• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع :  ماذا تفعل بنا.. أيها العدو الخفي؟ .
                          • الكاتب : الشيخ مصطفى مصري العاملي .

 ماذا تفعل بنا.. أيها العدو الخفي؟

 وأنا جالس في المساء أتابع عبر شاشة التلفاز بثاً مباشرا لليلة الخامسة من ليالي شهر محرم الحرام والمخصصة عادة عند الخطباء لمجلس مسلم بن عقيل وذلك على قناة الكميل الفضائية وكان المقرئ هو السيد نصرات قشاقش.،  
وفي حديثه توقف عند محطة تعكس جانبا من شخصية مسلم بن عقيل، عندما رفض اغتيال ابن زياد في الكوفة اثناء زيارته لهاني بن عروة، تجسيدا للمبادئ التي يؤمن بها.
ذهب بي الخيال في تلك الساعة بعيدا عند هذا السلوك الذي يعكس انموذجا لصراع دائم في الحياة بين انموذجين لهما لغتان مختلفتان في القراءة والتفسير.
لغة المصالح والتي يتبنى أصحابها نظريات التبرير ويعملون على تسخير المبادئ لخدمة المصالح ضمن نظرية الغاية تبرر الوسيلة، وبالتالي فإن مسلم بن عقيل وفق تلك اللغة ينظر اليه بأنه أضاع فرصة ذهبية للتخلص من عدوه الذي جاء بقدميه الى مكان حتفه، وبالتالي فإن السيطرة لمسلم بن عقيل ستكون متحققة على الكوفة تمهيدا لوصول الحسين عليه السلام اليها بعد التخلص من ابن زياد..
إذ لم يكن أمام مسلم بن عقيل لتحقيق هذا الهدف إلا أن يخرج من الغرفة الثانية شاهرا سيفه ويقضي على العدو الخطر الذي تسلل الى الكوفة من ناحية الحجاز متنكرا بلباس يشبه لباس الهاشميين، ومتلثما،  حتى ظنه من رآه يرتدي تلك  الثياب وقادما من تلك الجهة، أنه الحسين وراحوا يستقبلونه قائلين اهلا بك يا ابن رسول الله، 
ودخل الكوفة واستولى على قصر الامارة وبدأ ببث الرعب بين الناس حتى اضطر مسلم الى ان ينتقل من مكان الى مكان آخر متخفيا، وها هو العدو قد وقع في الشباك فما على الصياد إلا أن  يمسك بطريدته ويقضي على عدوه، ولكن مسلم عند هؤلاء  أضاع تلك الفرصة التي كان ثمنها غاليا، عليه وعلى الآخرين، فقد قُتل مسلم بعد أيام مع مضيّفه هاني بن عروة ، ويقتل الحسين وصحبه بعد ذلك، ويتغير وجه التاريخ..
 فمسلم بن عقيل وفق هذه اللغة لغة المصالح التي يؤمن بها أصحابها قد فشل. 
أما لغة المبادئ، هي لغة أخرى لا ربط لها بتلك اللغة، وهذه كانت لغة مسلم بن عقيل التي نطق بها وعمل على طبقها، فقد كان مسلم بن عقيل في تلك المهمة الى الكوفة يمثل الحسين، أليس هو ثقة الحسين الى أهل الكوفة؟ وفق الرسالة التي حملها معه الى العراق؟
ومن هو الحسين ؟ إنه بن علي والزهراء، وهو ابن رسول الله خاتم المرسلين، الذي قال فيه المصطفى ، الذي لا ينطق عن الهوى: حسين مني وأنا من حسين،  
والحسين هو وارث علي الذي كشح عن ابن العاص عندما كشف عورته أمامه، وتركه ليولي هاربا في تلك المعركة دون ان يقتله، وابن العاص هو نفسه الذي أشار على معاوية بخدعة رفع المصاحف في صفين التي حولت مسار الحرب يومذاك، فأخلاقيات علي رفضت ان يقضي على هذا العدو الذي استطاع فيما بعد ان يغيّر  بخدعته مسار الحرب.
والحسين هو وارث رسول الله، الذي وصفه الله تعالى بأنه على خلق عظيم، وهو الذي قال له رب العزة، (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات )عندما كان يتألم على المنحرفين من قومه، وهو الذي كان يتغاضى عمن يحيط به من المنافقين حتى قالوا عنه هو أذن ، فقال الله أذن خير..
 والحسين هو وارث الأنبياء والمرسلين، وهو وارث منظومة القيم الإلهية على الارض ، فالحسين يجسد المشروع الإلهي على الأرض، 
ومسلم بن عقيل هو ثقة الحسين وسفيره، فهل يمكن له ان يمارس الغدر؟
أليس عمه علي عليه السلام هو القائل: والله ما معاوية بأدهى مني ولكنه يغدر ويفجر ولولا كراهية الغدر لكنت من ادهى العرب.. فهل يمكن لمسلم ان يغدر؟
وأنا أعيش في هذه الأجواء وإذ بصورة تبرز امامي على الشاشة، إنها صورة الأخ العزيز محمد الدر الذي كنا نناديه بالاسم المحبب اليه ساجد ، وكثيرون لا يعرفونه الا بهذا الاسم.
في سجل الذكريات، أمضينا معا أياما واسابيع وشهورا وسنوات في الزمن الجميل الصعب، كان يتمايز عن الكثيرين ممن معنا بعدة خصال، لست في صدد الحديث عنها الان،  فظننت عندما رأيت الصورة على شاشة الكومبيوتر أنها صورة جديدة له قد نشرها  على صفحة له على الفايسبوك في مناسبة أيام عاشوراء.
 توقفت عما كنت فيه لأتأمل تلك الصورة واستذكر بعض تلك الذكريات، أليست القيم والمبادئ هي التي كانت تحركنا ؟ ألم يكن ساجد واحدا ممن عاش مع المبادئ بعيدا عن لغة المصالح؟  ألم يكن بإمكانه أن يستغل ويستفيد ويستجيب لشتى الاغراءات؟ هكذا أعرفه في تلك الحقبة.. وإذ بي افاجأ بما كتب تحت الصورة من تعليقات تدعوا  له بالرحمة وتهديه الفاتحة..
يا الهي.. ماذا أقرأ! منذ دقائق ارتحل عنا الى عالم الخلود..ماذا جرى؟ 
تخيلت في البداية ان يكون قد حصل معه حادث سيارة او شيئ من ذلك وهو الذي كان يقود السيارة في المهمات الصعبة، والخطرة، ولكن لم أجد في الكتابة ما يشير الى حصول حادث..
تواصلت مع اعزاء وأصدقاء.. لمعرفة حقيقة الخبر أولا، وما الذي جرى ثانيا.
وكان الجواب الذي أطار النوم من عيني وجعلني اجلس مع ذكرياتي وقلمي.. 
نعم.. لقد رحل ساجد منذ دقائق.. والسبب إصابته بكورونا..
لقد اصابه منذ أسبوع عدو خفي تسلل الى جسده وتمكن منه قبل قليل فقتله ، 
قاومه ساجد بإرادة صلبة دون ان تظهر عليه أية عوارض، وبقي في منزله وحيدا 
وكانت رغبته ان ينهي فترة الحجر المنزلي اليوم او غدا.. فقد كان يعتقد انه انتصر على هذا العدو الذي تسلل الى جسده.
ولكن سرعان ما ظهرت عليه عوارض ضيق التنفس، كملاكم يرقص على الحلبة فيسقط بالضربة القاضية، ها هو كورونا الذي تغلغل الى جسد  ساجد من أسبوع قد ظهرت عوارضه وتمكن منذ ساعتين من أن يقطع الهواء عن ساجد فلفظ أنفاسه في المستشفى ، بعد أن عجز عن استنشاق الاوكسجين.
ساجد.. الذي لم يقتله الرصاص في أكثر من معركة او مواجهة، او تؤذيه قذيفة او تنفجر فيه عبوة رغم انه كان منها جميعا وفي اكثر من مناسبة ومهمة، قاب قوسين او ادنى، 
لقد سلم في كل تلك المحطات، وأدى كل تلك المهمات، وما أن تبدلت ظروف الحياة وسكتت أصوات الرصاص وانتهت المهمات الصعاب، حتى تابع المسيرة على أكثر من محور، في كشافة الرسالة الاسلامية، وفي التعليم الرسالي، وغير ذلك من أنشطة ثقافية واجتماعية تركت اثرها على اكثر من صعيد..
وإذ به يرحل سريعا على يد عدو مجهول لا يراه أحد، ولا يعرف عن مدى فتكه أحد، ولا يعرف كيفية الانتصار عليه أحد.. 
عدو لا يمكنك ان تهاجمه، فما أن يتسلل الى جسدك حتى يفتك بك فتكا لا مثيل له..
  أيها العدو الخفي 
الذي لا يزال يجول بين الشرق والغرب مصيبا الملايين من البشر، 
ها قد اخترت اليوم ساجدا ليكون واحدا ممن تخطف حياتهم؟ فمن ستخطف بعده؟
من أرسلك أيها العدو الى بني البشر؟ هل أنك نذير عقاب لهم؟ بما كسبت أيدي الناس؟  أم أنك صرخة لبني آدم لكي توقظهم من سبات عميق؟
ما أشد فتكك أيها العدو وما أسهل ردعك عن مهماتك.. 
وما أكثر تهاون الناس في قطع سلسلة اتصالك بهم، لكي يمنعوك من الفتك بهم.
أيها العدو المجهول،
 إنك تضحك كثيرا من بني البشر، من أناس لا زالوا يشككون بوجودك، ويعتبرونك جزءا من مؤامرة يرسمها خيالهم، فهم لم يروك، ولا يصدقون انك انت الذي تفتك بمن تتسلل الى أجسادهم في كل يوم، ويتكاثر عددهم في كل ساعة.. رغم ان منعك من أسهل الأمور.
لك الحق في أن تضحك على مثل هؤلاء، فهناك من بني البشر من لو وصلوا الى باب جهنم يوم القيامة وقيل لهم هذه هي النار هل تروها؟ هذا مصيركم نتيجة لعملكم في الدنيا، فيقولون : رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ، فأصحح عملي وأحصل على نتيجة أخرى، ولو تم ارجاعهم، وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ مكذبين بصرهم نافين صحة ما رأوه  متهمين أنفسهم  و: لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ.
نعم لك الحق في ان تضحك على هؤلاء فهم الذين قدموا اليك باختيارهم وإهمالهم ومكنوك من أن تتسلل الى أجسادهم ، ولم يحيجوك الى ان تزحف اليهم،
أيها العدو..
ما اكثر من فقدنا في هذه الأشهر على يديك، كان الظن في البداية ما بان أنه وهما هو انك لا تفتك الا بالعجزة الضعفاء ، وإذ بك لا توفر انسانا كبيرا او صغيرا عالما او متعلما او حتى طبيبا.
فهل سنصل أيها العدو الى مرحلة الوعي والادراك فنقطع عليك السبيل في ان تتسلل بعد أن قطعت سبل العباد؟ ونقضي على ضحتك؟
عندما شاهدت رؤيا منذ أيام ، وأن جدارا ينهار من البنيان، أدركت ان شيئا ما سيحدث، وقصصتها على والدي فأكد ذلك قائلا ، نعم ستفقد عزيزا وتتأثر عليه.
لم يكن يخطر ببالي في تلك الساعة ان يكون الراحل هو ساجد..
سأزين مقالي بصورتك الاخيرة المطبوعة في ذاكرتي منذ ان التقينا في كربلاء والتي لن تذهب من مخيلتي ابدا، والتي نشرها الأخ العزيز الحاج محمد نعمة لك وأنت أمام مقام العباس عليه السلام، 
فها أنت رحلت في أيام عاشوراء، وفي أيام كربلاء. وكم كنت اشعر ان لك علقة بكربلاء. 
رحمك الله يا ساجد.. مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ...أنتم السابقون ونحن اللاحقون...وإنا على فقدك يا ساجد لمحزونون. 
نؤمن أن الموت حق، وقد خط على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، ولكن ما يؤلمني هو أن  يتمكن هذا العدو الخفي من التمكن منا، مع قدرتنا على قطع دابره تسلله، وهذا لا يحتاج منا الا ان نمتلك  قدرا أكبر من المسؤولية..  
 الى روحك الفاتحة




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=147631
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2020 / 08 / 25
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28