• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : الخطاب العراقي الرسمي بعد 2003 مشكلات وحلول .
                          • الكاتب : محمد عبيد الجوراني .

الخطاب العراقي الرسمي بعد 2003 مشكلات وحلول

باحث متخصص في الخطاب السياسي

 

     ليس الخوض في الخطاب السياسي بالسبيل الجديدة، لكنّ آليات مقاربته وزوايا النظر إليه هي المتجددة. وقد شهد الخطاب السياسي في العقدين الأخيرين اهتمامًا ملحوظًا من طرف محلّلي الخطاب الذين وظّفوا آليّات البحث اللساني والسيميائي والثقافي؛ للكشف عن أبعاد جديدة يختزنها الخطاب السياسي، من حيث انتظامه علامات لغويّة، وما يحف بها من علامات سيميائيّة، مثل الحضور الجسدي للسياسي، ولباسه، ومحمولاته، وإشاراته، ونبرة صوته، وعلامات التأثر على وجهه، والخلفية التي تحتضن خطابه، والسياقات التاريخية المتحكمة في أدائه، وأفكاره، ونوعيّة الجمهور المخاطَب، والوسائل التي اعتمدها ليؤثِّر في مخاطبيه. (1)

     وإذا كان مفهوم (الخطاب السياسي) مطروقًا، ومسألة استجلائه ليست بالعسيرة، فإننا هنا نصطدم بكلمة (الرسمي)، وهي مفردة مُحدِّدة، وتمثِّل إشكالية عميقة وجوهرية؛ إذ يمكن أن تُعبِّر عن الخطاب المتفق عليه، المعبِّر عن إرادة الدولة، والصادر من الجهات العليا المسؤولة عن سياسات الدولة، والمخوّلة بالتصريح باسمها، مثل رئاسة الجمهورية، ورئاسة الوزراء، ووزارة الخارجية. لكن هل يمكن وسم ما يصدر من أي مستوى من مستويات هاتين السلطتين بأنه (خطاب رسمي)؟. بتعبير آخر، هل ينحصر الخطاب الرسمي بما يصدر من المكاتب العليا من بيانات وتصريحات أم أن التسمية تنطبق على ما يصدر من عضو فاعل في مؤسسة رسمية معينة؟.

     وبعيدًا عن تلكما السلطتين، هل يمكن إدراج خطاب السلطة القضائية تحت عنوان (الخطاب السياسي الرسمي)؟. وهل إن مفردة (السياسي)، التي تعني في بعض جوانبها (المرونة، والدبلوماسية) تتفق مع الحتميّة والصرامة التي ترافق الخطاب (القانوني أو القضائي)؟.

     كذلك، هل يمكن إدراج خطاب السلطة التشريعية تحت مسمى (الرسمي)؟. علمًا أن الخطاب البرلماني يقف على الحد الفاصل بين خطاب السلطة؛ كون البرلمان إحدى الرئاسات الثلاث، وبين الخطاب الشعبي كون أعضائه ممثلين للشعب، متحدثين باسمه. تساؤلات عديدة تجعل من تعريف (الخطاب السياسي الرسمي) عمليّة معقّدة.

     ولمّا كان رسم حدود الخطاب السياسي الرسمي بهذا التعقيد، فإن ذلك يقودنا إلى الحديث عن حدود مفاهيمية مرنة، تيسِّر مسألة تأطيره تأطيرًا واقعيًّا؛ من أجل الانتقال إلى المرحلة التالية، وهي حصر مشكلاته، ومن ثم محاولة معالجة تلك المشكلات.

     ولكن قبل ذلك، لا بد من استعراض إشكالية أخرى تتعلق بهذه القضية، وهي خدعة المنصب الرسمي والمنصب الحزبي، فإذا كان الخطاب الرسمي هو الخطاب الصادر عن مسؤول رسمي معين، فإن ذلك المسؤول نفسه - أحيانًا – يذهب إلى التصريح بصفته الحزبيّة، كونه منتميًا إلى أحد الأطراف السياسية، فهل الخطاب في هذه الحالة رسميّ أو غير رسميّ؟. وهل هي حالة طبيعية أم تهرّب من المسؤولية، وتحرر من القيود الرسمية؟.      ما تقدّم في حقيقة الأمر يجعل الإشكالية قائمة، ويصعب الخروج منها.

     لذلك كله سيكون الخطاب السياسي الرسمي الذي نقصده شاملًا القادة، والمخولين بالتصريح، والأعضاء الفاعلين في العملية السياسية بشكل عام من جهة، وغير مقتصر على التصريحات والبيانات الرسمية – التي هي في حقيقتها بيانات مُنمَّقة لا تشف عن حقيقته– بل يشمل الخطابات الصادرة من الزعامات السياسية التي تقف على سدة الحكم في العراق، حتى إن كانت توصف بأنها صادرة بصفة حزبية، ما دامت تخص السياسة العامة للدولة، والشأن العام، لكي يتم قطع الطريق أمام الذين يتسترون خلف (صفاتهم الحزبية) من أجل تمرير رسائلهم وأجنداتهم الخاصة وهم جالسون على كرسي الحكم، ويستعملون آليات ومقدّرات الدولة، مثل مقر الإقامة التابع للدولة، وآلات التصوير وغيرها. فما دام السياسي في موقع الوظيفة الرسمية، فإن كل ما يصدر عنه يجعله في خانة المسؤولية الخطابية، وهذا برأينا من أهم ما يجب الانتباه إليه.

     كذلك يشمل (الخطاب السياسي الرسمي) الخطاب الصادر من السلطة التشريعية، فهو خطاب (سياسي) ما دامت تلك السلطة خاضعة إلى المحاصصة والتأثيرات الحزبية، وهو (رسمي) لأنه صادر عن مؤسسة رسمية. ونستثني خطاب السلطة القضائية لأنه خطاب قانوني قطعي لا يحتمل الجدل، ولا نستطيع أن نطبق عليه اشتراطات الخطاب السياسي وتكتيكاته ومناوراته.

     بعد هذا التأطير نقول: إن هبوط مستوى الخطاب السياسي الرسمي، وصيرورته جزءًا من المشكلة بدل أن يكون جزءًا من الحل، يؤدي في النهاية إلى انهيار منظومة إدارة الدولة؛ فلا شيء أكثر تأثيرًا على الواقع من لغة الخطاب، ولغة الخطاب ليست رموزًا تعبيرية مجردة، بل هي أفعال، لأنها في الواقع خليط من الأوامر والنواهي، والسماح والمنع، والتحفيز والتثبيط، والأمن والتهديد ... إلخ. فلغة الخطاب بإمكانها خلق جو يساعد على البناء والتقدم والتلاحم، وبإمكانها كذلك إثارة المشكلات، وتعكير الجو، وجعله غير صالح للبناء.

     وربما لا يمكن وضع ضوابط محددة للخطاب السياسي الرسمي، لكن يمكن الحديث عن مجموعة المحاذير، والإشارة إلى بعض الضوابط بالاستناد إلى معايير معينة مثل الدستور العراقي، ومتطلبات الواقع والعصر، وما عليه الخطاب السياسي في الدول المتقدمة ذات التجارب الخطابية الناجحة؛ من أجل التوصل إلى خطابٍ سياسي رسمي يؤدي دورًا إيجابيًّا في الداخل والخارج، ويسهم في تكوين مجتمع، مثقّف، متعاون، يشعر بالمسؤولية، وفي بناء دولة تتمتع بمكانة استراتيجية في خارطة المجتمع الدولي. وذلك من خلال عشرة محاور، تضمّ أبرز المشكلات التي يعاني منها الخطاب الرسمي العراقي.

أبرز المشكلات التي يعاني منها الخطاب السياسي الرسمي العراقي:

أولًا: عدم الاستقرار:-

     يلاحظ المراقب بشكل واضح اختلافًا كبيرًا في الخطاب السياسي عند تبدل القيادات. ويعود هذا الاختلاف إلى وجود خلل كبير في أسس النظام السياسي، وهو إن إدارة الدولة لا تنطلق من سياسة عامة مرسومة وفق استراتيجية ثابتة تؤمِّن التقدم السياسي التراكمي، بل إن إدارة الدولة غالبًا ما تتأثر بتوجهات وأفكار ونوايا الأشخاص الذين يقودون النظام، وهذا بدوره يؤدي إلى تقلّب وعدم استقرار في الخطاب، ترتفع نسبته في ظروف وأوقات معيّنة، مثل الفترة التي تسبق عملية الانتخابات التشريعية.

     إن الثبات المطلوب في الخطاب السياسي لا يتعلق ـ مؤكَّدًا ـ بالمتغيرات، والإجراءات الفرعية، بل المقصود هو ثبات السياسة العامة للدولة، بما تتضمنه من خطط استراتيجية، وتوجهات مستمدّة من تلك الخطط ومستندة إليها، بحيث لا يتأثر مسار الدولة بتغيّر الأشخاص، أو حتى تبدّل طاقم الإدارة بالكامل. وهذا يعني إنشاء نظام مؤسّسي يسير وفق منهجيّة مدروسة، ولا يكون رئيس المؤسسة أو المسؤولون فيها أصحاب سلطة مطلقة، بل يعملون بصفتهم موظّفين يؤدّون دورهم المرسوم لهم وفق أجور محددة، وصلاحيات مُثبّتة لا يمكن تجاوزها، مع وجود الشخص البديل والطاقم المُدرَّب المُؤهَّل لإدارة المؤسسة السياسية دائمًا. ويجب أن لا يتوقف عمل المؤسسة على شخص معيّن؛ كونها ليست ملكًا خاصًّا.

     وعليه تكون الثباتيّة (النسبيّة) في الخطاب الرسمي مهمّة لتوفير أجواء سياسية مستقرّة وغير مهددة بالانهيار في أية لحظة. فالخطاب الذي يخص العلاقات مع دول الجوار – على سبيل المثال - يجب أن يتمتع بثباتية فيما يتعلق بحسن الجوار وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وهذه الثباتية مستندة إلى المادة الثامنة من الدستور العراقي، التي تنص على أن " يرعى العراق مبادئ حسن الجوار، ويلتزم بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى"، لكن هذا الجانب لم يراعَ في أحيان عديدة.  

     وقد يُعترَض على هذا الكلام بأن استقرار الخطاب السياسي مرتبط باستقرار العملية السياسية، فهو غير مستقر لأن العملية السياسية غير مستقرة تمامًا. إلا أن هذا التبرير مردود لأن الفترة من 2003 ولحد الآن هي عقد ونصف من الزمن، وهي كافية لتحقيق الاستقرار السياسي لو تجرّد المشاركون في العملية السياسية من المصالح الفئوية والحزبية والشخصية، ووضعوا المسؤولية الشرعية والوطنية نصب أعينهم.

ثانيًا: التناقض:-

     يمثِّل التناقض بين التصريحات الرسمية والأداء الفعلي مشكلة معقَّدة، وتعقيدها نابع من جهتين، الأولى إنه تناقض واسع النطاق، والثانية إن صاحب الخطاب لا يأبه بكشف التناقض؛ لعدم وجود قانون يخص هذه المسألة.

     إن مبادئ الديمقراطية – وهي أهم وأخطر مثال على ذلك – لا يكاد يخلو منها خطاب رسمي، لكن الواقع على الأرض لا يؤكد ذلك. إن طبيعة التطبيقات الديمقراطية في العراق، كحرية الاعتقاد والتعبير، هي في الحقيقة تطبيقات شكلية، فالمظاهرات مثلًا مكفولة بالدستور والقوانين بشروطها وتعليماتها، وكثيرًا ما تحققت على أرض الواقع (تحقق الشكل)، لكن أغلب مطالب المتظاهرين ليست ذات قيمة حقيقية لدى السلطات، فتقام التظاهرات وتنتهي كهواء في شبك (عدم تحقق المضمون).

     ويظهر التناقض على مستوى التصريحات الرسمية في صور مختلفة، فمن المعتاد أن نجد عند تفحص الخطاب الرسمي ألفاظًا وعبارات من مثل (رعاية المواطن، والمصلحة العليا، والإنسان قيمة عليا ...إلخ)، ولكن في حقيقة الأمر وعلى أرض الواقع اعتدنا رؤية مواطن عاجز يظهر على إحدى شاشات التلفاز وهو يكفكف دموعه لأنه لا يملك ثمن العلاج، أو مواطن يسعى لإكمال معاملة التقاعد الخاصة به منذ بضعة سنين دون جدوى.

     ولا يعكس التناقض فوضى الأداء فحسب، بل يمكن وصفه بالكذب، لا سيما في حالة إخلاف الوعود في الإصلاح، تلك الوعود التي تنهال قبيل الانتخابات العامة من أجل كسب الأصوات، ويتجاوز الكذب إلى الحنث باليمين، عندما يتم القسم على السهر من أجل رعاية أمن وسيادة ومصالح البلاد، لكن أيًّا من ذلك لا يتحقق، ولسنا بحاجة إلى دليل أقوى من أن العديد من كبار المسؤولين لا يمكنه التجول في شارع من شوارع بلاده دون احتياطات أمنية مشددة، وأن كثيرًا منهم نقل عائلته للعيش في بيئة آمنة ومريحة خارج العراق، وبينما يعاني المواطن (القيمة العليا) من انقطاع الماء والكهرباء ونقص الخدمات المختلفة، يتمتع كبار المسؤولين بخدمات أساسية متكاملة (الأمن، الكهرباء، الماء، الوارد المالي المناسب، تسهيلات السفر، وسهولة إنجاز المعاملات والتواصل، عدم المعاناة من أزمة السير ...إلخ).

     كل ما سبق يؤدي إلى إضعاف الدولة، بسبب ضعف العلاقة بين السلطة والشعب، وانعدام الثقة بين الطرفين؛ فعندما يجد الناس عدم تطابق فعل الحاكم مع قوله فإن تأثير توجيهاته وخطبه عليهم سيكون ذا نتائج عكسية، إذ تنعدم المصداقية مع مرور الزمن. (2)

     إن عدم تطابق كثير مما يرد في الخطاب الرسمي العراقي مع الواقع المُعاش يمثِّل مشكلة كبيرة ذات أبعاد خطيرة على واقع ومستقبل العملية السياسية. وبتوصيف دقيق فإن عدم التطابق في حقيقته صورة من صور الكذب الصريح. وإذا كان ذلك (الكذب) يمكن تمريره في عصر ما قبل الإنترنت والفضائيات، فإن الانفتاح الإعلامي اليوم، ودخول الجماهير ذاتها في إدارة الإعلام العام من خلال مواقع التواصل، وقنوات البث الشخصي على الإنترنت، جعل الأمور كلها مكشوفة، وجعل مجرد محاولة إقناع الجماهير بذلك التناقض أمرًا غاية في الصعوبة.

ثالثًا: التناحر:-

     إن الصراع المعروف بين الأطراف المشاركة في إدارة الدولة نتيجة نظام المحاصصة انعكس سلبًا على الخطاب الرسمي كتحصيل حاصل. وبينما ينتظر المتلقي خطابًا رسميًّا خارجًا من مطبخ سياسي يعج بالحوارات والدراسات؛ ليضع له خطة سير وطنية، ويطمئنه على مستقبله، يُفاجأ بصراع خطابي مُعلَن بين الشركاء في إدارة الدولة، يتضمن اتهامات بالعمالة وضعف الأداء، وملفات إدانة، وغيرها.

     ويعمد المتخاصمون السياسيون الى تبادل الاتهامات التأديبية – التسقيطية بفضح عيوب (الآخر) ونشر غسيله الوسخ في الصحافة الفضائية خصوصاً باسم مكافحة الفاسدين او باسم (الشفافية) ، التي ضاع معناها وغرضها ومبناها في خضم معارك الخطب السياسية المتبادلة بين المتخاصمين المتنافسين على المنافع والامتيازات والمناصب وجني الأموال الخيالية من وراء هذا النوع من المعارك التافهة، القائمة على وسائل تعبير مريضة سيكولوجيا، مختزنة في لاشعور (الرجل السياسي) الذي لا يحمل أي تجربة سياسية واعية ورصينة. فلا نقد علمي أصولي، ولا فائدة يجنيها الشعب. والملاحظ هنا ان كل العواصف الخطابية تذهب بلا معالجة ادارية او قضائية. (3)

     وإذا اتفقنا أنه لا يمكننا الحديث عن علاقة مثالية بين أطراف العملية السياسية، فإن المنطق والعقل يفترضان أن يكون الصراع والتراشق بين تلك الأطراف في الخفاء، ولا يظهر للمواطن إلا الحلقة النهائية من الحوارات، وهي ما يتم الاتفاق عليه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يُفترَض أن يكون التناحر والتراشق ليس لأغراض شخصية أو حزبية، ولكن لمصلحة الوطن والمواطن.

رابعًا: التشتت:-

     كثيرًا ما يحدث أن تصرِّح جهة رسمية بما يخالف أو يتناقض مع تصريح جهة رسميّة أخرى، الأمر الذي يؤشر حالة من الفوضى الإدارية التي لا يمكن قبولها، فمنظومة الدولة ـ بجميع أقطابها ـ يجب أن تصب في النهاية في مصب واحد، هو خدمة المواطن، وبناء الدولة، بينما يؤدي تشتت الخطاب الرسمي إلى عكس المطلوب، ويوصل رسالة إلى الخصوم الدوليين أن النظام غير موحد، وغير مستقر، ويجعلهم يطمعون في التدخل واستغلال الموقف لصالحهم، وهذا ما يحدث بالضبط في الواقع.

     ويعود التشتت الخطابي إلى عدم وجود سياسة واضحة متفق عليها لإدارة البلد، وبالتالي فإن الأطراف المشاركة في العملية السياسية لا تمتلك التصور الكامل لسياسة البلد لتنطلق منها. كما يبرهن على أن تلك الأطراف لا تنطلق في خطابها من منطلق وطني رصين وإنما من منطلقات ضيقة تخدم مصالح شخصية او فئوية او عاطفية على حساب مصالح البلد . وهذه الاصوات غالبا ما تحدث نتائج سلبية على الصعيد الداخلي والخارجي يصل في بعض الاحيان إلى تجاوز طبيعة العلاقات الدولية، وإحداث حالة تشنج في العلاقات الدولية. (4)  

خامسًا: الجمود:-

     الخطاب السياسي حقل مثل بقية حقول العلم والمعرفة، خاضع لقانون التطوّر والتجدّد، وإذا لم ينخرط في هذه المعادلة، فإن مصيره الجمود، وبالمحصلة تخلّفه عن مسيرة العالم، وتصادمه مع التطور الحاصل في المجالات الأخرى، فمن غير المعقول ـ مثلًا ـ أن يخاطب النظام السياسي مواطنيه بأساليب خطابية قسرية تعود إلى عقود أو قرون ماضية، في حين يعيش العالم في ظل مفاهيم جديدة كليًّا، في عصر الديمقراطية، والحريات، وحقوق الإنسان، وانفتاح المجتمعات على بعضها، وتلاقح الثقافات. ستكون تلك الأساليب ـ بالتأكيد ـ مرفوضة تمامًا، وسيؤدي رفضها إلى إحداث فجوة كبيرة بين المجتمع والنظام السياسي، فيظل الأول (المجتمع) يتحيّن الفرصة لإسقاط نظامه واستبداله بآخر ينسجم مع تطلعاته.

     لقد كان المواطن العراقي بعد 2003م يترقّب مغادرة الخطاب القهري، وسماع خطاب سياسيٍّ جديد، ذي أبعاد إنسانية، وقانونية. لكن ما حدث بالفعل هو استمرار الخطاب السياسي بالجمود في بعض جوانبه، فلم يستطع التخلص من العنف الرمزي، أو الإقصاء والهيمنة، وانحدار جوانب أخرى منه إلى قاع المراوغة، والكذب، والطائفية من أجل استقطاب الجماهير.

     ويبدو أن الخلل في هذه القضية الجوهرية يكمن في أن السياسيين ومن يحيط بهم من مستشارين وإعلاميين، لا يعيرون مسألة الخطاب السياسي اهتمامًا يتناسب وحجم تأثيره في المجتمع، فنجدهم مستعدين للحديث في أي وقت، وحول أي شيء، دون إعداد، ودون دراسة وتحليل مسبق لانعكاسات ذلك الخطاب على الواقع، وردود الفعل الشعبية.

     ويبدو أن كثيرًا من أولئك لا يدركون مدى تأثير الخطاب في صياغة العلاقة بين النظام السياسي والشعب، تلك العلاقة التي يجب أن تكون سليمة، كضرورة من ضرورات الحفاظ على أمن وسلامة البلاد. فالخطاب السياسي نظام فكري يجب أن يكون منسجمًا مع النظام الاجتماعي القائم، بتوجهاته، وأفكاره، وتطلعاته، داعمًا لحقوق المواطنين وحرياتهم.

     وهذا النظام الخطابي الفكري لا يقتصر في الدول المتقدمة على تطوير أساليب مخاطبة الجماهير، بل يتعدّى ذلك إلى تطوير الثقافة السياسية الجمعيّة؛ لأن النظام السياسي المسؤول عن عملية تطوير نظام الخطاب – في تلك الدول- ليس في محل صراع مع الشعب، وليس في موضع خداع كلامي من أجل الاستمرار في كسب التأييد والالتفاف، بل هو يقوم بعملية بناء وتطوير مستمر للدولة، بما في ذلك تطوير النظام السياسي وأدواته، ومن بينها الخطاب السياسي.

     وبالتالي فإن نظام كهذا لا يخشى من ازدياد ثقافة الشعب السياسية، وتطور حقل نقد الخطاب السياسي. على عكس الأنظمة السياسية الشرق أوسطية التي ترفض من الأساس وضع الخطاب السياسي موضع الدراسة والنقد والتطوير، لأن ذلك سيؤدي إلى كشف الحيل اللغوية التي يستخدمها الخطيب السياسي، وتعرية خطابه، وكشف ما فيه من زيف وتناقضات.

سادسًا: الطائفية:-

     اكتسحت ظاهرة الطائفية الخطاب السياسي العراقي منذ 2003، وأصبحت بعد مرور مدة قصيرة مسألة طبيعية لا تثير أية حساسية في نفوس المتلقِّين رغم خطورتها، والأدهى من ذلك أنها أصبحت جزءًا من النظام السياسي، ومرتكزًا للدعاية الانتخابية والحزبية من أجل استقطاب الجماهير، دون النظر إلى النتائج الكارثية المترتبة على هذا الخطاب، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى.

     وبالرغم من " خفوت حدة الخطاب الطائفي في العراق خلال العامين الأخيرين، فإن موسم الانتخابات البرلمانية في العراق شكّل لبعض الأحزاب السياسية ومرشحيها فرصة مناسبة لإعادة إحياء هذا الخطاب لتحقيق مكاسب انتخابية؛ فقد تحولت جدران الشوارع إلى ساحة لعرض مئات الآلاف من اللافتات التي تُعرِّف الناخبين بسبعة آلاف مرشح، وظّف بعضهم مع بدء الحملة شعارات تحمل بعدًا دينيًّا ومذهبيًّا لعلّ وعسى أن تنجح في استمالة الناخبين". (5)

     إن تجاوز ظاهرة الخطاب السياسي المتطرف مهمة جدًّا لخلق بيئة سياسية وطنية، تحتضن الأفكار البناءة، والمشاريع الوطنية. وفي كثير من الدول كالولايات المتحدة الأمريكية وسويسرا وجنوب أفريقيا وغيرها من الدول ذات الطابع التعددي، أصبحت قوتها في تعدد الجماعات فيها، إذ استطاعت قياداتها السياسية أن تخلق أجواء من الحرية والديمقراطية والتسامح والتعايش القائم على الأسس الوطنية بعيداً عن الانتماءات الأثنية الضيقة. ويمكننا الاستفادة من تلك التجارب في إعادة بناء المنظومة الفكرية والثقافية عبر زيادة الوعي السياسي والاجتماعي والفكري لدى أبناء المجتمع، من خلال إبراز قيم الوسطية والاعتدال، وترسيخ مبادئ الحوار الديمقراطي واحترام الرأي والرأي الآخر. (6)  

     ربما حققت بعض الزعامات السياسية مكاسب آنية من خلال الخطاب الطائفي، بالاستفادة من التفاف جموع كبيرة من الناس حولها، مستغلة جهل وعاطفة تلك الجموع، لكن النتائج التي ترتبت على ذلك الخطاب كانت ـ ولا تزال ـ نتائج كارثية بالمعنى الحرفي للكارثة، وقطعًا سترتد تلك النتائج على صاحب الخطاب كتحصيل حاصل؛ لأنه جزء من المجتمع.

     إن الوعي الجماهيري اليوم بدء بتضييق الخناق على الخطاب الطائفي، بعدما تيقّن بما لا يقبل الشك أن تلك الاستراتيجية الخطابية من أكبر الخدع في التاريخ السياسي، وهي وسيلة للربح لدى أصحاب الخطاب الطائفي، من خلال الحصول على مناصب ومواقع مهمة في الدولة.

     وبناء على ذلك لم يتبق أمام تلك القيادات التي لا تزال متمسكة بالخطاب الطائفي إلا العدول عنه إلى خطاب ذي أبعاد وطنية شريفة، يجمع ولا يفرق، يبني ولا يهدم، ويزرع في الأجيال الحاضرة والمستقبلية روح المواطنة، وحب العمل والإبداع، وإلا فإن تمسك البعض بذلك النوع من الخطاب سيؤدي في النهاية ـ حتمًا ـ إلى انهيار الدولة.

سابعًا: الانفعالية والعنف الرمزي:-

     بسبب الأحداث السياسية والأمنية السريعة والمتلاحقة، والإرباك الذي تسبب به انهيار منظومة الدولة إبّان الغزو الأمريكي للعراق، أصبح الخطاب السياسي في جانب من جوانبه أشبه بردود أفعال سريعة باتجاه تلك الأحداث، ما أدى بالتالي الى عدم مروره بمرشِّحات يمكن أن تنظمه وفق آليات العمل السياسي المعروفة، وهذا بدوره أدى إلى أن يكون الخطاب معبرًا عن انفعالات ناتجة عن توتر العلاقة بين الاطراف السياسية، ما أدى إلى زيادة التعقيد، وشحن الشارع الشعبي الى مدى تصعب السيطرة عليه.

     وخطورة الخطاب السياسي الانفعالي تكمن في دعمه لتكوين صور ذهنية لدى الجمهور إزاء الطرف الآخر، وبالتالي يعزز المشاعر المتوترة، ويصعد الصراع السياسي، ويحوله الى الشارع، بما يعزز روح الكراهية بين مكونات المجتمع، وخلق اجواء متوترة يمكن خرقها بسهولة لتنفيذ مشاريع تعمل على تجزئة المجتمع وتحول الصراع من مواجهة العدو الخارجي الى اقتتال داخلي يكون الجميع خاسرًا فيه. (7)  

     وهنا يفقد السياسي زمام الامر بعد ان اوقد جمرة الكراهية لتتحول الى حريق هائل لا يكتفي بالتأكيد بحرق منازل الآخر (العدو المفترض) بل يمتد لمديات لا يمكن التكهن بها، وهذا ما حدث بالفعل في العراق حين فقد الساسة زمام الأمور، وأصبح الشارع هو من يحركهم لا العكس، وبالتالي أصبحوا يعدُّون مسألة الخروج عن رؤية الشارع وخطابه الانفعالي تؤدي الى فقدانهم الامتيازات التي حصلوا عليها بموجب الانتماءات الطائفية والعرقية المتحكمة بنتائج الانتخابات النيابية. (8) 

     إن من ضرورات الخطاب السياسي الناجح إشعار المواطن بالأمان بأقصى درجة ممكنة، من خلال استراتيجيات خطابية أبرزها الابتعاد عن العنف الرمزي، المتمثِّل بلغة التهديد والوعيد التي تقابل الفوران الشعبي على سبيل المثال. فالتصعيد اللغوي في خطاب التظاهرات الجماهيرية يعود في الحقيقة إلى عوامل اجتماعية مثل البطالة ونقص الخدمات، وعدم الإحساس بالأمن، الأمر الذي يُفترَض أن يُقابل بخطاب تهدئة من قبل النظام السياسي، يحمل معالجات حقيقية وممكنة تُطرَح على الجماهير الغاضبة.

ثامنًا: الاتجاه الواحد:-

     لا يرى بعض أصحاب الخطاب السياسي في الساحة الخطابية سوى معسكرين خطابيين (نحن وهم)، فمن يوافق خطابه فهو في معسكر (نحن)، ومن يخالفه فهو في معسكر (هم)، وبالتالي لا يمنح صاحب الخطاب السياسي ذي الاتجاه الواحد الآخرين فرصة للحوار، ويقوم بإقصاء الخطابات الأخرى، ولا يتقبل النقد والتحليل؛ فهو يعد خطابه الحقيقة المطلقة التي لا تحتمل الجدل.

     إن المشكلة الخطيرة التي يعيشها المجتمع العراقي تتمثل في أن القيادات الحاكمة التي كان من المفترض أن تقود التغيير بعد 2003م، لم تكن قادرة على استيعاب الحالة الجديدة بكافة تداعياتها وحيثياتها، وتميزت بسيادة عقلية الأنا ورفض الآخر، فكل طرف من الأطراف يحمل في عقليته فكراً أحادياً تجاه الطرف الآخر، بمعنى أن كل طرف يرى أنه يمثل الخير والآخر يمثل الشر، وأن خطابه الفكري والسياسي غير قابل للنقد. ولا شك فأن هذا الفكر اليقيني المطلق في أحد دلالاته هو فكر إمحائي يقصي الآخر، ولا يحترم خصوصياته. (9)  

     وقد أثبتت طبيعة الخطاب الموجه إلى المتظاهرين في العراق أن الخطاب الرسمي العراقي لم يستطع التحرر من اليقينية التي رأيناها في الخطب الرئاسية العربية، فقد اعتادت تلك الخطب " أن تمزج بين الخطاب السياسي والخطاب الإلهي، فكلاهما يقدّم عالمًا منسجمًا واضحًا، فيه إله وأنبياء وحواريون مطلقو الخيرية، وفيه أيضًا شياطين وكفرة لا يصدر عنهم إلا كل شر، ولا ينفكون يفسدون (أو يحاولون إفساد) العالم الخيِّر الذي يؤسسه الأخيار. التاريخ يبدأ مع بدء الرسالة (الإمساك بمقاليد السلطة)، فما قبل الرسالة (الولاية) جاهلية ( أو إرهاصات)، وما بعدها هو الخلافة (التوريث)، أو القيامة (الفوضى أو الدمار أو الحرب الأهلية...)". (10)  

     ومع أن الخطاب ذي الاتجاه الواحد (من السلطة إلى الشعب) يمكن أن يحقق أهدافه في السيطرة لمدّة معيّنة، إلا إن خزينًا من الغضب الشعبي المكبوت ينشأ ويتضاعف ـ بالتزامن مع حالة القهر ولجم الحريّات ـ ثم ينفجر في توقيت مُبهَم، وأمثلة ذلك كثيرة في عالمنا العربي الذي شهد انفجارات شعبيّة كاسحة.

ويتفق المحللون المحايدون أنه كان بالإمكان خطاب السلطة احتواء المظاهرات قبل مسيل الدماء، بتصريحات سياسية منطقية، تعالج الموقف، وتخاطب الناس بصراحة وعن قرب، وتستقبل – بجديّة – الاتجاه الثاني من الخطاب (من الشعب إلى السلطة)، كل ذلك بالتزامن مع إجراءات عملية على أرض الواقع، لكن مواجهة الحكومة لتلك المظاهرات بخطاب العنف والتحدي أدى إلى تعقيد الموقف وتأزّمه.

تاسعًا: الصياغة القانونية:-

     لمّا كان الخطاب الرسمي ذا مساس بحياة الناس ومصالحهم العليا، فإن لغته يجب أن تكون بعيدة كل البعد عن العبثية، بارتكازها على أسس قانونية، وعدم تعارضها مع الدستور والقوانين النافذة والسياسات العامة للدولة.

     ومع الحاجة أحيانًا إلى شيء من العبارات الشعبيّة أو الأدبية لترطيب الخطاب السياسي، إلا إن ذلك ينبغي أن يكون بقدر معين؛ لأن المبالغة في هذا الأمر قد تؤدي إلى توليد مصطلحات وعبارات عشوائية، ربما تتسبب بانحراف خطير في العملية السياسية، وفي علاقة الحاكم بالمحكوم.

      وعليه فإن توخي عدم الخروج عن الدستور والقوانين النافذة في الخطاب السياسي قضية جوهرية لا يمكن الحياد عنها في أية حال من الأحوال، وتحت أي ظرف من الظروف؛ لأن عدم التزام الخطاب السياسي - لا سيما ذلك الصادر من قمة الهرم - بالقانون يؤدي قطعًا إلى زعزعة ثقة الناس بالسلطة، وعدم احترامهم للدستور، واللجوء إلى مؤسسات مجتمعية تمتلك قوانينها الخاصة للاحتماء بها، مثل مؤسسة العشيرة، أو المجاميع المسلحة. وإذا كان الخطاب السياسي بهذا القدر من التأثير، ينبغي أن يكون أكثر انضباطًا من أي خطاب آخر.

عاشرًا: العلاقة مع العالم المحيط:-

     لا شك في إن أية دولة في العالم اليوم هي جزء من المنظومة الدولية، وعليه فإن السياسة الخارجية يجب أن توضع بدقة، وتسير بحذر، يجاريهما دقة وحذر في الخطاب السياسي. وعدم مراعاة ذلك قد يجر البلاد إلى أزمات شديدة.

     فالخطاب السياسي الخارجي إذن، يجب أن يكون خاضعًا لقواعد الدبلوماسية الدولية، ما يستوجب أخذ الحيطة والحذر في هذا الجانب لاستقصاء المعلومات، والتأكد من صحتها، والدقة في تنسيقها، وهو ما يتطلب بالضرورة الإحاطة بالاتفاقيات والمعاهدات الدولية. وكل ذلك يتطلب ذكاءً ولباقة، وانتهاج أخلاقية تتلاءم مع الظروف، وتوافق أمزجة الدول الأخرى، من أجل إقناعهم بما يجب عمله دون فرض أو قوة أو وصاية. (11)

    وفي الختام، لا يمكن الحديث عن الارتقاء بالخطاب إلا باشتراطات معينة، ربما أبرزها تعاون الأطراف السياسية جميعها من أجل إنجاح هذه المهمة، وذلك بتقديم المصلحة الوطنية العليا على أية مصالح فردية أو حزبية؛ فالمواطنون في الداخل (الوضع الداخلي)، والأنظمة والشعوب في الخارج (الوضع الخارجي)، تتأثر بشكل كبير بالخطاب الصادر عن النظام الحاكم (الأطراف السياسية المشاركة في إدارة الدولة)، فيتم التعامل مع الدولة وفق ذلك، فوحدة الخطاب، والمصلحة الوطنية، والطرح المتوازن، والثبات الاستراتيجي، كل ذلك سيُقابَل – بالتأكيد- باهتمام واحترام دَولييَن.

 

الهوامش:

(1) محمد صالح البوعمراني، الاستعارات التصورية وتحليل الخطاب السياسي، دار كنوز المعرفة، ط1، عمّان 2015، ص7.

(2) موسى فرج، قصة الفساد في العراق،  دار الشجرة، ط1، دمشق 2013م، ص13.

(3) جاسم المطير، نرجسيّة الخطاب السياسي بين الجهل والصراخ والمزاج، صحيفة  الصباح الجديد (الملاحق)، 18 مايو، 2016م.

(4) عبد الكاظم محمد حسون، أين نحن من وحدة الخطاب السياسي العراقي؟، صحيفة الزمان الدولية، 9-1-2016م.

 (5) الجزيرة نت، الانتخابات العراقية .. موسم الهجرة للخطاب الطائفي، د. ت.

(6) سليم كاطع علي، الاعتدال السياسي منهج لتصحيح وتقويم العملية السياسية في العراق، مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية، 11- 4- 2017م.

(7) نزار السامرائي، الأساس القانوني لعقوبة السجن مدى الحياة في التشريع العراقي، وكالة الصحافة المستقلة، 14/08/2018م.

(8) المصدر نفسه.

(9) سليم كاطع علي، الاعتدال السياسي منهج لتصحيح وتقويم العملية السياسية في العراق، مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية، 11- 4- 2017م.

(10) عماد عبد اللطيف، بلاغة الحرية: معارك الخطاب السياسي في زمن الثورة، دار التنوير، ط1، بيروت 2012م، ص93.

(11) قاسم خضير عباس، المبادئ الأولية في القانون الدبلوماسي، ط1، دار الرافدين، بيروت 2009م، ص16.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=129112
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2019 / 01 / 09
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29