• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : ركبُ الخلود «2» .
                          • الكاتب : السيد محمد علي الحلو ( طاب ثراه ) .

ركبُ الخلود «2»

وإذا كان الحسين عليه السلام قد أغدق على أنصاره صفات الأخيار الأبرار.. فإن لأعدائهم شأناً آخر في التأبين .. وبُعدا عظيما في التقريظ.. وإذا كان القائد أوْلى بوصف أصحابه، فما بال أعدائه يشهدون لهم بكل فضيلة.. ويجمعون لهم كل مکرمه؟!
وإذا كان القائد أولى بتقريظ أصحابه، فإن ذلك أمرٌ يرجع فضله إليه.. ومديحٌ ينطبق عليه.. فإنهم كنانته وأهل حوزته.. وخاصته وذوو مودته، والحسين أجلُّ من أن يصف هؤلاء بما سمعناه من الثناء ما لم يكونوا لذلك أهلا، وللحمدِ محلاً، وليس هو حال القائد الذي يريد أن يشحذ همم فتيانه ليوردهم حياضَ الموت.. ولا بالمستبسل عزائم أصحابه ليغريهم سنن الفناء، دفاعا عن هدفٍ قنع في صوابه، دون بصيرة أتباعه.. فالحسين عليه السلام أولى بمعرفة أصحابه، وحسبك بالحسين شاهداً وبصيراً.. 
هذا حال سيدهم وقائدهم يشهدُ بما يعلم.. فما بال أعدائهم يشهدون لهم بأحسن شهادة، ويثنون عليهم بأروع مقالة.. بأنهم فرسان المِصر، بل هم أهل البصائر.. لم يأتوا على عمي دون هدی.. ولم يؤثروا هوى على حق.

في ساعةٍ من ساعات الموت، تتطاعن الفرسان.. وتزدحم أشلاء القتلى تحت سنابك الخيول، وتتطاير الرؤوس، و تتقاذف الأيدي، و تعلو الفريقين مُزنُ الدماء، وسحائب غبار الهيجاء، و ترتعد الأجواء بقعقعة الرماح، وتختلط معها أصوات التكبير والتهليل من آل الحسين وأنصاره وهم يرمقون بأبصارهم سيّدَهُم اطمئناناً على سلامته، واستبشاراً بما يرمقهم من نظرة الرضا والقبول.. ولما أكثروا القتل والطعن في أهل الكوفة، صاح عمرو بن الحجاج بأصحابه: 
(أتدرون من تقاتلون؟ تقاتلون فرسان المصر، وأهل البصائر، وقوما مستميتين، لا يبرز إليهم أحد منكم إلا قتلوه على قِلَّتهم، والله ! لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم).
فقال عمر بن سعد: (صدقت، الرأي ما رأيت، أرسل في الناس من يعزم عليهم أن لا يبارزهم رجل منهم، ولو خرجتم إليهم وحداناً لأتوا عليكم). 
هذه هي الهزيمة، وهذا هو الانكسار والسقوط.. فأهل الكوفة يتمردون على سنن القتال كما تمردوا على سنن الطاعة للحق و أهله.. وفرقٌ بين الهزيمة والثبات، وبين النصر والانكسار، وبين الرفعة والسقوط.. فالهزيمة تفرض على أصحابها كل خسيسة، والثبات يشرئبُ بأصحابه إلى كل مکرمة.. والانكسار يودي بأهله إلى الحضيض، والنصر يوجب على أهله الرفعة.. والسقوط يخمدُ شأن كل ذى شأن تستحل معه كل حرمة، ويستحسن من خلالها كل شائنة يحسبها نصراً لأهدافه، و تحقيقاً لأمانيه. 
فالنزال له أصوله، والمبارزة لها سُنَنُها، والقتال له قيمهُ وقواعده.. وإذا استفحش المرء هتك حرمات الله، فلا حرمة لما دون ذلك، وإذا أهدر شرفه في طاعة الأشرار، فلا رفعة فيما عدا ما لا يترفع عنه، وإذا تمرد على قيمه ومبادئه، فلا حرج أن يرتكب كل ما من شأنه أن يوهن خصمه ويضعفه عن هدفه.. وأولئك الأحرار من أنصار دين يواجهون قوماً لم يحسنوا الاختيار، فخسروا الصفقة، وهم أحرى أن يرتكبوا كل رذيلةٍ وشائنةٍ وخسيسة.
ولم تقف شهادة الأعداء عند حد الثناء إبّان النزال، فإن للاستشهاد من أجل المبدأ حقه من حُسن المقال، وللرجولة حظها من جميل التقريظ، وللشهامه نصيباً من الاستذواق لدى بني البشر مهما بلغت الخسةُ في نفوس قومٍ لم يرعوا لله حرمة، ولا للرسول ذماما، أن يشهدوا بما شهدت لهم عزائم الصرعى من التدافع على المنية، أو ترخص النفوس من أجل المبدأ.. وإذا كانت الملامةُ تنفعُ في حبس النفوس عن الدنية لكانت أبلغ إنذاراً في تهالك آل أبي سفيان وأشياعهم من الإقدام على أبشع ما يرتكبه بنو الإنسان من خسة التمرد على الحق، وعلى كل ذوق یأبی صنيع القبيح ومقارفة الدُنى، والابتذال في حجب النفس عما ترتكبه من السقوط.. وإذا أعذل أحدهم على سبب حربه لأنصار دين الله، وقتله لآل الرسول، يقول: (عضضتَ بالجندل، أنك: لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا، ثارت علينا عصابة أيديها على مقابض سيوفها، كالأسود الضاریة، تحطم الفرسان يمينا وشمالا، تُلقي نفسها على الموت، لا تقبل الأمان، ولا ترغب بالمال، ولا يحول حائل بينها وبين المنية أو الاستيلاء على الملك، فلو كففنا عنها رویداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها، فما كنّا فاعلين، لا أمّ لك).

_________________
كتاب: انصار الحسين عليه السلام
العلامة السيد محمد علي الحلو (طاب ثراه)




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=137440
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2019 / 09 / 03
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 3