• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : المرحلة الحرجة .
                          • الكاتب : ساهر عريبي .

المرحلة الحرجة

تمر العملية السياسية الجارية في العراق  اليوم بمنعطف حرج هو الأخطر منذ ولادتها قبل قرابة التسع سنوات بعد أن إحتلت القوات العسكرية الأمريكية البلاد وأطاحت بحكم الرئيس السابق صدام حسين. وتنبع  خطورة هذا المرحلة من تظافر عدة عوامل داخلية وإقليمية ودولية وضعت العملية السياسية الهشة في بغداد على فوهة بركان ملتهب يغلي ولن يكون أحد في المنطقة بمأمن من حممه إن ثار.وقبل الدخول في سمات وظروف  هذه المرحلة التي تعتبر مرحلة إنتقالية أو برزخ بين مرحلتين  لابد من إستعراض تأريخ العملية السياسية والمراحل التي مرَت بها.  
 
فالعملية السياسية مرت ولحد الآن بمرحلتين وتجتاز في الوقت الراهن مرحلة مؤقتة وهي على أعتاب الدخول في مرحلة رابعة هي الأدق والأكثر حساسية من اللاتي سبقتها. فالمرحلة الأولى الأولى بدأت بعيد  سقوط النظام السابق يوم التاسع من نيسان من عام 2003 وكان أبرز سماتها الأحتلال العسكري الأمريكي للعراق وماترتب على هذا الأحتلال من فقدان للسيادة وحل للأجهزة الأمنية والعسكرية وعودة لفصائل المعارضة العراقية السابقة من المهجر لتتولى بعض مقاليد الحكم في بغداد فيما عرف بمجلس الحكم الأنتقالي تحت سلطة الحاكم الأمريكي بول بريمر ومن قبله جي جارنر.لقد تميزت تلك المرحلة بوضع أسس المحاصصة الطائفية والقومية منذ أن تم تشكيل مجلس الحكم والتي أصبحت قواعد ثابتة تتحكم بالعملية السياسية وإلى اليوم.
 
واما السمة الثانية لتلك المرحلة فكانت الأرهاب وماعرف بالمقاومة ولقد تزامن ذلك مع حضور لافت لتنظيم القاعدة الأرهابي  في العراق والذي وجد فيه فرصة سانحة لتصفية حسابات هذا التنظيم مع امريكا , فيما إرتأت الأخيرة أن تجعل العراق ساحة جذب للأرهاب العالمي إستدرجت إليها هذه القوى لتغرقها في المستنقع العراقي. وأما دول الجوار القلقة من التغييرات التي جرت في العراق وخاصة بعد أن طرحت الولايات المتحدة الأمريكية مشروع الشرق الأوسط الكبير, فكانت هي الأخرى تعيش هاجس الخوف من الجماعات الأرهابية ومن التغيير, ولذا فقد سهلت هذه الدول عبور تلك الجماعات الأنتحارية للعراق لتضرب عصفورين بحجر واحد . فمن ناحية تتخلص تلك الدول من شرور تلك الجماعات بعد أن أصبحت عبأ عليها و لعرقلة عملية التحول الديمقراطي في العراق والقضاء عليها من ناحية أخرى لظن معظم هذه الأنظمة بأن التغيير سيطالها إن نجحت التجربة الفتية في العراق. فيما أرادت بعض الدول الأخرى تحويل العراق إلى ساحة تصفية حسابات مع أمريكا لتحقيق مكاسب سياسية.
 
إلا أن التنظيمات الأرهابية حولت بوصلة معركتها مع الأحتلال الأمريكي إلى حرب شرسة مع الشعب العراقي  حيث إرتكبت مجازر مروعة بحق الأبرياء وحاولت وبكل الطرق إدخال البلاد في أتون حرب أهلية طاحنة ولم تترد في إستخدام كافة الوسائل الأجرامية لتحقيق أهدافها مدعومة من مشايخ الأرهاب التكفيريين الذين أصدروا الفتاوى التي تبيح قتل العراقيين تحت ذريعة مقاومة الأحتلال. ولقد تمادت تلك الجماعات في إرهابها فأستهدفت الأسواق والمناطق السكنية والمدارس والمراقد المقدسة في محاولة يائسة لأشعال فتيل حرب طائفية, وخاصة بعد تفجير المراقد المقدسة في سامراء وبعد فاجعة جسر الأئمة. لقد ولدت هاتين العمليتين الأرهابيتين ردة فعل شديدة أدت إلى تشكيل الميليشيات المسلحة التي إنجرت للأقتتال الطائفي فكانت الميليشيات المسلحة السمة الثالثة التي طبعت تلك المرحلة.
 
وأما الميزة الرابعة  لتلك المرحلة فكانت إنكفاء المكون السني عن المشاركة في العملية السياسية الأمر الذي مكن ألمكونيين الأخرين وأعني الشيعة والأكراد من لعب دور محوري في توجيه مسار العملية السياسية والأمساك بزمام السلطة. لقد أحدث هذا الأنكفاء خللا كبيرا في المعادلة السياسية نظرا لأهميةهذا المكون الذي لعب وطيلة قرون دورا أساسيا في إدارة دفة الحكم في بغداد زهرة الحضارة الأسلامية والعربية.لقد وفر هذا الأنكفاء بيئة حاضنة للتنظيمات الأرهابية في بعض المناطق العراقية.
 
وأما ماميز تلك المرحلة أيضا فهو تصدي المرجعية الدينية في النجف الأشرف ممثلة بالمرجع السيستاني لممارسة دور إرشادي وتوجيهي للعملية السياسية, فقد أصر المرجع الديني على إجراء الأنتخابات في أسرع وقت ودعا إلى التصويت على الدستور فيما لعب دورا محوريا في جمع الفصائل الشيعية المتنافرة تحت راية واحدة هي الأئتلاف العراقي الموحد الذي فاز بأول إنتخابات نيابية حرة في تأريخ العراق. ولايمكن إغفال دوره الكبير في منع إنزلاق البلاد إلى حرب طائفية طاحنة كانت على وشك الأنجرار إليها.
 
وأما الميزة السادسة التي طبعت تلك المرحلة فكانت التدخلات الأقليمية والدولية في الشأن العراقي وأضحى كل مكون يحظى بدعم من طرف إقليمي أو دولي.فالشيعة الذين عانوا من القمع والأضطهاد ومنذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة وجدوا في إيران التي آوت فضائل المعارضة الشيعية السابقة  خير سند لهم وأعتبروها عمقا إستراتيجيا لهم رغم علاقاتهم الطيبة بأمريكا الغريم التقليدي لأيران.فكان الدور الأيراني دقيقا في تلك المرحلة , إذ كان يلزم على إيران أن تفشل أمريكا في العراق من ناحية خوفا من جنوح أمريكا لأرتكاب عملية مشابهة في إيران مع تواجد القوى العسكرية الأمريكية على مرمى عصا من الحدود الأيرانية. ومن جهة أخرى فكان لزاما على إيران دعم القوى السياسية الشيعية المشاركة في العملية السياسية بقوة خوفا من فقدان تلك القوى لزمام المبادرة لصالح قوى أخرى مدعومة إقليميا أو امريكيا.
 
وأما الفصائل السنية فقد إحتفظت بالمقابل بعلاقات وثيقة مع دول الجوار الأخرى وخاصة السعودية والأردن وسوريا محذرة من الخطر الأيراني الداهم على عروبة العراق ولاعبة بالورقة الطائفية.وأما القوى الكردية فقد إحتفظت بعلاقات وثيقة مع القوى الغربية وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي وفرت للشعب الكردي منطقة آمنة منذ التسعينيات من القرن الماضي بعد أن تعرض إلى قمع وأضطهاد شديدين من قبل النظام السابق .فيما توثقت علاقات هذه القوى مع الفصائل الشيعية لأسباب تأريخية ونضالية معروفة.
 
 
وأما المرحلة الثانية والتي بدأت مع إجراء الأنتخابات النيابية العراقية مطلع العام 2006 فقد تميزت بالمشاركة الفاعلة للسنة العرب الذين دخلوا العملية السياسية من أوسع أبوابها عبر المشاركة الفاعلة فيها وفي إنقلاب المناطق الغربية على تنظيم القاعدة وماكان يعرف بالمقاومة الامر الذي أدى إلى إضعاف فاعلية ذلك التنظيم وصاحب ذلك نجاح عملية صولة الفرسان التي خاضها رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ضد الميليشيات في محافظة البصرة والتي أدت إلى تحجيم دور هذه الميليشيات . فكانت اهم سمات تلك المرحلة هي التحسن النسبي في الأمن و تحسن الوضع الأقتصادي  وإنحسار دور الأرهاب والميليشيات .
 
إلا أن تلك المرحلة والتي يمكن تسميتها بمرحلة المالكي , قد تميزت بصعود نجم رئيس الوزراء العراقي الذي حظي بتأييد قطاعات واسعة من أبناء الشعب على خلفية إعدامه للدكتاتور السابق ولدوره في عملية صولة الفرسان ولحسن إستغلاله للسلطة لتحقيق مكاسب سياسية فكان النجاح الذي حققته قائمته في إنتخابات مجالس المحافظات شجعه على خوض الأنتخابات النيابية الأخيرة بقائمة منفردة هي قائمة دولة القانون مبتعدا عن حلفائه القدامى فيما عرف بالأئتلاف العراقي الموحد الذي فاز بالمركز الأول في الأنتخابات الأولى فكانت تلك الخطوة بداية تفكك هذا الأئتلاف الأمر الذي أدى إلى حصول لغظ كبير صاحب تلك الأنتخابات منذ أن فازت بها كتلة العراقية التي يقودها رئيس الوزراء العراقي الأسبق الدكتور أياد علاوي الأمر الذي عقد الوضع السياسي وأدى إلى تأخير ولادة الحكومة قرابة العام ولم تنجح محاولات تشكيلها إلا بعد إمضاء رئيس الوزراء لأتفاقية أربيل التي أمضاها غريمه علاوي برعاية رئيس إقليم كردستان السيد مسعود البرزاني. وبذلك فقد دخل العراق في مرحلة قلقة منذ ظهور نتائج الأنتخابات النيابية الأخيرة.
 
فرغم أن تلك الأتفاقية قد نصت على تشكيل مجلس للسياسات الأستراتيجية وعلى تقاسم المناصب الأمنية بين الموقعين إلا أنه ورغم مرور عام على إمضائها فلم يتم تنفيذ بنودها الأمر الذي أدى إيجاد حالة من التوتر مستديمة بين كتلة العراقية وإئتلاف دولة القانون الذي يقوده رئيس الوزراء العراقي الحالي السيد نوري المالكي, الذي أصبح هدفا لمعظم القوى السياسية العراقية وحتى الحليفة له والتي إتهمته بالدكتاتورية وبمحاولة إحكامه لقبضة الحزب الواحد على السلطة. فشهدت علاقاته توترا مع التيار الصدري ومع المجلس الأعلى ومع قوى التحالف الكردستاني ومع كتلة العراقية حيث أضحت علاقتهما متأزمة منذ ظهور نتائج الأنتخابات البرلمانية الماضية.ولقد نجح المالكي بفضل هيمنته على السلطة وإمتلاكها لأدواتها في تصديع وتفكيك عدد من القوى السياسية وأولها العراقية التي تعرضت لأنشقاقات متعددة , فيما نجح في إبعاد منظمة بدر عن المجلس الأسلامي الأعلى وهو اليوم يقرًب  عصائب  أهل الحق في محاولة لأحداث توازن مع التيار الصدري في الوقت الذي لم يكف فيه عن مغازلة كتلة التغيير الكردية.
 
لقد كانت من أهم سمات المرحلة الحالية  التوترات السياسية  التي تزامنت مع ظهور نتائج الأنتخابات ووولادة الحكومة الجديدة بعد أن كبل المالكي نفسه  بإتفاقيات يجد صعوبة في تنفيذها , فلقد ألزم نفسه بإتفاقية أربيل إلا انه لم ينفذ من  بنودها إلا البند المتعلق بإجتثاث البعث والذي سمح بتولي صالح المطلك لمنصب نائب رئيس الوزراء غير أنه عاد وأنقض عليه هذه الأيام  مطالبا بعزله على خلفية تصريحاته التي إتهم بها المالكي بالدكتاتورية.وأما المطالب الكردية  التي وافق عليها المالكي عند تشكيل الحكومة فلايبدو أنها الأخرى قد رأت النور على أرض الواقع الأمر الذي أدى إلى توتر علاقته مع القوى الكردية.
 
ومما زاد في الطين بلة هو إصدار القضاء العراقي أمرا بإلقاء القبض على نائب الرئيس العراقي والقيادي في القائمة العراقية طارق الهاشمي حيث أصبح هذا الأمر القشة التي قصمت ظهر بعير حكومة الشراكة الوطنية وظهر العملية السياسية وتسببت بتفاقم للأزمة السياسية وضعت العراق اليوم فوق فوهة بركان.فالمالكي الذي إعتبر الأزمة قضائية بحتة أعطاها بعدا سياسيا منذ أن صرح بأنه يملك ملفات تدين نائب الرئيس العراقي ومنذ سنوات غير انه آثر عدم الكشف عنها لأسباب سياسية الأمر الذي أثار حفيظة الأطراف الأخرى التي إعتبرت تصرفه هذا تسترا على الأرهاب وتفريطا بدماء العراقيين.فيما رأى إئتلاف دولة القانون الذي يتزعمه رئيس الوزراء بأن عدم تسليم الرئيس العراقي جلال الطالباني لنائبه للقضاء خرقا للدستور وحماية للأرهاب وهو الذي يضع الرئيس تحت الملاحقة القانونية وفقا لمادة مكافحة الأرهاب.
 
لقد وضعت التطورات الأخيرة المكونات العراقية الأخرى وخاصة السنة والكرد في حالة إنذار شديد , فالسنة رأو فيما يحصل إستبعادا لهم من الحياة السياسية وسعيا من قبل المركز لأحكام هيمنته على العراق وهو الأمر الذي يثير حفيظة الأكراد الذين يتخوفون من حكم مركزي قوي في بغداد يذكرهم بالأيام الخوالي.ولذا فكان الرد السني يتمثل في الأعلان عن الرغبة في تأسيس أقاليم في كل من الأنبار وصلاح الدين وديالى ولربما في الموصل. وأما الكرد فاعتبروا إجراءات المالكي خطوة تصعيدية وهي بمثابة إشارة تحذيرية للقوى السياسية من مغبة التمرد على سلطة حكمه في بغداد. 
 
وتتزامن هذه الأحداث المتسارعة في العراق مع تطورات غير طبيعية تجتاح منطقة الشرق الأوسط. فهناك الربيع العربي الذي أحدث زلزالا في المنطقة وصلت أثاره إلى أنحاء مختلفة من العالم, وهناك تصاعدا في الأنقسامات والتكتلات الطائفية. فلدينا اليوم محور سني تقوده السعودية وتدعمه تركيا قبال محور شيعي تقوده إيران وتدعمه بغداد,رغم ان الصراع بين المحورين هوصراع في الواقع بين النهج الثوري المناهض  للغرب ولأسرائيل الذي تتبناه إيران  عبر دعمها لفصائل المقاومة الفلسطينية واللبنانية والذي يعارض أي تسوية مع إسرائيل وبين المحور المحافظ في المنطقة والذي تتزعمه السعودية.
 
إلا أن المحور الشيعي يعاني اليوم من حصار خانق.فأما إيران زعيمة هذا المحور فهي تمر اليوم بظروف عصيبة  على خلفية برنامجها النووي والذي يواجه بمعارضة شديدة من الغرب ومن إسرائيل حيث بلغت الأزمة أوجها مع إعلان الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأن البرنامج النووي الأيراني لايخلو من الأنشطة العسكرية, الأمر الذي أدى لتشديد العقوبات الأقتصادية على إيران مع التلويح بحظر إستيراد النفط الأيراني ومع تلويح بهجوم إسرائيلي وشيك على المنشئآت النووية الأيرانية.
 
وأما النظام السوري الحليف لأيران فهو محاصر اليوم حصارا شديدا من قبل الدول العربية وخاصة الخليجية منها  والدول الغربية التي تنادي بإسقاطه اليوم أمام التظاهرات الشعبية التي تحتاح سوريا اليوم.وأما حزب الله في لبنان فهو في وضع حرج اليوم وأن كل تغيير في سوريا سيؤثر عليه تأثيرا جوهريا.ولذا فإن بغداد تجد نفسها جزأ من هذا المحور رغم علاقاتها الوثيقة بالولايات المتحدة الأمريكية, لأن بغداد بعيدة اليوم عن المحور السني وهي محسوبة على الشيعة ولذا فالسعودية ترفض وإلى اليوم تطبيع علاقاتها مع بغداد واما تركيا فهي الأخرى تتعامل مع بغداد بحكم إنتمائها السني كما ظهر ذلك جليا في تصريح رئيس الوزراء التركي حول الأزمة الأخيرة والذي إعتبره المالكي تدخلا سافرا في الشؤون الداخلية للعراق. 
 
 
وأمام هذا الواقع فإن أي عاصفة تهب على المنطقة سواء أكانت عسكرية أم سياسية ستكون لها إنعاكاسات على العراق وستتم صياغة مستقبل المنطقة وفقا لقواعد جديدة.ولذا فليس امام العراق اليوم سوى تحصين نفسه قبل هبوب هذه العاصفة وذلك بتهدئة الأجواء السياسية والأبتعاد عن لغة التهديد والتخوين والألتزام بالعهود والمواثيق وببنود الدستور وتعميق مفهوم الشراكة في الحكم وبغير ذلك فإن العاصفة ستهب من العراق وكما توقع السناتور الجمهوري مكين إذ أن إنهيار العراق وتفتته إلى أجزاء سيثير موجة من الأضطرابات في المنطقة لن يكون أحد بمأمن منها.
sailhms@yahoo.com



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=13331
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 01 / 19
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 3