• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : وهم الطاولة الأولى .
                          • الكاتب : نادية مداني .

وهم الطاولة الأولى

 راح يراقب عيونهم بنوع من الرتابة وأنامله تحاكي أزرار قميصه الأخيرة ، يسرع مهرولا نحو مؤخرة القسم الذي التصقت بجدرانه خزانة خشبية مهترئة شهدت احدى المعارك الطاحنة بين دفاتر اللغة الفرنسية واللغة العربية ، يخرج منها  مذكراته التي تآكلت لأن بعض من السنين لعبت برقتها فبدت خشنة الملمس باهتة اللون تقزز الناظر إليها بعين التأمل ، يزمجر بصوت أشبه بنزلة رعد على أرض منسية ليلفت انتباه أحد تلاميذه الذي غاصت أرجله ويداه لالتقاط ما ضاع منه من أدوات تحت طاولة زميله وفي تلك الرحلة الشتوية يحظى بنوع من الراحة وهروب مؤقت من جو الدرس الذي كانت بدايته تنبئ بملل عجوز يلتحف سنوات الضياع وتعانق ركبتاه بطنه المنقرض ...فيسرع التلميذ بسحب رأسه لكنه يصدم بحافة الكرسي ويطلق صراخه الذي بدا كعويل ذئاب في البرية تستعد لتنأى عن مكان لا نجاة فيه..
يتقدم المعلم نحو المكتب.بخطى انتحارية يسحب الكرسي بعنف ويجلس ويرمي بكتبه وأوراقه بانفعال ،ويطلب من تلاميذه بفتح الكتب  والقراءة الصامتة  ويطلق العنان لكسله ويعطي الفرصة لرأسه كي يأخذ إجازة طويلة بعيدا عن  أصوات التلاميذ التي تشبه نقر الطبول بمسمع عجائز القرية الهاربة من ضجيج المدينة ،لكنه يحس بوقع أقدام لشخص لطالما عانى الكثير من اجل تذكر ملامحه لأنه لم يصادفه منذ سلمه أوراق العقد ومعها جبروت الإمضاء
ينهض بنشاط ويطلب منهم استخراج كتب الرياضيات يسارع التلاميذ باستخراج الكتب وألسنتهم لا تمل ولا تكل ففي تلك اللحظة ربما تسرد روايات وقصص ومغامرات ، وماهي إلا ثواني وضعت الكتب  على الطاولات مفتوحة على صفحة التمارين والتلاميذ يطالبون بإلحاح الذهاب للسلة لتجهيز قلم الرصاص وهناك يتم اللقاء والقضاء على شبح الوحشة وأحيانا تتعب أرجلهم الصغيرة من الوقوف فيجلسون بهدوء ويمارسون طفولتهم...والمعلم يهجم على السبورة بالطلاسة فيغتصب براءتها ويكتب تاريخ اليوم على مسمع من تلميذ يجلس الطاولة الأولى... يدق باب القسم فيتنافس التلاميذ بإخبار المعلم بهذا الحدث الفظيع يفتح أحدهم الباب بأمر منه فيخال نفسه ارتقى لرتبة ضابط في الجيش ويرجع مكانه ولمسة من الغرور والزهو تعلو ملامحه بشغب لطيف ليجد المعلم نفسه وجها لوجه مع أحد أولياء التلاميذ ،ضخم الجثة عريض المنكبين سميك الحاجبين عطره يغزو هواء الصف   فيقض على آخر ذرة فيه
وساعته الذهبية التي تلبس معصميه تكفي  لفتح جمعية .... أناقته وربطة عنقه تدعوا نظراتك لحفلة على سطح سفينة لا ترى أجواءها إلا في أحد الأفلام المبالغ فيها ...يطلب بصيغة الأمر من المعلم أن يغير مكان ابنه الذي يجلس الطاولة الثانية إلى الطاولة الأولى ودون أن يتم كلامه يرحل ذلك الطفل صاحب النظارتين السميكتين والقامة القصيرة بنفسية قائد معركة يرفع راية الاستسلام...
بعدها بأيام يتحصل تلميذ الطاولة الأولى  على أعلى المعدلات بينما يسقط معدل التلميذ القصير... وينخفض مستواه وينحط انحطاط الدولة العثمانية  في زمن المماليك...والأغرب في الأمر أنها نفس أسئلة الامتحان الأول...لكن التغيير حدث فقط في المراتب ...أعني الطاولات...
 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=13047
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 01 / 10
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29