قَدَرُ العِراقِ أن يَضِلَّ الطَريقَ إلى الحُريّة، وَكَمْ مِنَ باحِثٍ عَنْ النورِ ارتَكَسَ في حمأةِ ديجورٍ كَثيف، قَدَرُهُ أنْ يَستَمِرَّ في حالة الاحتِضار الأبدي، مُعَلّقٌ بينَ السماواتِ والأرضينِ، وبينَ الحياة المُرّةِ والموتِ اليومي تتأرجَحُ مصائِرُ شَعبٍ يُكابِدُ مَعَ مَطلَعِ كُلّ صَباح شَكلاً جديداً مِنْ أهوال القيامَة.
ضاقِتْ عليهِ المَخارِجُ والدُروبُ والمسالِكُ، وَنَهَضتْ أمامَ مُقلَتيهِ اللتانِ جرحتهُما الليالي السودُ ظِلالٌ ثَقيلةٌ لِدولَةٍ أمنيّةٍ جَديدةٍ تَفِحُّ البُغضَ وَتزفِرُ الكراهية، دُموعُ العِراقِ تأبينٌ مؤثِرٌ يُعلِنُ موتَ الديمُقراطيّة وانتِحارَ الحُرّيات وَتقاعُدَ الليبراليّة، بَلَدي عالِقٌ في مملَكة الرَماد، حيثُ كُلُّ شيءٍ يتَشِحُ بالسَواد، وَكُلُّ شيءٍ يُنذِرُ بِواقِعَةٍ وَشيكة، واللُغَةُ همهَماتٌ كَتَحشرُجِ الموتى، كارتِعاشات الذَبيح، كصوت انطِباق القُبور، فَهَل الفَجيعَةُ حتميَتُكَ يا وَطَني؟
وَطَني أدمَنَ تعاطيَ المِلحِ حتى تَخشَبَتْ مِنهُ الأصابِعُ وَتَكلَّسَتْ الشِفاه، قَدَرُهُ أنْ يَسمِلَ مُعذَبوهُ عينيهِ البابِليتينِ الجَميلَتينِ ويقطَعوا لِسانَ كِلكامِش الصادِحَ فيهِ وَيُلقوهُ في غياهِبِ التيهِ والضياع، وينتَزِعوا مِنْ دُروبِهِ الشائِكاتِ كُلَّ علاماتِ الدَلالة، فيا للنَذالة!.
قَدَرُهُ أنْ هولاكو الوَثَني لَمْ يَزلْ يُمطِرُ كتيبَةَ كَلبِهِ (كَتبَغا) بألفِ أمرٍ لِحَرقِ بَغداد، وأنَّ ألفَ طوسيٍ يَخون، وألفَ عَلقَميٍ يُرجِفُ في أرجاء المَدينَةِ الخائِفة، وَبغدادُ عَذراءُ التاريخ الأخيرة، تَكتُمُ شهقَةَ الذُعرِ خَلفَ أطلالٍ لِتمثالِ الرَشيد نَسَفَتهُ جِرذانُ المَجاريرِ الكَريهة، بغدادُ تَلوذُ بِصَمتِها المُهاب، تُخفي تَحتَ جِلبابِها الطاهِرِ آخِرَ رَضيعٍ أَمَوي، آخِرَ سيفٍ معقوفٍ مِنْ فُتوحاتِ الأندَلُس، آخِرَ كأسٍ لِيَسوع، آخِرَ تَنقيحٍ للياليها المُدبِراتْ، آخِرَ فيروزَةٍ في تاجِ الخِلافةِ نَجَتْ مِنْ نَهبِ القراصِنةِ الملاحِد، وألفُ مُغتَصِبٍ حَقير يَترَنّحُ في أرجاء الَمدينة، يَنتَشونَ اليوم بانتِصارٍ هَزيلٍ على (جان دارك) العربيّة، فهنيئاً لَهُمُ تَسافُلُ ظَفرِهِم، وهنيئاً لبغداديَ الحسناءُ مرتَبَةَ القُدُسيّة.
حَزينَةٌ أنتِ إنْ هُم أنزَلوا رايةُ الأمجادِ التَليدةِ مِنْ قُصرِكِ المَنيف؟ حَزينَةٌ إنْ هُم نَصّبوا الأخرَق حاكِماً بأمرِهُ على سُكّانِ الَكرخِ وأهلِ الرَصافة؟ ذلكَ المعتوهُ الذي بُحّتْ حُنجُرَتُهُ المَشروخَةُ مِنَ التسوّلِ، ذلكَ الذي أتلَفَ الأفيونُ فيهِ المروءة والرِجولة، يا عروسَ الشَرقِ التي جردوها مِنْ كُلِ زينة، سَرقوا مِنها المَحاجِرَ وقواريرَ الكُحلِ الحِجازي الأصيل، سرقوا مِنها ذاكِرةَ الوُجودِ والدواةِ والقَلَم.
إشمَخي (إنطوانيتُ) وأنتي تُساقينَ إلى المَقصَلَة، أطَعَني بِكبرياء المُلوكِ رِقابَ الرِعاع النابِحينَ بِزوالِكِ، زَهوكِ أطوَلُ مِنْ أعمارِ كُلّ قاتِليكِ، وقامَتُكِ أعلى مِنْ كُلّ شواهِدِ قُبورِهِم المُتهَدّمة.
ليث العبدويس – بغداد – alabedwees@yahoo.com |