لا أخفيك ، فإنّي إحترت في كتابة العنوان بالطريقة غير المؤدّبة التي تلفّظ بها بعض أدعياء العلم ، فكلما كتبت شطرا من مقولته بأنّ المرجعيّة عاكفة على دراسة أحكام النساء أو الطّهارة! ، تردّدت يدي في كتابة مثل هذا العنوان " البائس " ...
وذلك لأنّي على دراية بالجهود الجبّارة التي يقوم بها الفقيه ، وعلى معرفة بالجهد المضني الذي يبذله لإستخراج الحكم الشّرعي ..
وكلمحة بسيطة ، فأنا أتذكّر أوّل دراستي لعلم الأصول المقرّر في الحوزة الشّريفة ، كنتُ - ولا أبالغ - أضع الكتاب بمطلبه العلميّ على جانب ، وأحتار في فهم طريقة تفكير أعلام هذا العلم ، فهم من أعاجيب هذا الزّمان ، لعمق نظرتهم ودقّة فكرتهم وإستيعابهم المطالب الفكريّة بأدقّ تفاصيلها ، فأنا أتذكّر مطلبا عرضه الشيخ المظفّر ذكر فيه رأي الشيخ الأنصاريّ عرضا سريعا ، ولمّا إنطوت أبحاث الكتاب ، حتّى تظنّ أنّ ذلك المطلب لا أثر له في بقيّة الأبحاث ، عاد ليكون حلقة رئيسيّة في مطلب قد يكون أبعد شيء عن الإرتباط به ، وكانت طريقة الربط مثيرة للتعجّب ، وقد كان الكتاب المعدّ للدراسة بسيطا إلى حدّ ما ، فكيف بمثل " كفاية الأصول " التي تحتاج عبائرها قبل المحتوى إلى مخاض عسير لإنتزاع أقربها إلى مراد المصنّف ، ومن تلك الملحوظة وغيرها عرفت أنّي أمام جبال شاهقة ، وعلامات فارقة .. لا يتبجّح أمامها مدعّ للعلم بأيّ شيء ...
فلا ملامة إذا تردّدت في كتابة مثل هذا العنوان ...
وأعود لأقول :
إنّ الإستهزاء والسّخرية من قيام الفقيه بإستنباط الأحكام الشرعيّة من أوّل كتاب العبادات إلى آخر كتاب المعاملات ، يتضمنّ قهرا الإستخفاف والإستهانة بنفس الحكم الشّرعي ، لوضوح أنّ الأحكام الشرعيّة ليست من إصدارات الفقيه ، بل هي أحكام الشّرع الحنيف ، فمَن يعيّر صاحب مهنة بمهنته لا شكّ أن الإزدراء والتنقيص يصل إلى نفس المهنة ...
وإذا كان كذلك فإنّ الإستخفاف والإستهانة بالأحكام الشرعيّة يعود إلى الإستخفاف بالدّين أصلا ... ويحقّ أن تلطم الرؤوس على ذلك .. حينما تصدر من مدعّ للعلم والفضيلة ... وهو يكشف عن هشاشة في الورع والتقوى ، وعن تخبّط في المنهج ، وعن رداءة في السلوك ... فهل مثل هذا يتصدّى للأمانة الثقيلة ؟!
وإليك ما ورد عن أبي جعفر عليه السّلام قال: أتاه رجل فقال: وقعت فأرة في خابية فيها سمن ، أو زيت ، فما ترى في أكله؟ قال: فقال له أبو جعفر عليه السلام: لا تأكله، فقال له الرجل؟ الفأرة أهون على من أن أترك طعامي من أجلها قال: فقال له أبو جعفر عليه السلام: إنّك لم تستخف بالفأرة ، وإنما استخففت بدينك ، إن الله حرم الميتة من كل شيء
|