكاذيب سياسية تستخدم للحصول على مواقع سياسية ونفوذ من الجميع. ولذلك فان موقف طارق الهاشمي من ابتزاز الحكومة بانضمام المسلحين هو موقف معروف منذ عام 2005 حين كان أمينا عاما للحزب الاسلامي. وحين اصبح نائبا لرئيس الجمهورية كان يتعدى صلاحياته او يذهب الى السجون ويطلق سراح معتقلين متهمين بقضايا إرهاب. انه ابتزاز يقود الى ردود فعل قد تستخدم الابتزاز نفسه بطريقة مضادة. ان استخدام الطائفية افاد كثيرا من الاحزاب الدينية من جميع الاطراف. وماذا استفاد الشيعة من الحكومة التي يطلق عليها الحكومة الشيعية او الحكومة الطائفية؟ فحتى مظلومية الشيعة تجلت عن حقوق طقوسية لا اكثر، يستطيع الشيعي ان ينوح ويلطم ويمشي الى كربلاء ويرفع الأذان في الحسينيات مضيفا ان عليا ولي الله، بينما مدن الشيعة مخربة تعاني من ابسط مستلزمات المدينة، فلا الشوارع جيدة التبليط ولا المجاري موجودة ،حتى ان اضرحة الائمة التي تضوع داخلها روائح الصندل والبخور محاطة بمجار مفتوحة كريهة الرائحة، وليس هناك كهرباء او تشجير او احياء سكنية جديدة،او مدارس مناسبة او مستشفيات بنظام صحي، ولا يستطيع شيعي في النجف او كربلاء او بقية المدن التي يقطنها الشيعة ان يستخرج بطاقة أحوال مدنية دون رشوة او ينجز ابسط المعاملات المشروعة في دوائر الحكومة دون رشوة، وملايين الشيعة بضمنهم الأيتام والأرامل والفقراء محرومون من حقوقهم وعادت النزعات العشائرية لتمزق العلاقات الاجتماعية وتنشر الذعر بسبب غياب القانون المدني وتفوق قانون العشائر حتى أن مبالغ الاشتراك بالديات أصبحت ترهق أفراد العشائر ذوي المرتبات البسيطة.
ان النظام العشائري في الواقع اقوى من النظام الطائفي في العراق اليوم. وسيكون من الخطأ الفادح اذا اقدم مجلس النواب على اقرار تشريع عن دور العشائر السياسي بحجة دورها الاجتماعي. ان العشيرة وحدة اجتماعية وتحويلها الى وحدة سياسية سيكون اخطر من الانقسامات الطائفية التي لاتوجد الا في الايديولوجيا السياسية سواء لدى القادة السياسيين او الافراد الذين يخلطون الطائفية بنزعة سياسية هي الصراع على السلطة.
العقل الانقلابي المتوتر
سأعطي امثلة شخصية من تجربتي، عن طريقة التفكير الانقلابي الالغائي والاقصائي الحامل للأزمات والمفجر للمشكلات والمآزق. لقد التقيت بالسيد صالح المطلك عدة مرات. استطيع ان اقول انه اقل ضرواة من صاحبه حيدر الملا. ورغم ان الملا يدعي انه شيعي ولكنه طائفي معاد للشيعة بطريقة صادمة. المطلك على ما يبدو غير طائفي ولا يفكر بعقل طائفي، لكنه سياسيا ينتمي لفكر انقلابي. وقد ورد في النظام الداخلي لحزبه أمران احترت فيهما. الأول: ان احد شروط العضوية عدم الإيمان بالفدرالية، والثاني هو الدعوة لتجنيد كل من بلغ الثامنة عشرة من عمره في الجيش وإعادة الخدمة الإلزامية للمواطنين. هذا يكشف في الواقع عن ترسبات فكر النظام المنهار.
حين كنت اسمع الملا كنت اسمع مع كلامه ضجيجا ينطلق من عضو ما غير لسانه. انه فكره الاقصائى الاجتثاثي. انه يتكلم ويخرج الكلمات بطريقة الصلي او الرمي بالجملة وليس طلقة طلقة. ويبدو انه مهووس بعداوة الآخرين حتى شعرت ان المطلك في الواقع حمل وديع بالنسبة لصاحبه، وربما لا يطيقه وانه مكره لا بطل في كون الملا (رفيقا) في حركته.
قبيل الانتخابات عام 2010 التقيت المطلك والملا امام فندق الرشيد. كان موعد الانتخابات مطروحا للتأجيل آنذاك. فوجئت بالملا يصرخ وهو يتحدث معي قائلا: لن نقبل بالتأجيل.. لن نتركهم يستغلون مناسبة الأربعين للانتخابات. فوجئت بان السياسة في العراق ما تزال عدوانية وهي تمضي لانتخابات سلمية. ان الديمقراطية في الواقع نظام اختلافات ونظام خلافات عكس الدكتاتورية التي لاتسمح بالاختلاف ولا بالخلاف. لكن الديمقراطية تحل خلافاتها سلميا. هذا هو كل الفرق بين الديمقراطية والدكتاتورية. لكن من يحل خلافاته في العراق ديمقراطيا.؟ وأكثر من ذلك من يتحمل الآخر بغياب ثقافة سياسية وتقاليد قانونية ووسائل دستورية
بعد إعلان نتائج الانتخابات أعطيت للحرة والعراقية وبعض الفضائيات تصريحا ليظهر مع الشريط الإخباري حول ضرورة اعتماد الوسائل السلمية لحل الخلاف الناشئ عن نتائج الانتخابات فأرسل لي الملا رسالة على الموبايل: أنت معهم أم معنا؟ هذا في الواقع اختصار مفيد للعقل السياسي العراقي. ليس هناك احتكام لعقل او دستور او حوار. والمشكلة ان كثيرا من القادة السياسيين ليس لهم تاريخ سياسي، وهذه مشكلة كبيرة جدا، اذا قلنا ان اغلب السياسيين ذوي التاريخ السياسي ما يزالون يفتقرون الى ثقافة سياسية سواء لادارة الدولة او ادارة العلاقات الوطنية او ادارة العلاقات بين السلطة والمجتمع.
لا اعرف طارق الهاشمي ولم التق به. لكن صديقا لي منذ ايام الجامعة اخبرني في بغداد العام الماضي انه كان جنديا في كركوك بعد تخرجه من الجامعة وكان آمر فوجه السيد طارق الهاشمي وربما كان برتبة رائد كما اخبرني الصديق. وصفه الصديق بانه كان طائفيا منذ ذلك الوقت حين كانت الطائفية عارا ولم تكن تشريفا لاحد وكانت مختفية، وانه كان يكره اهالي الجنوب، وكان صديقي بصريا يتلقى كره طارق الهاشمي باستمرار.
على الجانب الآخر دعيت مطلع عام 2007 إلى بغداد للقاء رئيس الوزراء. لا أتحدث عن الطريقة التي تمت بها الدعوة وطريقة الالتواء عليها. لكني أتحدث عن النتيجة: ما عرفته أن رأيا تكون لدى عدد من رجال مكتب الرئيس وأنا صديق لأكثرهم هو: أن نبيل ياسين غير إسلامي وبالتالي كيف يمكن أن يكون مستشارا أو قريبا من رئيس الوزراء. وبعد أسبوعين عدت إلى لندن دون أن اعرف ماذا كان يريد رئيس الوزراء الذي قابلته قبل يومين من عودتي دون أن نتحدث عن الدعوة لا أنا ولا هو.
هناك مصالح فردية وحزبية وعائلية وعشائرية ومناطقية تتلبس اردية ايديولوجية ومذهبية ودينية فتبدو وكأنها مصالح الجميع فيما هي مصالح ضيقة ومحدودة.
وإما بريء لكن التصرف أضاع فرصة البراءة
دعونا نعالج خطوة رئيس الوزراء بالمنطق والواقع. افترض افتراضين واحد منهما صحيح، الأول أن المالكي أراد تصفية خصومه بدون أدلة فبدأ بنائب رئيس الجمهورية. والثاني انه حصل على معلومات مسبقة، أو كانت (مجمدة) قادت إلى التحقيق مع حماية نائب رئيس الجمهورية وربما بعض هذه المعلومات كانت بحوزة القوات الأميركية مثلا.
لا اعتقد أن رئيس وزراء دولة يقدم على خطوة حاسمة ولكن ملفقة تهدد موقعه في وضع إقليمي ودولي معقد فضلا عن التعقيدات العراقية. فخطوة مثل هذه ستنقلب كارثة حتى لو (فبركها) امهر المستشارين، وهي غير مأمونة في نظام ليس دكتاتوريا بالكامل، ولذلك كنت اتفقت مع المطلك لو قال أن المالكي تنكر للشراكة الوطنية ويسعى للانفراد بالقرار (وهناك فرق بين القرار والسلطة. وغالبا ما يخلط الدكتور علاوي بين الاثنين) فليس بالضرورة أن يشترك جميع الحلفاء في السلطة بقرارات رئيس الوزراء الدستورية. لكن المطلك في تقديري (شتم) المالكي شتيمة كبيرة حين قال انه أسوأ من صدام. ولذلك جاء قرار إقالة المطلك، الذي كان عليه أن يستقيل ولا يعمل نائبا لشخص أسوأ من صدام، سريعا وحادا.
سيكون الافتراض الثاني أكثر منطقية بدليل أن نائب رئيس الجمهورية (فر) إلى أربيل وقرر البقاء هناك. طبعا الحجة واضحة وهي عدم ثقته بالقضاء العربي في العراق. وهاهو داعية من دعاة القومية العربية لا يثق بعدالة العراق العربي، ويطالب بتحويل قضيته إلى القضاء الكردي. تماما كما طالب مزاحم الباجه جي بالمثول أمام القضاء البريطاني في ثلاثينات القرن الماضي بعد انكشاف أمره بأنه كان وراء حملة المنشورات السرية ضد الملك فيصل الأول. هل يعيد التاريخ نفسه رغم فوارق كردستان عن بريطانيا ؟ قولوا انتم.
لماذا لا نناقش دستورية أو عدم دستورية الخطوة المالكية؟ لماذا نتحصن بالسياسة؟ لقد استمعت إلى مؤتمر صحفي للعراقية يطالب بمحاكمة الجميع منذ 2003 حتى الآن قبل البدء بمحاكمة نائب رئيس الجمهورية. هذا يعني أن القبض على مجرم في عصابة غير قانوني إذا لم يتم القبض على العصابة كلها ومن حق المجرم في عصابة أن يطالب ببراءته وإطلاق سراحه حتى يتم إلقاء القبض على جميع أفراد العصابة.
العقل السياسي العراقي عقل جمعي وإقصائي. والعراقيون يتنافسون بطريقة غير مشروعة، طريقة تسقيطية. فإذا دعا عراقي إلى تأسيس جمعية أو منظمة هرعت الأحزاب وجماعاتها لتأسيس منظمة أو جمعية مشابهة لمصادرة دور الأولى، وإذا أبدى احد أفكارا عملية تجاهلهتها الأحزاب وأتباعها وألقت عليها عباءة التناسي والنسيان وبعد أيام أو أسابيع طرحتها باسمها أو اسم احد أتباعها.
إذا كانت جمعية أهلية صغيرة تستدعي كل هذا التنافس فلماذا لا تستدعي السلطة اشد من هذا التنافس ويستدعي الحكم عنفا واستباحات للدم والعقل والوجدان والحقوق
ألا ترون أن جميع الكتابات لا تستشهد بشيء قيل أو كتب قبلها وإنما تبدأ من الصفر. ولا تحدد مشكلة وإنما تتحدث عن عموميات. ولذلك ليس لدينا تراكم وارث فكري وطني. يكتب احدهم عن مشكلة الثقافة أو الفن او السياسة لكنه يتحدث هكذا: يعاني العراق من مشكلات عميقة وهذه المشكلات مهمة وخطيرة وهي تؤثر على مستقبل العراق وقد كتب الكثير من المقالات دون أن تحل هذه المشكلات.
وإذا كتب عن المثقفين يكتب هكذا: للمثقفين دور أساسي في المجتمع ولكن المثقفين العراقيين تخلوا عن دورهم. وهكذا يصبح التعميم والكلام الإنشائي الطريق الأوحد.
العراق بلد بلا هوية اجتماعية وثقافية. هويته الوحيدة هي الهوية السياسية. وبموجب هذه الهوية يعيش العراقيون ويتزوجون، إذ يحصل الطلاق بمجرد أن يكون هناك اختلاف سياسي. ولدينا والله عشرات التجارب مع حزبيين تطلقوا لان الحزب أمر الزوج أو الزوجة بالطلاق لان الحزب لم يرض عن الآخر. هل رأيت شيوعيا تزوج بعثية؟ أو بعثيا تزوج شيوعية؟ وإذا حصل ذلك فان احدهما يجب أن ينقلب إلى حزب الآخر. واذا تراجعت الهوية السياسية فانها سرعان ما تتجلى في هوية سياسية أخرى تحول السنة إلى حزب والشيعة إلى حزب آخر.
زوجة معاوية تقلب فرحه بوفاة الحسن إلى مأتم
اختم بهذا من التاريخ :
حدث محمد بن جرير الطبري قال، حدثنا.. عن الفضل بن عباس بن ربيعة قال: وفد عبد الله بن عباس على معاوية. قال: فوالله إني لفي المسجد إذ كبّر معاوية في الخضراء (قصره في دمشق المسمى بالخضراء وليس المنطقة الخضراء) فكبر أهل الخضراء، ثم كبر أهل المسجد بتكبير أهل الخضراء، فخرجت فاختة بنت قرضة بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف زوجة معاوية بن أبي سفيان، من غرفة لها، فقالت: سرك الله يا أمير المؤمنين، ما هذا الذي بلغك فسررت به؟ قال: موت الحسن بن علي. فقالت إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم بكت وقالت: مات سيد المسلمين وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاغتم معاوية وبلغ الخبر ابن عباس فراح فدخل على معاوية قال: علمت يا ابن عباس أن الحسن توفي. قال ألذلك كبرته؟ قال نعم، قال أما والله ما موته بالذي يؤخر موتك ولا حفرته بسادة حفرتك، ولئن أصبنا قبله بسيد المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين ثم بعده بسيد الأوصياء فجبر الله تلك المصيبة ورفع تلك العثرة. فقال معاوية: ويحك يا ابن عباس ما كلمتك إلا وجدتك معدا |