• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : ذاكرة الطفولة.. (ثورة/انقلاب) 14 تموز .
                          • الكاتب : موفق الرفاعي .

ذاكرة الطفولة.. (ثورة/انقلاب) 14 تموز

لم أكن أعي وقتها لماذا كان أبي يرقص شابكا كفه بكف (دايخ).
دايخ هذا هو أحد أتباع أمير المحمرة الشيخ خزعل الكعبي من الذين لجؤوا إلى واستقروا في البصرة.
كانت دارنا على الضفة اليسرى من امتداد نهر العشار في مدينة البصرة القديمة. وكان بيت دايخ على الضفة اليمنى المقابلة إلى جانب بيت الشيخ المغدور الذي كانت تشغله زوجته آنذاك.
هذه البيوت كانت في الماضي قصورا لأعيان البصرة.
وعندما عدت إلى البيت لم أدرك لماذا كانت أمي تبكي ودموعها تسّاقط في طشت غسيل الملابس المتربعة أمامه.
كل ما أعيه في تلك الصبيحة وعلق في ذاكرتي هو أني عندما نقلت لأمي مستغربا ما يقوم به أبي ودايخ سوى أن ردت وهي تنشج.. (العراق بعد الملكية وقتل الطفل لن تقوم له قائمة).
وقتها لم أكن لأعرف أن ثورة قامت، وأن (الطفل) المقتول هو ملك العراق فيصل الثاني.
كانت أمي تعلم ما جرى. فقد كان راديو بغداد يلعلع مكررا إذاعة البيان رقم واحد بصوت عبدالسلام عارف (اسْليّم) كما أسمته أمي بعد ذلك، استصغارا وتحقيرا. وكان بعد إثر كل قراءة، تبث إذاعة بغداد أغنية أظنها سورية لم افقه منها سوى الزغاريد على الطريقة الدمشقية.
بعدها بيوم أو يومين، كانت الناس تتوجه بكثافة صوب مقر بلدية البصرة غير البعيد عن دارنا.
توجهت معهم لأرى مجسمات من القماش محشوة بالتبن معلقة على شرفات البلدية والناس ترجمها بالحجارة. أحد تلك الجسمات عليه عباءة عراقية. كان الهتاف الذي تكرره حناجر الحشود "لبس نوري العباية وصار نورية". إشارة إلى تخفّي نوري السعيد بعباءة نسائية قبل أن يُكتشف أمرة مصادفة فيقطّع إربا ويسحل بعيدا قبل أن يُحرق جسده في النهاية.
كانت المجسمات كما قيل لنا تجسد إضافة إلى رئيس الوزراء المزمن نوري السعيد، الوصي على العرش عبدالإله بن عليّ والملك الشاب فيصل الثاني.
المجسمات الثلاثة كانت جميعها مقطعة الأطراف ومشوّهة. تشبيها لما حصل لتلك الأجساد على أرض الواقع في العاصمة بغداد.
***
بعد عام تقريبا نادتنا أمي أنا وأخي مؤيد الذي يصغرني بعامين، لنشهد من خلال زجاج الشباك الداخليّ لإحدى الغرف، ما كان يقوم به أبي.
لقد كان يمسك بمطرقة يُهشّم بها زجاج صور الزعيم عبدالكريم قاسم - (اكْريّم) كما تطلق عليه أمي- وفاضل عباس المهداوي ومحمد نجيب الربيعي وماجد محمد أمين، ثم يقوم بتمزيقها.
كانت أمي شامتة بأبي. إنها وهي التي بالكاد تعرف القراءة والكتابة قد استشرفت منذ اللحظة الأولى مستقبل ما سوف يؤول إليه الوضع في البلاد بعد الانقلاب العسكريّ. وهو ما لم يكن بإمكان أبي المُتعلم استشرافه. علمت بذلك عندما حانت منها التفاتة إلينا دون أن تصرف نظرها كليا عن ما كان يقوم به أبي.. ها..؟ ماذا قلت لك في ذلك الصباح؟!
بعدها تداعت الأحداث وصار منظر أبي مألوفا وهو يُخفي معه في اللحاف راديو الترانسستور ليستمع إلى إذاعة صوت العرب والـ بي بي سي وربما غيرهما من الإذاعات. ففي ذلك الوقت صار للجُدران آذانا.
كثرت في تلك الفترة إشارات الـ X باللون الأحمر خطت على أبواب عدد من الدور في محلتنا، إشارة إلى أن عوائلَها تميل إلى أو من بقايا العهد الملكيّ (العهد البائد) كما كان يُسمى آنذاك.
كان مقر الشبيبة الشيوعية في ذات الضفة من النهر التي كان بها بيت دايخ يعج برجال ونساء مسلحين تلتف حول سواعدهم قطعا من القماش خُط عليها (م.ش) إشارة إلى (المقاومة الشعبية) (أول مليشيا حزبية تشكلت في العراق). وكنا ننظر من خلال الشناشيل تدلي الحبال من شبابيك المقر وشُرفاته.
وقتها كان الشارع الذي فيه بيتنا شارعا رئيسا في المدينة يربط مناطقها. فلطالما مرت عبره المسيرات التي ما كانت تخلو من حاملي الحبال يُلوّحون بها وهم يهتفون.. "ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة". كان يتقدم تلك المسيرات الكرنفالية قزم جعلوا منه مسخا بالثياب التي ألبسوه وبالأصباغ التي لطّخوا بها وجهه. كان هذا المسخ يجسد ميشيل عفلق يحيط به متظاهرون يرددون "الما يصفق عفلقي" وتعني، (الذي يمتنع عن التصفيق بعثيّ) كانت أكفنا تلتهب من شدة التصفيق خوفا من أن نُتهم بالعفلقية. وكان مسخا أخر بأنف طويل يُجسّد جمال عبدالناصر.
***
في ظهيرة أحد أيام شهر رمضان. خرجنا من بيوتنا على إثر تراكض وصراخ ونحيب.
كانت جثة أنس طه جارنا قد جيء بها. وهو أحد موظفي ميناء البصرة في المعقل. قيل لنا أنه سُحل من قبل شيوعيين، بالحبال حتى فارق الحياة بعد أن صبوا في جوفه إبريق شاي كي يجبروه على الإفطار في رمضان وشتم جمال عبدالناصر.
لا أحد من أصحاب الباصات الخشبية كان ليجرؤ على حمل جنازته نحو مقبرة (الحسن البصريّ) في منطقة الزبير.
حضر قريب له صاحب باص خشبيّ ليحمل الجنازة. وما أن تحرك حتى رُجم الباص من قبل أطفال بسيل من الحجارة إلى أن توارى.
لا شك أنهم فعلوا ذلك بتحريض من أسرهم. (بداية سيئة لتخريب براءة الأطفال)..!
***
لا أتذكر متى كانت على وجه الدقة انتخابات نقابة المعلمين في تلك الحقبة. لكن ما انطبع في ذاكرتي، أن المنطقة كانت أشبه بحلبة صراع بين الشيوعيين من جهة والقوميين من بعثيين وسواهم من جهة ثانية.
انطبع في ذاكرتي منظر معلمين كانوا يُموّهون عِصيّهم الغليظة والتي بطول ذراع (توثية) وهم يلفونها بالجرائد. عبروا جسر محلة (الصبخة الصغيرة) نحو محلتنا (السِيف) وعندما صادفوا مجموعة من المعلمين الشيوعيين انهالوا على رؤوسهم بالعصي فتطايرت الجرائد.
للآن احفظ أسماء المعلمين القوميين. فهم أصدقاء عمي الذي كان برفقتهم.
كنت أتابع هذا المشهد المخيف من خلال نقوش شناشيل (مشربيات) الطابق الأول من بيتنا.
***
مرت سنوات على هذه المشاهد قبل أن أفاجأ بانقطاع البث الإذاعيّ. ففي حواليّ التاسعة صباحا كنت متعلقا برفّ عليه راديو من ماركة تليفونكن الألمانية أتابع منه تمثيلية إذاعية. كان أحد أبطالها اسمه يونس. ما أن نادى أحدهم يو... لم يكمل الاسم حتى انقطع البث ليذاع البيان رقم واحد.. "قضيّ على المجنون الأرعن عبدالكريم قاسم..." تلته أنشودة "الله أكبر فوق كيد المعتدي" الشهيرة.
هذا الانقلاب أطلق عليه الشيوعيون بعد ذلك (شباط الأسود) وأطلق عليه البعثيون (عروس الثورات).
خرجت إلى الشارع على صوت الزغاريد لكن هذه المرة كانت زغاريد نسوة عراقيات ولم تكن ضمن أنشودة سورية من الراديو.
الشباب الذين كانوا موّهوا عصيهم في الجرائد رأيتهم يتجولون في الشارع وهم يحملون بنادق بور سعيد المصرية الخفيفة تلتف حول سواعدهم قطعة قماش بيضاء خُط عليها (ح.ق) علمت فيما بعد أنها تعني (الحرس القوميّ)، الذي أصبح ثاني مليشيا حزبية في العراق.
أمي كانت سعيدة. فقد وضعت على باب البيت علم أخضر وآخر أبيض بمقاس تلك الأعلام التي توضع على أبواب الحجاج القادمين من مكة. وضعتهمت إيفاءً لنذر لها عندما (ينفتح طريق الكويت) كما كانت تردد. فقد حُرمت نتيجة مطالبة عبدالكريم قاسم بـ (قضاء الكويت) من لقاء ورؤية عمها وبنات عمها الكويتيين وهم كل ما تبقى لها من اسرتها.
فقد كانت تعلم ارتباط إعادة فتح الطريق لمجيء أهلها لزيارتها بسقوط حكم عبدالكريم قاسم. ولولا هذه الأمنية، ما كان يعنيها تغيير نظام الحكم. فلم تكن تستفسر حتى عن تفاصيل ما جرى.
بينما كان وجه أبي هذه المرة محايدا لم تظهر عليه لا علامات الفرح ولا الأسف. ربما تذكر عبارة أمي (العراق بعد الملكية وقتل الطفل لن تقوم له قائمة) التي لم تتوقف عن تكرارها وترديدها، كلما ساءت الأوضاع. خصوصا وأن (عروس الثورات) هذه كانت عرسا دمويا فاقعا، طويلا استمر حتى 18 تشرين الثاني 1963.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=135713
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2019 / 07 / 15
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28