لقد سعى علماءُ اللغة إلى تقعيدِ العربية ألفاظا وتراكيب فقد جمعوا مادتها الشعرية واللغوية جمعا مستفيضا،واستطاعوا أن يضعوا قواعد النحو العربي،وقواعد الصرف والتصريف،وقواعد الأوزان الشعرية والقوافى، بحيث أصبح الشعر العربي ولغته جميعا مذلّلين منقادين للناشئة،كما وضُعت قواعد المعجم العربي.
ومع ذلك نلحظ بأن عربية مولدة أخذت تشيع على ألسنة العامة، وكانت تتداولها الطبقات الدنيا والطبقات الوسطى،وكانت تنتشر في العراق على ألسنة النبط وأهل الذمة،وربما أدى إلى شيوع اللحن،والانحراف عن جادة الصواب اللغوي،حتى وصل الأمر إلى الشعراء والأدباء..!! .
وكان اللغويون لهم بالمرصاد،فمن انحرف منهم عن جادة الفصحى شنّعوا عليه وقوّموه، إذ كانوا يعدّون أنفسهم حماة الفصحى.([1])كما نجد اللغويين يتعقبون الشعراء في أساليبهم، فإن ظهر من أحدهم انحراف عن الفصحى أنكروا عليه أشدَّ الإنكار،ولو كان يقيس على بعض أبنية العرب المسموعة،ومن ذلك اعتراضهم على(بشّار بن بُرد) في قوله ([2]) :
فَالآنَ أُقْصرُ عَنْ شَتِيمَةِ بَاطِلٍ ... وَأَشَارَ بِالوَجَلَى إلَيَّ مُشِيرُ([3])
و(الوَجَلى) مصدرٌ صاغه على وزن (فَعَلى) وفيه ما مر في قوله: الغَزَلى، وهو مشتق من الوَجَل، أراد به التقوى، أينصحنِي ناصحٌ بالخوف من الله، أو أراد أنه لما أقصر عن الشتيمة لمزه من يلمزه"([4]).
و مثله قوله:
على الغَزَلى مني السلام فربما ... لهوتُ بها في ظلِّ مخضلَّةٍ زهر
ولم يسمع من (الوجل والغزل)على (فَعَلى)،وإنما قاسهما قياسا.وليس هذا مما يقاس، إنما يعمل فيه بالسماع.فأخذ كثير من اللغويين يحمل عليه مخطئا له([5]).
فقوله:على الغَزَلَى....و(الغَزَلَى): مصدر غَزَل يَغْزِلُ (كضرب) غزْلًا وغَزَلَا بالتحريك، إذا مزح مع النساء حبًّا لهن وذكر محاسنهن. ولعله مشتق من الغَزَل؛ لأن المحب إذا تحبب إلى النساء فهو كمن يغزل غزلًا لينسج به. ونظيره قولهم: يفتل منه في الذروة والغارب([6]).
يبدو أن الشاعر (بشّار ) رأى العرب يصوغون من الفعل على:(فَعَلَى) للدِّلالة على السُّرعة فيقولون (حجَلَى) للدلالة على سُرعة السَّير، فقاس على هذه الصيغة وجلى من الوَجَل .
والشاعر(بشار)محقٌّ،لأن من حقه القياس،وأنّ صيغة(فَعَلَى) وردت عليها ألفاظ ليست قليلة فمن ذلك:
ناقةٌ (شَمَجى)،أَيْ:سريعَةٌ،ويقال:لقيتُه (النَّدَرى)،أَي:في النَّدَرة،يَعْني بين الأَيام.ويُقالُ:دعوتُهم (النَّقَرى)،وهو:أَن تدعَوُ بعضاً دونَ بعض.وقولهم:الناقةُ تَعْدو (الجَمَزى)،من الجَمْزِ.وجاءت الخيلُ تَعْدو (القَفَزى)،من القَفْز.ونَاقَةٌ (مَلَسى)،يُريد تَمْلُسُ وتَمضي.وامرأَةٌ (هَمَشى) الحديثِ،وهي التي تُكِثرُ الكلامَ وتُجلِّبُ،و ناقةٌ (مرَطَى)،أَي: سريعةٌ.ودعوتُهم (جَفَلَى)، وهو أَن تدعوَ جماعَتهُم، قال طَرَفَةُ:
نحنُ في الْمَشْتاةِ نَدْعو الجَفَلى ... لا تَرى الآدِبَ فينا يَنْتَقِرْ([7])
ويُقالُ: الناقةُ تَعدو (الوَكَرى)، وهي العَدْوُ فيه نَزْوٌ.و تعدو (الوَلَقى)، وهو مثلُ الوَكَرى([8])
وعليه كان يجبُ على علماء اللغة النظر بعقلية اللغوي الذي يرى أنَّ اللغة كائن يتطور،وأنّ ابن اللغة وخاصة إذا كانَ شاعرا له الحقُّ في أن يقيس...
المصادر :
- تاريخ الأدب العربي،الدكتور شوقي ضيف، الطبعة: الأولى، 1960 ،دار المعارف – مصر.
- جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور،جمعها وقرأها ووثقها: محمد الطاهر الميساوي، الطبعة: الأولى، 1436 هـ - 2015 م،دار النفائس للنشر والتوزيع، الأردن.
- ديوان بشار بن برد: تحقيق محمد الطاهر بن عاشور، القاهرة.
- معجم ديوان الأدب، أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم بن الحسين الفارابي، ت: 350 هـ، تحقيق: دكتور أحمد مختار عمر، الناشر: مؤسسة دار الشعب للصحافة والطباعة والنشر، القاهرة، 1424 هـ.
- الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء المرزباني، تحقيق: علي محمد البجاوي،1965، القاهرة
[1] - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف (4/ 180)
[2] - الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء (ص: 313)
[3] - هذه الرواية للبيت، وأورد البيت على النحو الآتي: فَالآنَ أُقْصرُ عَنْ شَتِيمَةِ بَاطِلٍ ... وَأَشَارَ بِالوَجَلَى إلَيَّ مُشِيرُ
ثم علق عليه بقوله: "ورواه في نسخة الأغاني: فَالآنَ أَقْصَرَ عَنْ سُمَيَّةَ بَاطِلي، وكذلك تناقلته كتب الأدب. والصواب ما في الديوان، والآخر تحريف لا محالة إذ لا ذكر لسمية في شعر بشار. ينظر جمهرة مقالات ورسائل الشيخ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور (4/ 1701)
[4] - ديوان بشار بن برد، ج 2/ 3، ص 266 (الحاشية رقم 1).
[5] - الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء (ص: 313)
[6] - ديوان بشار بن برد، ج 1/ 1، ص 130 (الحاشية رقم 1).
[7] - معجم ديوان الأدب (2/ 7)
[8] - معجم ديوان الأدب (3/ 244)
|