• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : السيّابُ لَمْ يَكُن رَكيكاً يا وَطني .
                          • الكاتب : ليث العبدويس .

السيّابُ لَمْ يَكُن رَكيكاً يا وَطني

كثيرُ النار مِنْ مُستصغَرِ الشَرَرِ، وعظيمُ النهرِ مِنْ دَقيقِ السواقي، وجلاميدُ الجِبالِ مِنْ توافه الأحجارِ، وأشدُّ الحروب الأهليّة دَمويّةً بدأت إثرَ كَلمةٍ حمقاء لَمْ يَزِنها عَقلٌ رَشيد، أو رَصاصَةٍ طائِشة خَرَمتْ غِشاءً رَقيقاً مِنْ تَعايُشٍ قَلِق، أو دسيسَةِ مُغرِضٍ بِليلٍ أحرَقَتْ مضارِب العَشيرة الواحِدة، قَدْ يَكونُ ذلِكَ وَهجُ المظاهِرِ الساطِع، وَهج يُبهِرُ الأبصار حتى لا تَكادُ تُبصِرُ الحَقيقةَ وهي تتسَلَّلُ مُتواريّة خَلفَ سِتارٍ كَثيفٍ مِن الإنكار المَرَضي والكِبرياء الزائِف.

 نحنُ نُهَرّبُ أخطرَ أسرارنا خَلفَ قِناعٍ مِن المُجاملات الرخيصة، مواظبون نحنُ على تغذية نِفاقِنا منْ نزيف شرايينِنا المفتوحة، نرتَشِفُ بِصمت ووجومٍ فناجينَ قهوَتِنا السوداء المُرّة فيما يتكوّرُ تحتَ جُلودِنا ذئبٌ أغبر، غجريونَ اخترنا الصعلَكة عند بوابات المُستقبل مُتبركينَ بِتمائِم العجائِز المعتوهات، نُثرثِرُ تحتَ سَقف الوَطَنِ عَنْ وَحدَةٍ نَدُقُّ كُلَّ يومٍ ألفَ إسفينٍ في جَبينِها، ألفَ سِكْينٍ في ظهرِها، عَنْ تلاحُمٍ شَربنا دَمَهُ حتى القطرة الأخيرة بعدَ المِليون، ثُمَّ مَسحنا شوارِبنا الكثّة بأكمامِنا القذرة.

 مُستمرونَ نحنُ في القَبضِ على ذات الجَمر ومضغِ نفسِ الأشواك، ماضونَ نحنُ في تَجاهُلِ ألسِنة اللهيب وهي تلتَهم خيمنا، الأفاعي وهي تطرُدُ صِغارَنا لتغفو في مَهدِهِم، الألوانَ تنسَحِبُ مُستسلِمةً امام زَحف جُدران الرماد، الشُحوبَ يعتَصِرُ آخِرَ زنابِق ربيعِنا القصير.

ولأني أربأ بنفسي أنْ أتَقمُّصِ دورِ الغُرابِ الناعِقِ بالسوء، لكنَّ الرملَ لمْ يَستُر نعامةً مذعورة واحِدةً ، فأني سأبوحُ بِما نتهامَسُ بِهِ سِراً، حربُنا الأهليّة القادِمةُ وشيكَةُ الوقوع، قريبةَ الاندلاع، طالِعةٌ علينا كَقَمرٍ مُستديمُ المُحاق، كعيونِ ميدوزا، يُحجّرُ كُلَّ قلبٍ بالضغينة، أم كانَ السيّابُ ركيكاً؟ أوليسَ غريباً أنْ تتَسِقَ سرديّةُ الفاجعة التي تحفَلُ بها أسطورةُ ميدوزا الحسناء الممسوخة مع مجرى تاريخِنا المأساوي الراهِنْ؟

سنتمنى حينها كُلَّ أمانينا الضالة الطائِشة، سنعرف أنَّ للموتِ طعماً شديد المرارة، يسكُنُ تلك الحدَقات القابِعة كعيونِ أسماك القرشِ خلف أقنعة المُلثّمين، وسنتمنى فيما نتمنّى، أنْ نبتَلِعَ أنفُسَنا عِندَ حواجز التفتيش الزائِفة وهي مشغولَةُ في فرز الناسِ إلى مولودٍ ومفقود، حيٍ وميّتْ، جُثّةٍ ومشروعِ جُثّةٍ مؤجل، حَربٌ سَنُثري عشيَتَها قاموسَ النِزاعاتْ المحليّة بِمُصطَلَحٍ طازِجٍ خام، سَيجِدُ مكانهُ حتماً إلى جانب (اللبننة) و (الأفغَنة) و (البلقَنة).

 جميلةٌ كانتْ هي ميدوزا (كالوطنِ قُبيلَ تعفُّنِهِ وتقيُّحِ جِراحِه) بيدَ أنها استسلَمَتْ لانفلات رغباتِها الجامِحة (أولَمْ نُحوّل البلدَ إلى مزرعةِ حَشيشِ وَحَلَبةً تتهارَشُ على أرضها الطينيّة ديكةُ الشرقِ والغرَب)؟صهلتْ تحتَ أنفاسِ ميدوزا شَهواتٌ برّية، فانساقتْ لِتُدنّسَ معبَدَ (أثينا) بخطيئةِ الزِنا مع (بوصيدون) فَحَلَّ عليها سَخَطُ الآلِهة، غابَ الجَمالُ وحَلَّ القُبْح، رَحَلَ السَلامُ وجاءتْ الحرب، تلاشَتْ النضارةُ وخيّمَ الشُحوب، وكأوطانِنا المُتكلّسة المُتحَجّرة، صارَ وَجهُ ميدوزا اللعينُ يُحيلُ الناظِرَ إليه صوّاناُ أصمْ، ولنْ تنتَهي قُرونُ الخوفِ إلّا بِسيفِ كسيفِ (بروسيوس) ليهوي على عُنُقٍ كان يحمِلُ رأساً جميلاً ذاتَ يوم.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=13503
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 01 / 25
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28