يرتكز المنتظم الفقهي الشيعي الإمامي تاريخيا في تنّظيره على مبدأ المعارضة السياسية للسلطة القائمة,بوصفها كسلطة من مناوئي مبدأ الإمامة,والتي هي جعل إلهي لأهل بيت النبي محمد (ص),وعليه فكل المنتظم الفقهي الإمامي يتمحور وفق مبادئ المعارضة هذه,في هذه المقالة سوف أناقش قضية واحدة فقط من قضايا فقه المعارضة,وهي موضوعة المال المجهول المالك،والتي هي ونظيراتها تمثل واحدة من أهم الإشكاليات المعاصرة,في الفكر السياسي الإمامي,بوصفه من مخرجات هذا المنتظم,تكمن إشكالية مجهول المالك في كونها استُغلت لتأسيس منظومة فساد واسعة جدا,هذا الاستغلال كان من قبل (المتفيقهين ومتظاهري التدين أو المتدينين القشريين،ومتديني الاسلام السياسي),باعتبار أن المال مجهول المالك هو المال الخارجي الذي يعود لشخص مجهول,يذهب المنتظم الفقهي الإمامي إلى أن الدولة الظالمة لا تملك أي شيء,وكل ما تسيطر عليه هو داخل ضمن اللا ملك أي هو مجهول المالك,وعليه كل ما يؤخذ منها ينبغي أن يمر ضمن يد الإمام زمن الحضور,ويد الفقيه في زمن الغيبة بوصفه نائب عن الإمام,وعليه فكل ما يؤخذ من الدولة الظالمة بدون الرجوع إلى الوصفين السالفين يدخل ضمن اختلاط المال الحلال بالمال الحرام,والذي يوجب الخمس,باعتبار أن واحد من أبواب ما يقع فيه الخمس من الأموال,هو اختلاط المال الحلال بالمال الحرام,فتحت هذه المقولة الباب واسعا إمام تأويلات القشريين من المتدينين,والذين استلبوا المال العام بوصفه مجهول المالك,ليبنوا إمبراطوريات مالية مخيفة بطريقتهم في التأويل,والتي تقوم على أساس إخراج الخمس عند الاختلاط,وفق الفتاوى التي أتاحت لهم هذا السلوك,مما أثار الرأي العام ضد المؤسسة الدينية وضد رجالها,بوصفهم مسؤولين عن التنّظير الفقهي للمجتمع,وبما أن المجتمع العراقي في اغلبه مجتمع شعائري وعشائري,فكان من المهم إعادة النظر في هذه المقولة وفي غيرها,بل إعادة النظر بكل مباني الفقه الذي تشكلت بوصفه فقه معارضة,والذي من الممكن أن يبقى مستغلوه يعيثون فسادا في المجتمع,أن لم تتم معالجته جذريا,والأمر ليس صعبا أو مستحيلا,فالفقه نتاج بشري قائم على أساس قراءة النص من قبل الفقهاء,فبالنتيجة هو رأي غير مقدس وقابل للرد والنقاش والتغيير والتبديل والتعديل ..الخ...,ففي بداية القرن العشرين حدثت الحركة التي عرفت بالمشروطة في إيران,وأنقسم الناس في وقتها بين مؤيد ومعارض,وكان هذا الانقسام نفسه موجود في المؤسسة الدينية في النجف وإيران,فانبرى الميرزا محمد حسين النائيني,للدفاع عن المشروطة,من خلال مؤلفه ذاع الصيت,تنبيه الأمة وتنزيه الملة,اعتبر هذا المدون قفزة نوعية في الفكر السياسي الإمامي,إذ نّظر الميرزا للدولة الحديثة,متجاوزا كل الخطوط الحمراء,مغادرا بذلك منصة المعارضة إلى منصة بناء الدولة,وحدث الزلازل المدوي عام 1979م,بانتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الفقهاء والروحانيين،وعلى رأسهم السيد الخميني,لتغير وجه العالم,وليدخل الفكر السياسي الإمامي ومعه كل المنتظم الفقهي في مرحلة جديدة هي مرحلة بناء الدولة الشيعية,قاومت الحوزة الأم في النجف هذه المتغيرات ولا زالت تقاوم,ولكننا الآن إمام عهد جديد,فالتغيير في العراق عام 2003م لا يقل أهمية عن الثورة الإسلامية في إيران,فأغلب رموز السلطة الآن هم من الشيعة,والمؤسسة الدينية كمنتظم لها دور بارز في المشهد السياسي,ولها دور أيضا في بناء السلطة القائمة الآن,ومن هنا علينا أن نبني الدولة في العراق(بحسب التراتبية الزمكانية),وتحتاج هذه الدولة قطعا إلى فكر سياسي جديد وإلى منتظم فقهي جديد أيضا,فملكية الدولة الآن هي أساس في هذا المنتظم,بوصفها دولة تستمد شرعيتها من الشعب,وهو عين التنّظير الذي قام به الميرزا النائيني في بداية القرن العشرين,وبشيء مطور ومتقدم عنه( بحسب تقدم الزمان وتطور الحاجات وتكثرها) ما قدمه السيد علي السيستاني في بداية القرن الواحد والعشرين,كل هذه المتغيرات تدفع الآن باتجاه تغيير الفقه,من فقه المعارضة إلى فقه الدولة,فلا يمكن أن نسمح ببناء دولة يرتع فيها الفاسدين وبيدهم سلاح فتاك هو مجهول المالك,وغيرها من القضايا الفقهية الملتهبة والتي شكلت وجه الفقه أبان فترة المعارضة التي امتدت لفترة طويلة بلغت أربعة عشر قرنا,فالدولة الآن هي مالكة لكل شي,وملكها هذا يستمد من ملكية الشعب,أي,أن الشعب بوصفه مالك الأرض وخيراتها وبوصفه مصدر السلطات,أتاح للحكومات أن تدير هذا المال كممثلين عنه لا كوكلاء,وبالنتيجة فالشعب جهة معنوية لها وجود واقعي وحقيقي على الأرض,وكذلك الحكومة,فهاتان الجهتان هما المالك الأصلي والمالك المخول بالإدارة,فإذا حددنا ملكية الدولة من الناحية الفقهية,فسوف تكون هذه أول لبنة في بناء الدولة الحديثة في العراق,وأول لبنة في مكافحة الفساد بصورة كبيرة ومؤثرة,اعتقد أنه حان الوقت للانتقال من السلطة إلى الدولة,بعد أن تم الانتقال من المعارضة إلى السلطة,وبالنتيجة ننتقل من فقه المعارضة ,إلى فقه الدولة،،،
|