• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : ما بين الخيال والواقع .
                          • الكاتب : د . عبد علي سفيح الطائي .

ما بين الخيال والواقع

 اكتب هذا المقال كثمرة حوار دار بيني وبين الشيخ ليث العتابي، وهو استاذ في حوزة النجف، وكاتب لأكثر من ثلاثين كتاباً، اختصاصه قرآني ومعرفي، ومطلع على النظريات الحديثة، وكتب عنها، وله نقد موضوعي لبعض الاطروحات، ولي معه محاورات كثيرة في مجال المصطلحات والنظريات، وكان له اطلاع جيد عليها من حيث الفكرة والتأسيس، وهو مثال للباحث النشيط الذي لا ينفك عن القراءة والاطلاع والتأليف.

من خلال حديثنا قبل أيام معدودة حول كتابة النص والخطاب في العراق، وجدنا بأنه وبصورة عامة يملك خصائص تميزه عن باقي الخطابات والنصوص المعرفية الأخرى وخاصة الاوربية، لأن يُدخل في إنتاجها أموراً فنية دقيقة، فيضفي عليها جمالية إبداعية وقوة خيال ودقة في اللغة والبلاغة. هذه الخاصية تجعل جمال النص (الخطاب) وقوة محتواه البلاغي يطفئ ويحجب  قوة الفكرة واصالتها. بينما على العكس  تبدو جلية عند مقارنتها مع نظيره الأوربي حيث لم تتشرب العقلية الغربية بالخيال وجمال الوصف (الرسم الوصفي) والبلاغة بل هم يحاولون ان يبرزوا الفكرة حتى لا تضيع تحت ركام جمالية الوصف واللغة.

 

لذلك فقد وضعنا السؤال التالي وهو:

لماذا يغلب على كتابة النصوص والمقالات في العراق جمالية الوصف والعمومية  وهندسة اللغة وتحول الفكرة إلى نص ادبي رفيع بدل بروز الفكرة وتحليلها والغوص في عمقها؟

 

الجواب هو: إن الكاتب يرى جودة مقالاته حين تنتعش عنده ملكة الخيال وتتوهج، ومتى ما انتعشت عنده هذه الملكة أثمرت كتابات متميزة وذات لون أدبي عالي النسق، وهذا النسق والنهج محكوم بالموروث الاجتماعي والثقافي والتاريخي.

إن العرب بصورة عامة، والعراقيون بصورة خاصة، أمة شعرية، أي: تجيد الشعر. وهي أمة الخيال، أي بعيدة عن الواقع، تعيش في الخيال والمجاز، والمجاز غير الحقيقة، كما أنها وفي نفس الوقت أمة كرم وضيافة ولذلك تجد كلمة (الله كريم) هي الغالبة على اللسان عندهم، بدل (الله رحيم) او (الله عادل).

إن العراقي يحمل هذه الثنائية، شاعر ويتغير مزاجه بسهولة، لكن لا تتغير ثوابته مثل الكرم والغيرة ونبذ الظلم.

هذه المواصفات انتقلت الى السياسيين فهم مثاليون بعيدون عن الواقع، لذلك نرى جل الأحزاب السياسية العلمانية منها والإسلامية لا تحب أفكار واطروحات الدكتور علي الوردي لانه واقعي وليس مثالي.

إن هذه المثالية والخيال جائت من الصحراء، والصحراء تمثل أكثر من ٨٠ بالمائة من مساحة العالم العربي.

الصحراء، هي مكان الترحال، وهي انطلاق الذات، فهي كالبحر، هي السفر إلى عالم مجهول، إذ أصبح البحر والصحراء معنى للضياع، وكنت في حديث مع الاستاذ حسن العلوي حول هذا الموضوع فقال لي: أن كلمة الرحلة التي يجلس عليها التلميذ هي اشتقت من الصحراء، لأنها تعني التلميذ يسافر في عالم المعرفة.

الصحراء تعزز الذاكرة وتحطم التاريخ، وعرب الصحراء لا تاريخ لهم لأن الذاكرة فردية، أي يتذكر الإنسان ما مر به شخصياً ويحن اليه.

الصحراء تعزز الفردية والشعر الغنائي، اي الشعر الذي يعبر عن ذاته وهو شعر ذاتي شخصي وليس شعراً ملحمياً يعبر عن الأمة، فهو يدافع عن قبيلته من خلال ذاته، فهو قبلي لكن يعبر عن قبيلته بأسلوب ذاتي شخصي وليس جماعي.

مثل قول المتنبي:

انا الذي نظر الأعمى إلى ادبي   ***   واسمعت كلمات من به صمم.

في الصحراء ولدت لغة عربية شريفة خالية من الكلمات التي تدل على الدناءة، وقد تكون قليلة جداً مثل: ثكلتك امك، يا ابن البوالة على عقبيها، وقبح الله وجهك، ما ابقاك الله.

إن المعجم العربي معجم اخلاقي في القيم، فالشعراء مثل جرير وابو نؤاس والحطيئة لم يستطيعوا أن يعملوا ديوان شعر للانتقاص من قيمة الآخر، والسبب لان اللغة العربية لا تسعفهم.

الصحراء تشجع الخيال وتنظيم الشعر، فعندما تجف منابع الماء، تبرز منابع اللغة، لأن المياه والخضراء تمنع الخيال، والخيال يولد مع الحرمان، ومن أعظم شعر الغزل الذي يوجد في الصحراء.

اما في العراق ومصر لا نجد فيهما شعرا للغزل إلا ما ندر. فمصر أيضاً مثل العراق أكثر من ٧٥ بالمائة من مساحتها صحراء،  فيها شعراء كثر إلا أن شعرهم يتميز بالخيال والقليل جداً من الاسطورة. لكن شعراء العراق يتميزون بعمق الخيال وقوة الاسطورة، واذا ما قرأنا الشعر في رثاء الإمام الحسين عليه السلام، نجده يحتوي على هذه الثنائية. وتتفاعل المشاعر بقدر قوة الشعر، عند رموز من الشعر الحسيني مثل عبد الحسين ابو شبع، وكاظم منظور الكربلائي، والقصاب، و...الخ

 

فما السبب؟

الجواب: هناك عاملان مهمان وهما:

العامل الاول: إن العراق هو مهد الحضارات، وكتبت فيه اول اسطورة بشرية قبل ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، اي قبل ثلاثة عشر قرناً قبل الأساطير الإغريقية، ومن أشهرها اسطورة او ملحمة كلكامش.

العامل الثاني: الجغرافية، فيرتبط العراق بايران، وإيران مع الهند لديهم موروث تاريخي كبير في الأساطير، التي تمزج الخيال بالأسطورة مثل قصص العفاريت والجن والسحر والخوارق، وما شاكل ذلك.

ويؤكد ذلك الشيخ ليث العتابي بقوله: وهذا كان له ارتدادات كبيرة جداً على الواقع العلمي والعملي في الإسلام، وبالخصوص في الأدلة، أي الأدلة على القضايا، فالكل يعلم ان الأدلة ثلاثة هي: الدليل العقلي، والدليل النقلي، والدليل العلمي، ومن الممكن ان تصاغ هذه الأدلة بخطاب يطرحها بصورة تجعل من يسمعها يذعن بها، لكن ان يضاف دليل آخر هو الدليل (الخطابي) فهذا مخالف للنهج العلمي الصحيح، لكن ومع شديد الأسف قد جُعل ما يسمى بـ(الدليل الخطابي) هو المقدم، وهو قائم على المقايسة، والاستقراء الجزئي الناقص، مع تحشيد الكلمات لإسكات الخصم، نعم لربما سيسكت الخصم فترة، لكنه ضعيف وسينهار أمام طرح خطابي مقابل له، فضلاً عن انهياره أمام الأدلة العقلية والنقلية والعلمية، كل ذلك بسبب الخيال والأسطورة التي دخلت حتى في الأدلة.

ملخص القول هو: إن كتابة النص والخطاب العراقي هو حصيلة ثنائية الخيال والاسطورة، والفكرة عندهم لم تكن من الأهمية بقدر فن الخيال والاسطورة، وهنا فإن المثالية تغلبت على الواقعية والعقلانية.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=143529
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2020 / 04 / 15
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19