• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : غُربــــــــاء .
                          • الكاتب : ستار عبد الحسين الفتلاوي .

غُربــــــــاء

    كانت المقبرة غافية , تنتظر نفخة بوق اسرافيل , كي ينثر شوفان الروح على أوردة الموتى حتى تحيا 0 شعور بالغرابة والاندهاش , إنك تعيش في عالم وسط بين عالمين ! 
  عالمنا يحتاج دائماً إلى شواخص جديدة يؤطر بها قبور الأحبة 0 
  هل يمكننا تقبل الحقيقة المرعبة لما يكمن تحت القبر ؟ 
   بالطبع لا , لذلك لا نفكر كثيراً في هذا الأمر 0 نتشبث بذكرياتنا عن وجوه موتانا , ونحن نعلم إن الأرض أكلت محاسنهم , وأحالتهم تراباً !
   قلت أهمس بوجه هواجسي : الجسد ثوب الروح ، الذي لابد أن تتخلص منه لتتحرر من قيود الجاذبية ، ومن قيود أخرى نحن نلفها حولنا مثلما تفعل دودة القز 0 
  إيماننا بماديات عالمنا بنعومة خيوط الحرير 0 نحتاج دائما إلى أبعاد واضحة ، طول وعرض وارتفاع 0 أما حين تختفي هذه الأبعاد ، فـنشعر بهشاشتنا وضعفنا ، فقط لطافة الروح تكسر حواجز عالمنا 00 تنطلق بنا نحو عالم أكثر كمالاً من ضعف الأجساد 0 نخفي موتنا تحت جلدنا 0 نردد في احايثنا إن الجسد سجن الروح ، شئ ما في داخلي يجعلني لا اصدق ذلك 0 اعتقد أنها مرحلة انتقالية تؤهل أرواحنا لعالم أخر ، قد يكون أكثر جمالاً أو قد يكون أكثر قبحاً0 
   أرواح الموتى تقف على شفا حفرة 00 تنتظر قيامتها 000
   انظر بعينين ما زال فيها شئ من النعاس ، القبور عارية ، يجلد ظهورها الصمت والوحدة وتسف عليها ذاريات الريح غبار القدم0
  الأرواح الشاردة تحاول العودة إلى قبورها قبل طلوع الشمس 0
  كنت متأكدا إن الأرواح لا يحق لها مغادرة قبورها إلا ليلة الجمعة 00 تذهب ملتحفة ً صمتها ، وترتدي كفنا شفيفا ً كما هي غير مرئية 0 تحدقُ بوجوه أهلها ،  وتتزود منهم الصدقة والفاتحة ، ولكن إذا غلف أهل الميت النسيان  رجعت روحه منكسرة ، يحدوها أمل إلى جمعة أفضل 0
  وصلت على دراجتي إلى البوابة الرمزية للمقبرة 0 على أنك تستطيع الدخول من إي جهة شئت ، فالسور ليس متكامل ولا يحيط بها من كل الجهات  0
البوابة مفتوحة تطل عن شارع عريض يشطر المقبرة إلى قسمين 0
القبور مرتمية على يمين الشارع وشماله ، وعلى امتداد البصر0 لم يكن ثمة احدُ في المكان ، ومكاتب الدفانين مغلقة0
ليس هناك حارس ، فالموتى لايحتاجون إلى من يحرسهم 00 لايملكون مقتنيات ، ولا يستطيع احد أن يسرق صحائف إعمالهم 0 
الشارع يمتد إلى نهاية المقبرة حتى لا تكاد ترى نهايته 0 
أشجار الكالبتوس العالية تنمو بضراوة ، لقد امتصت رحيق ارض الموتى المغذي ! تتوزع مكاتب الدفانين على الجانبين ، وقد عُلقت عليها لافتات كتبت بخطوط رديئة 00 مكتب الحاج فلان الفلاني وأولاده 00 
أسير قليلا ً لعل أحدهم يستوقفني ، ويقول لي : إلى أين أنت ذاهب ؟ 
لكن أحدا ً لم يستوقفني 0 تواجهني لافتة أخرى كتب عليها 00 مستعدون لدفن الفقراء مجانا ً 0 أدير أضواء  دراجتي إلى الجهة الأخرى ، فأقرأ لافتة مكتوب عليها 00 يتشرف السيد (خادم الموتى) بإعلامكم إن بإمكانكم تغليف قبور موتاكم بالمرمر المطعّم ، اتصلوا على الأرقام  التالية 00 أرقام موبايلات مكتوبة بالأحمر والأزرق 0 
تناثرت هنا وهناك بعض الشواخص الجاهزة ، وأنواع من اللبن الذي يشرج مع الميت عند دفنه 0 أبحث عن مكتب الحاج عبود الدفان ، تمنيتُ أن أجده ، فأنا في كل مرة أضيع قبر أمي 00 ثمة متغيرات تحصل دائما ً 00 هناك ساكنون جدد وشواخص ترتفع 0
الفقراء تكون قبورهم منخفضة في الأغلب ، أما قبور الأغنياء والمتنفذين فشواخص قبورهم عالية ، تزينها الآيات القرآنية والزخارف 0
سرت رعشة خوف في كل جسدي 0 تذكرتُ أنني وحدي في مقبرة0 
قلت اطمئن نفسي : لماذا أنت خائف ؟ 
الموتى مسالمون 0 فقدوا شرورهم يوم جفت عروقهم 00 أنت من يمتلك القابلية على الشر والأذى 0
تمنيتُ أن انزل عن الدرجة ، قبر أمي مازال بعيدا ً0 توقعت أن أزيز محرك الدراجة سيوقظ الموتى 0
كلا إن نومهم أعمق من ذلك 0 فقط صوت من العالم الأخر يؤثر فيهم 0
يظنون أنهم مايزالون في عالمنا ، وإمامهم تفتح أبواب إلى عوالم مخفية لاتصلها خيالاتنا 0 
ينتصب أمامي بئران ارتوازيان ، وفوق  كل واحد منهم مضخة ماء يدوية 0 
قلت : كيف يستخدم الدفانون هذا الماء ؟ إن أخر عروق الموتى قد نزفت فيه ؛ 
الدفانون قساة ، وقلوبهم ميتة ُ 0
أخيرا ً وصلتُ إلى العلامة التي حددتها كي أستدل بها 00 غرفة ُ مهجورة كسيت جدرانها الخارجية بالكاشـي 
الكر بلائي ، وفوقها بنيت قبة زرقاء صغيرة 0 كانت الغرفة في السابق مغتسلا ً للموتى 0
تصورت أن عيونا ً تترصدني من ظلمتها ، بدأت الخيالات التي يغذيها خوفي تصورلي أن يدا ً طويلة تمتد لتخنقني 0
ولجتُ في شارع فرعي ترابي ، في الحقيقة لم يكن ترابيا ً فيما مضى 0 سمعتُ أنه كان معبدا ً بالكاشي الملون ، ثم فى إحداث التسعينات استحكمت فيه دبابات النظام ، فأحالت شوارعه إلى حطام من قطع متناثرة على جانبيه0 هل كانوا يخافون ثورة الموتى لسوء الأوضاع المعاشية ؟! 
ألان وبعد حفنة من السنين على تغير النظام ، لم يتغير شئ 0 بقيت المقبرة ُ على حالها 00 لا أحد يهتم باحترام كرامة الموتى ، لأن كرامة الإحياء لازالت مهدورة 0 صرخ أحد الموتى مشيرا ً إلى الأفق : الدبابات قادمة 00 سيهدمون السراديب على رؤوسنا 00 سيقتلوننا !! 
ضحكَ الميت المجاور له ُ وقال : لقد قتلونا سابقا ً ، لا  اعتقد أنهم سيقتلوننا مرة ً اخرى 0 قلت : على العموم الموتى  لايحتاجون إلى طرق معبدة ليمشوا عليها   *   *   *   *   *
    اسندتُ دراجتي الى شاخص احد القبور 0 تركت مصباحها مضاءا ً بشكل يواجه قبر أمي 0 قرأت الفاتحة ، وأنا أشعر بخجل في داخلي 0
  قالت : لاتخجل 0 اعلم بمتاعبك 00 أشعر بأوجاعك ياولدي 0 
  قلت : أمي مازالت الدنيا تدير وجهها عني 0
  قالت : يجب أن تتقبل حياتك كما هي 00حافظ على ايمانك أن حياتك ستتغير 0 
  صاح الساكن الجديد المجاور لقبر أمي : هل انت اعمى ، إنك تدرس على قدمي ؟ ! 
  نظرت اى قطعة الرخام الملونة الملقاة على تراب القبرالذي مازال رطبا ً 00 الشهيد المرحوم (00000) استشهد 
  بتاريخ 00000 اثر تفجير ارهابي 0 
 همست امي : مسكين هذا الشاب ، دفنوه مُقطع الاوصال دون تغسيل ، حتى أنهم لم يجدوا يديه 0 نساعده نحن الموتى القدماء على الجلوس في قبره في بعض الاحيان 0 لم يألف المكان بعد ولم يفهم لعبة الحياة والموت 00 يشعر بنفسه غريبا ً عنا 0 داستنا الحياة مرارا ً ولن يكون هناك ضرر اذا داستنا الاقدام ونحن اموات 0 
 جلستُ بجانب القبر ووجهي تلقاء القِبلة 0 قرأتُ سورة القدر سبع مرات ، وأهديتُ ثوابها لروح أمي 0 قالت : لاتخف عليّ ، أنا لست وحدي 00 أزور أباك أحيانا ً ، وهو يزورني لكنه ضعيف 00 روحُه مثقلة رغم طيبة قلبه 0 
الموتى يتكئون على مرافقهم ، يضعون رؤوسهم بين أيديهم ، وفي عيونهم نظرة حالمة0 ذهبت الى دراجتي 0 أحضرت سندانتي الورد ، واحدة ذات أوراد صغيرة بيضاء ، والثانية أورادها حمراء 0 وضعت واحدة عن يمين القبر ، والاخرى عن يساره 0 
قلت : انتظرت حتى تتفتح اورادها 0 
قالت : لا زلت تتذكر أني أحب الورد ؟ 
قلت : وهل نسيتُ حتى أتذكر ؟ كيف أنسى أنك كنت تنامين جائعة كي نشبع أنا واخواتي ؟ كيف أنسى حرقتك عليّ وأنا عاطل عن العمل في تلك الأيام الكالحة ؟ 
قالت المرأة ذات القبر المتهدم : هنيئا ً لك ، أنا لم يزرني أحدٌ من أولادي منذ سنة 0 قالت أمي : لا تنصت لها أنصت إلي صوت أعماقك 0 أحب أن أسمع صوتك وأنت تقرأ القرآن 0 
 جلست قبالة القبر ، مسحت جبهته وقبلتها 0 قرأت سورة تبارك ، فهدأت الأرواح ، وأغفت تتوسد احزانها0 
 هاجمني شعور غريب بالتعب والخدر 0 مددتُ قدمي ، واتكأتُ على شاخص القبر تراقصت أمام عيني الحشرات الطائرة في عرس مفاجئ ، تحتفي بضوء مصباح الدراجة 0 انزلقت في النوم العميق دون المرور بمراحله المعتادة 0 وجدتني أقف على مرتفع من الأرض 0 يمتد أمامي جسر حجري بعرض متر واحد ، أتتبع امتداده إلى حيث بيت من الطين فوق وادٍ صغير تسعر فيه النيران 0 
 كان الجسر يمتد إلى سطح البيت 00 اقتربت أكثر دون أن أحرك قدمي 0 أصبحت الأشياء أكثر وضوحا ً ، كأن عدسة مكبرة قرّبت المنظر 00 فضاء مفرغ من الحركة ، اللون الأسود يسيل كالحبر على طرفي المنظر 0 
رأيت أمي تعبر الجسر بخطوات متسارعة 0 تنظر نحوي ، كأنها تعلم بوجودي 0 
 قالت : لا ينكسر قلبك عليّ ، أنا بخير ، أذهب لترى أباك ، هو بحاجة إليك 0 شكلها لم يتغير ؛ نحافتها ، جبهتها العظمية العالية ، عظام وجنتيها البارزة جلدها الأبيض اللامع 00 نظرتها الحانية ، أعطتني قليلاً من الدفء والألفة 0 
 كنت اعلم إنني في حلم ، ورغم ذلك يراودني إحساس بالخوف ، يجعل إطرافي ترتعش 0 حاولت أن أكلم أمي 0 لكن صوتي ضاع مني 00 شئ واحد أثار استغرابي 00 كانت أمي ترتدي ثوبا ً أسودا ً قصيرا ً قلت : أمي لماذا ترتدين هذا الثوب ؟! 
لم يبدو عليها أنها سمعت كلامي 0 فرشت سجادتها وبدأت تصلي 0 عبرت الجسر , وأنا خائف ان ينهار بي 0 وجدتُ ابي ممددا ً على فراش بسيط 0 فرح بحضوري في مساحة الحلم المشتركة 0 عانقته ، وشعور بأن اعضاءه ستنفرط إذا ضغطت عليه اكثر00 جسمه رطب ، ويرشح من وجهه عرق بارد 0 
قال : أنا متعب ياولدي ، حاول أن تنقلني من هذا المكان 0 مسحت بقع حبات عرق توقفت فوق حاجبيه 0 لم يستطيع أن يحرك يده ليفعل ذلك 0 شعرت أنه مخدر بفعل ألم غريب 0 رأيت في عينيه نظرة ً مسالمة ، وسكونا ً عجيبا ً يبيح عقلي لاسئلة ليس لها جواب 0 غصة مؤلمة تضغط قلبي 0 نشف ريقي 00 تحجرت الكلمات في فمي 0 
تمنيت كثيرا ً أن أرى ابي ، وانتظرت ، وها أنا أراه بعد سنوات متطاولة قرب قبر رفيقة دربه 0 نحتفظ لموتانا بصورتهم المثلى 0 أبي يتمدد هنا وحيدا ً 00 شاربه الخفيف 00 قسمات وجهه الغارقة في الشجن 00 سمرته الداكنة التي ورثتها منه 00 شعره الاسود المجعد لامجال للشيب فيه 00 لحيته التي بدت كأنها حلقت للتو 0 
 كان يحلم أن تكتمل يوما ً فيتركها دون حلاقة خلال إجازته 0 لم تكتمل لحيته ، ولم يعد 0 اصر على الغياب أم ىاستعجلة القدر ؟ رحل بدون وداع 0 هزّ الموت شجرة الاسماء 0 سقطت ورقة أبي 0 رحل يطوي سنوات عمره الاربعيين 0 كان الموت يترصده عند ناحية الليل 0 سخر من الموت 00 اشعل سيجارته ، ووقف ينتظر 0 لم يكن انتظاره طويلا ً 0 قعرّ الموت وجهه برصاصة قناص ، فسقط دون حراك كأنه لم يكن 0 
 أكلتنا حرب الثماني العجاف ، وتجشأت ألما ً طويلا ً ، دموعنا تخرق خدودنا ، وملحها يتكلس في العروق 0 العيون شاخصة 00 تنتظر موتها الوشيك 0 اصبحنا يتامى عن الاحبة 0
أكاد اختنق ، وريقي ناشف 00 لاماء في صحراء الاسئلة 0 سطح مهجور وظلال سوداء 0 اتمنى لو أصحو من حلمي 0 تمتدُ يد أبي وتلا مس يدي 0 تقول عيناه : 
 اذهب ياولدي ، واتركني لقدري0 
حلمي اصبح طويلا ً اكثر من قدرتي على احتماله 0 أفيق وابي يهمس لي : 
- لا تقتل الرجل انه بائس 0 
افتح عينيّ ، وكأني نمت دهرا ً 0 رجل هزيل يشهر سكينة في وجهي في لمحة خاطفة ، اكتشفت ارتباكه 00 رايت ارتعاش يده التي تمسك السكين 0 فهمت من حركة فمه أنه يقول : أخرج ما في جيوبك بسرعة ، واعطني مفتاح الدراجة سأقتلك إن لم تفعل 0 
بقيت على سكوني 0 قلت بعيني : لن أفعل 0 تحسست يدي حديد المسدس البارد 0 رصاصة واحدة أباحت سكون الموتى 0 هرب الرجل ، وهو يصرخ كالمجنون : رحمة ُ لموتاك لا تقتلني 00 أتوسل إليك لدي خمسة أطفال أعيلهم 0 
قلت : عليك اللعنة ، قبل قليل كنت تريد قتلي ، وألان تتوسلني 0 أخرجتني من الصفاء الروحي ، الذي كنت أعيش فيه 0 
راقبته يتعثر بالقبور 00 يسقط 00 ينهض 00 يهرول برجل عرجاء كأنها أصيبت أثناء تعثره 0 يتهاوى به أحد القبور القديمة ، والتي غالبا ً ما تكون فارغة من الداخل ، ينزل في القبر حتى كتفيه 0 رأسه يبدو مثل قرعة كبيرة ، يداه تلوحان في الفراغ كأنه يغرق 0 
 رق قلبي لحاله ، وقد طارت عيناه من الفزع 0 اجتمع عليه خوفان 0 خوف مني أن أقتله ، وخوف من أن يبتلعه القبر 0 
قلت له : تتجول بين القبور قبل شروق الشمس ، وتخاف من القبر أن يبتلعك وانت حي ! قال بمسكنة : أرجوك ساعدني على الخروج 0 
قلت : سا ساعدك ، ولكنك ستبقى هكذا حتى تعرف أن الله حق 0 مددت يدي إلى جيبي ، وأخرجت ورقتين من فئة خمسة ألاف دينار ، ووضعتها في يده 0 نظر الرجل في وجهي ، وهو غير مصدق 0 
قلت : هذه لأجل عيالك 0
اشتعلت بعض الأضواء قرب البوابة ، عرفت أنهم استيقظوا على صوت أطلاقة مسدسي 0 عدتُ إلى قبر أمي 0 تلوت الفاتحة ، وأشعة الشمس تسارق اللحظات للظهور 0 أعادني أزيز دراجتي إلى الواقع 0 الرجل يأس من مساعدتي له ُ ، فأعتمد على نفسه للخروج 0 رمقته بطرف عيني 0
قلت : لن يعضك الميت ! سحقت بقايا عظيماته 0 ليث في حفرته أحقابا ً تحميه هذه القشرة التي كسرتها 0 أبحت خصوصية الميت إلى عبث الريح 0 صرخ الرجل خلفي : احدهم يجر برجلي 000
أوقفت دراجتي التي صنعت خيطا ً من الغبار 0 قلت : تخلص من خوفك وستخرج 0 أصبح زعيق أبواق السيارات مسموعا ً بشكل واضح ، وهمهمات غير مفهومة لا ناس يتحدثون 0 الخيالات 00 الصور المموهة لأشباح الموتى تلاشت 0 لقد أنهى الموتى سياحتهم في عالم الأحياء 0 شواخص متربة من قرميد وحجر هي التي بقيت 0 وأنا ما لازلت اسحب خلفي خيط غبار دقيق من ذرات أجساد الموتى 0 
زكمت أنفي رائحة القِدم المتراكمة0 قراءة أسماء الموتى تورث النسيان 0 تحاشيت النظر بصورة مباشرة ، كابدت فضولي في النظر إلى الشواخص الجديدة المتكاثرة0 
قلت أحدث نفسي : لابد أن نغمض أعيننا ، وننقض على ميتنا مثل الحدأة ، حين تنقض على فريستها 0 
اقتربت من الشارع العريض الذي يشطر المقبرة 0 طالعتني الغرف والسراديب المهدمة ، التي ضربتها الدبابات في الماضي 0 حيطان تقشرت أصباغها 00 بقيت نتف من الآيات القرآنية 00 ذكريات الجنود 00 رموز وحداتهم العسكرية 00 ف 3 ل 1 س ت مش آلي 00 ق ق ح ج 0
قلت : حتى الموتى لم يسلموا من بصمة على جباههم 0 أسمع شهقات امرأة مختنقة بدموعها 0 كومة عظام متشحة بالسواد تحتض شاخص القبر 0 وحيدة 00 متروكة 0 تركها الزمن في احدى محطاته 0 فوق القبر باقة أس يابسة 0 فترت كومة العظام عن الانين 0 نزعت يديها عن احتضان القبر 0 قرأت اسم الشاخص 00 المرحوم الشاب 00 الذي أستشهد إثر تفجير إرهابي 0 التفتت المرأة ناحيتي ، وتفرست في وجهي 0 باغتتني بصيحة موحشة ثم سكنت 0 
قالت : (( يمه تعوفني وأنت بعمر الورد 0 يمه أنت تروح واني ابقى 000)) انهمرت دموعي دون وعي مني 0 بكيت لأجلها ، لأنها ذكرتني بأمي 0 بكيت على أبي بكيت كل احبتي الذين رحلوا 0 
نزلت عن الدراجة 0 وقفت قريبا ً منها 0 تمتمت من بين دموعي بالفاتحة0 
تمسكت المرأة بقدمي قالت : (( يمه وليدي راح مني )) 
قلت : ادع ِ له بالرحمة ، ربك أرحم به 0
قالت : (( يمه وليدي راح غفل مني 0 دفنوا قميصه في القبر ، قالوا هذا قبر ابنك )) 0
قلت: الله الذي خلقه أولى به 0 
قالت : (( يمه روح أريد الله يحفظ شبابك )) أردتُ أن انتشلها من حزنها ، ولكن بأية وسيلة ؟ لا حيلة لي في  الأمر ودعتها ، وأنا اسمع أنينها مثل ترنيمة ٍ تتوالى باستمرار0 
يواجهني الحاج عبود الدفان ، جالسا ً على دكة حجرية ، أمام الغرفة التي يسمونها مكتب الدفان 0 قلت : (( عشنا وشفنا حتى الدفانين صارت لهم مكاتب !!)) 0 
قال بمزاج رائق : تفضل ابني استريح ، وتناول الفطور معي ، قيمر عرب وصمون حار ، وشاي مهّيل 0
اطفأت محرك الدراجة 0 وقفت أمامه ، مستغربا ً من أناس يتناولون فطورهم وسط القبور ، وأهات الموجوعين0 
- السلام عليكم حاج عبود 0
- وعليكم السلام ، تفضل 0 
جلست ، لكي التقط أنفاسي بعدما مرّ بي 0 
قال الحاج عبود ، وهو يزدرد لقمة ً غمسها في صحن القيمر : 
- تتصور اني نسيتك أو نسيت قبر الموحومة والدتك ؟ 
لا أجد ما أجيبه به 0 فأنا لا أمتلك إجابة لجملة تبدأ بكلمة (تتصور) فهل هي استفهام أم هي استغراب من تصوري المفترض ؟ وماذا يعنيه إن كنت أتصور أولا أتصور ؟ 
قال : تعرف اعمالنا كثيرة ، ولكننا لا ننسى زبائننا 0 
أدهشتني كلمته الاخيرة ، فلا أظن احدا ً يحب أن يكون زبونا ً عند دفان ! 
قال وهو يحتسي جرعة كبيرة من الشاي : 
- الدفانون لديهم ذاكرة عجيبة كما تعرف ، سمها نباهة توارثنا ها عن إبائنا 0
نظر في وجهي شبه مستنكر ، لعدم مشاركته الكلام ، ثم أردف قائلا ً : 
- (( مد ايدك ووجب الزاد))0 
- والله ماعندي نفسُ تشتهي الزاد 0 
- بالله عليك ، اشرب كوب شاي إذن ، شاركني 0
نظرت جهة الآبار على جانبي الشارع 0 وقفت يده التي تحمل اللقمة ، في منتصف المسافة 0 فهم الرجل ما يدور في ذهني 0 
قال : لا اطمئن ، هذا الشاي صنعته بيدي من المياه المعبأة 0 كن واثق من ذلك 0
اخرج قنينة ماء ، أشار اليها بغمزة من عينه ، كمن يخرج بضاعة مفقودة 0 تناولت كوب الشاي ، وشربت منه بضع جرعات على غير رغبة ٍ مني 0
قال : سمعت صوت الاطلاقة ؟ 
- نعم سمعتها ، أظنها صدرت من طرف المقبرة 0
نظر في وجهي مندهشا ً 0 كان يتوقع إجابة اكثر دقة ، اكثر تحديدا ً ، أن اعترف له بأني صاحب الاطلاقة ، باعتباري الزائر الوحيد في هذه الساعة 0  
- عموما ً ، خير إن شاء الله ، لكن دعني أوصيك بشئ بحكم خبرتي 0 لاتدخل المقبرة قبل طلوع الشمس ، ليس لا نها موحشة ، ولكن لا نها خطرة ، وقد تتعرض للاذى أو للتسليب 0 
- ياحاج الحافظ هو الله 0 
- نعم ، أنا معك ، الله خير حافظ ، ولكن لا بأس بالحذر ، قد لا تصدق إذا قلت لك إن جرائم قتل حصلت فيها 00 اتذكر مرة ً وجدنا فتاة مقتولة وبقربها قناني خمر فارغة والعياذ بالله ، أتدري أين ؟ 
لم ينتظر جوابي ، فهو سأل السؤال ليثير فضولي ثم يطلق عليّ طلقة الرحمة 0 
- رأيت الغرفة عند الاستدارة ، أكيد رأيتها قرب قبر المرحومة والدتك ، بالضبط وجدنا الجثة فيها 0
- طيب والشرطة مادورها ؟ 
- دورية الشرطة تأتي أول الليل ، ثم حين يملون ، ويتأكلهم الخوف من وحشة المقبرة 0 يحركون سيارتهم ويذهبون 0 أنت تعلم اغلبهم صغار في السن يخافون التجوال في المقبرة 0
- وانتم الدفانون ، لماذا دكاكينكم مغلقة ، عفوا ً أقصد مكاتبكم ؟ 
- في الايام العادية يبقى أحد الدفانين خفرا ً ، تدري واحد أهله مستعجلون على دفنه أو أثنين أولا يجئ احد ، أما ماحدث البارحة فمختلف 0
- ماذا تعني بمختلف ، فالموت هو الموت في كل وقت : 
- حين يكون الموت بالجملة ، لابد أن يكون مختلفا ً ، إنه كارثة 0
- كارثة !
عدّل جلسته ، وثنى ساقه تحت جسده 0 شعر بأنه وصل بفضولي الى الحد الاقصى وحصل على كامل انتباهي 0 عندها بدء بسرد حكايته : 
- البارحة ليلا ً ، جاءونا  بمائة جثة 0 قالوا إنها لشهداء مغدورين وطبعا ً ، ليس لديهم عناوين أهلهم ، كأنهم خلقوا بلا أهل 0 بربك أسمعت بهكذا مصيبة ؟ مائة إنسان فأرقوا الحياة ، ولم يسأل عنهم أحد !
وزعوا الجثث على الدفانين ، وكانت حصة كل مكتب عشرين جثة 0 لذلك كما ترى لم يبق احد من الدفانين ، فقد عملنا لساعة متأخرة من الليل 0
- أما عمك ( حجي عبود ) فقد بقي في المكتب 0 قلت للأولاد والعمال أن يذهبوا كي يرتاحوا 0 المسألة كما ترى ليست سهلة 0
كانت بعض الجثث متجمدة ، والظاهر انها بقيت فترة طويلة في ثلاجة الطب العدلي 0 تركناها فترة معرضة للهواء لكي تصبح مرنه ، حتى يتمكن من إنزالها في القبر 0 
توقف عن الكلام ، وارتشف جرعة من شايه ، الذي اصبح باردا ً0 
امتقع وجهه 0 قال : 
- مرت على عمك الكثير من الحوادث 0 عشت عمري كله دفانا ً ، لكن لم يخطر ببالي يوما ً أن ادفن الناس بالجملة 00 بدون القواعد المتبعة في دفن الجنائز 0 لا ناس تشيع الميت 00 لا نساء تبكي 0 ماتوا وحدهم ، ودفنوا وحدهم كأنهم غرباء 0 
قلت اقطع كلامه الذي أوجع قلبي : غرباء ! وهل تعتقد أننا نحن الإحياء أقل غربة منهم ؟ ! 
كيف لا يدفنون مثل الغرباء ، في وطن يستمرئ بعذابات أهله ؟ 
أشار ( حجي عبود ) الى جهة من المقبرة  0 تبعت عيناي اشارته 0 قال : 
- لقد زرعناهم في تلك الجهة 0 لا أسماء ولا عناوين على شواخصهم 0 اكتفينا بترقيم القبور من واحد الى مائة0 
- قد يأتي يوم لا نجد مكانا ً ندفن فيه ، والأسوء أن لا نجد من يدفننا 0 عجزت الكلمات أن تكون ذات جدوى0
تركت الحاج عبود يجتر صمت القبور 0 شعرت برغبة في البكاء 0 انطلقت على دراجتي ، وما إن عبرت البوابة ، التي تفصل بين الاحياء والاموات 0 اطلقت العنان لدموعي كي تغرق احزاني 0 في وطن له طعم الفجيعة ، ومذاق الحنظل 0

كافة التعليقات (عدد : 1)


• (1) - كتب : مهند البراك ، في 2012/01/07 .

صديقي الرائع ستار

لقد اجدت في السرد

شكرا لك



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=12912
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 01 / 06
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28