• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : مفكّرون في ميادين الصراع، بين أخرس خائر وأشوس ثائر .
                          • الكاتب : د . اكرم جلال .

مفكّرون في ميادين الصراع، بين أخرس خائر وأشوس ثائر

عَرّف ابن منظور في لسان العرب الشّجاعةَ على أنّها "شدَّة القلب عند البأس"، وأمّا الجاحظ فيقول في الشجاعة أنّها: "الإقدام على المكاره، والمهالك، عند الحاجة إلى ذلك، وثبات الجأش عند المخاوف، والاستهانة بالموت".

بالشجاعة تُمتَحن الرجال عند التحام الصفوف وصطكاك السيوف وإقبال الحتوف، حينما يثبت الصناديد وتخرّ الرعاديد، حينما تمتطي السروج الفرسان وتنحني رؤوس الصبيان، فيركب الأبات الأخطار للدفاع عن الحقيقة المختطفة والحرية المنهوبة والشرف المستباح، هنا تُعرَف الرجال ويُكتب للشّجاعة مَقال.

ثمّ أن تكون مُفكّراً، شُجاعاً، ثائراً، رافضاً، مستنكراً لكل أنواع الظلم والأستبداد، في زمن الشعوذه والأحقاد وغياب القيم والأخلاق والمبادئ، وفي زَمَن رَكِبَ المَوج الأوغاد وارتقوا منابر الأسياد فأشاعوا الظلم والإفساد، ولسيروا بهذه الجموع نحو الظلام دون اعتراض أو كلام، فهذا يعني أنك أيّها المفكّر الثائر قَرّرت السّير في طريق الرّفض والتّمرد، طريق الشرف والكرامة، طريق العزّة والإباء، طريق الإبتلاء والتمحيص، حيث يرتقي أهل العلم والمعرفة من حاملٍ للفكر الى مؤمن به وعامل على نشره. إنّه طريق الخروج من خُدَع التّدوير والتّلاعب بالألفاظ وَلَيّ عنق المفاهيم والأسباب الى فضاء الحقيقة الواضحة، يسيحون في الأرض غير آبهين بلغة الموت، فسلاح الفكر الشجاعة، وأنْ تَرى مُفكراً خائراً فاعلم أنك في زمن أغبر، إنحدار وتردي وانقسام وتشضي.

الفكر الشجاع لابد أن يفضي الى ساحة التصادم بين البيّنة والأدعاء، ساحة تتوقف فيها عقارب الساعة ويختفي مفهوم الزمان وحركة الأكوان، هي لحظة الانتقال من محدودية الأفق الزائل الى اللامحدود واللازمن. إنّه الفكّر الذي لا يتمحور ببعد تنظيري ولا ينحصر بتفسير ميتافيزيقي، بل يُحلّق من خلال برنامج عملي وخطاب عقلاني استدلالي شجاع ليكون فكراً ثورياً محارباً وسيجد نفسه، لا محال، وسط معركة إثبات الوجود.

وحينما تتّخذ جبهة الباطل من الظلام والإنغلاق والدوغمائية أدوات تتستّر وراءها وتسعى من خلالها لنشر الفكر المشوّه والخرافة والأفكار المستعارة بين أوساط الأمة لتزييف الحقائق باسلوب التدليس وكتمان الحق وَلَبسه بالباطل، حينها لابدّ للفكر الشجاع أن يخرج الى ساحة الصراع ليَكشف أغاليطهم وَيُخّرب أنساقهم ويُسفّه أحلامهم، إنه بخروجه يزيح الستار عن خداعهم وتضليلهم في صناعة الفهم المشوّه وتشجيعهم الوهم والغش والتكرار.

إذن فالفكر الشجاع هو المانع أمام تمزّق الإنسان، وتحلّل المجتمع وأنّ المُفكر الثائر هو أوّل من يرصد الفكر المغشوش كأنّه إعصار في ليل دامس، يقف أمامه شامخاً لا ينحني ومتحدياً لا ينثني، يقابله وجها لوجه، يتفحّصهُ عن كَثَب لَعلّه يجد في أعماق تلك الظُلمة بصيص من نور. المفكر الصادق هو أوّل من يُشخّص خطر التحريف والتدليس في الحقائق، فتراه لا يتردد في إعلان ثورته الفكرية وليكون أول المبارزين في ميدان الصراع بكل شجاعة وثبات، فالفكر حاله حال كل قطاع آخر، إن لم يجد حَمَلَة شجعان فإنه سيفقد قيمته الرجولية ويتحول الى مرتعاً وملاذاً لفكر الصبيان وعبيد السلطان.

إن الحقيقة قد تكون صعبة، مُرّة، لا تطاق، مُرعبة مُخيفة لمن لا طاقة له على حَملِها، لكنّها تبدوا جميلة رائعة كحديقة غنّاء لأولئك الذين تستهويهم الحقائق، فنراهم يسعون وراءها بكل ثبات وشجاعة، لا يوقفهم المهزومين، ولا المشوشين. ولأن الصراع عنيف والميدان دامي، والمناخ ردئ، فالحقيقة لا تُنال  بالهوان والإنبطاح ومظاهر الزيف والخداع ، وأنّ الفكر النيّر هو وحده القادر على حسم الصراع، من أجل أن ينهمر الأبداع وتظهر عبقرية الفكر الأصيل ولتتحطم تحت أقدامه كل الدمى التي تدّعي حمل الفكر زيفا وبهتاناً.

الصراع بين قوى الحق والباطل في حقيقته صراع فكري بامتياز وأنّه ميدان تصطَفّ فيه جبهتان، أحدهما لفرسان شجعان حملوا الفكر النيّر سلاحاً وتدرّعوا بالمفاهيم والقيم والمثل العليا، نزلوا الى الساحة غير مبالين، لينازلوا أشباه الرجال ممن امتهنوا التضليل والخداع، معتقدين أنهم يمتلكون الحقيقة، وحقيقتهم تكشف عكس ذلك.

الفكر الثوري هو الذي يرفض حياة القطيع ويخرج معلناً القطيعة، لأنّه بفكره وإرادته لا ينتمي الى صفوف الحمقى، لقد أراده الله أن يكون عَلَماً شاهداً، لا أن يكون بهيمة شارداً، إنّما هو استثناء ولأنّ بالأستثناء تُغيير الأشياء فقد قرر بإرادته أن يصدح بالحقيقة التي أدركها وجَهِلَها الناس، وليَحمل هذه الحقيقة صليباً على ظهره يدور به البلدان وكفناً يواجه به اللئام ونشيداً كتب نصّه المتعبون ليستنهض به النيام.

وحينما تتمعن في كلمات المؤرخ الفرنسي كاراديفو في كتابه (مفكرو الإسلام) (ص10) وهو يقول(وعلي هو ذلك البطل الموجَعُ، المتألم، والفارس الصوفي، والإمام الشهيد، ذو الروح العميقة القرار التي يكمن في مطاويها سرّ العذاب الإلهي)، فإنّك حينها ستدرك أنّ الفكر والحكمة والوعي والمعرفة قلائد نفيسة لا يرتديها إلا الشجعان، أولئك الذين لم يبالغوا بتقدير الخطورة ولم يسوّفوا ليسقطوا في مستنقع الجبناء، ولم يستهينوا في تقدير وتقييم الأشياء فيندفوا دون وعي أو بصيرة، فيخسروا الصراع.

إنّ أصحاب الفكر لا يَطلِبون بل يُطلَبون، فهم لا يَسعَون الى المصالح الشخصية ولا المجد ولا السمعة، ولكن الشرف الرفيع يتبعهم خطوة بخطوة والعزّة تطلبهم أينما حلّوا.

فعليٌ (عليه السلام) قد نهل شجاعة وفروسية من منبع العلم الإلهي حد الإرتواء، فكان ذلك الفارس المفكر الذي لا يقاتل إلا  طواغيت أهل الأرض ممن أمتهنوا الجهل والخداع ليسحروا بها أعين الناس، فأخرج الله لهم علياً ليكسر شوكتهم وليكشف به أهل الشقاق والنفاق.

لم يقيّد أصحاب الفكر الثوري أنفسهم بحبال الجرأة لأنّ الجرأة لوحدها قد تكون قفزة حمقاء غير مدروسة العواقب، ولأنّهم ليسوا بساذجين ولا أصاحب خيال صبياني، لذا تراهم يتدرّعون بالإستعداد الدائم وامتلاك بُعدَ النّظر ليُبصروا الأشياء بحقائقها، فهم كثيروا الرفض للتفاؤل الإستيهامي لأنّهم قرروا اليسير متفائلين بواقعية المنتصر، وحينما قرروا رفض الهروب من قساوة وهمجية الواقع وفضّلوا المواجهة فإنّهم بذلك قرروا أن يعيشوا الحياة الأبدية حيث لازمان يردّه ولا مكان يحدّه، ويوما ما سيفردوا أجنحتهم كطائر العنقاء محلّقين في سماء الحرية وليعلنوا أنّهم التحقوا بركب الخالدين.

 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=139798
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2019 / 12 / 07
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28