في ظلامِ الجاهلية، كانت توأدُ في أيامِها الأولى، وإذا بُشِّرَ أبوها بولادتِها اسوَدَّ وجهُه وكظمَ غيضه، واحتُقِرتْ أُمّها لأنّها ولدتْ أُنثى، فإنْ بلغتْ من حظيت بالبقاءِ على قيد الحياة منهن، زوّجوها بمن يرغبون، أو أجبروها على البِغاء، أو أجلسوها في مجالسِ الخمر والغناء.
فلما جاء نورُ الإسلامِ وأشرق أضاءَ الظُلُمات، وبدّل العادات، وأُكرمت الفتاة. وعندَ ولادةِ سيّدةِ نساء العالمين (عليها السلام) تعلّمَ المسلمون كيفَ تُقدَّرُ البنتُ وكيفَ تُحترَمُ المرأةُ سواء كانت أُختًا، أو زوجةً، أو أُمًّا، أو جارةً، وأُعطيتْ حقوقها كاملةً غيرَ ناقصةٍ، وجعلَ الإسلامُ لها حرمًا وحريمًا فلا تُقذَفُ ولا تُتهَمُ ولا يُنظَرُ إليها بريبةٍ إذا التزمتْ بسِترِها وحجابها.
وبعد ١٤٠٠ عامًا تأتي بعضُ الأصواتِ النكرة، والجهاتُ المدفوعةُ لتُعيدَ المرأةَ إلى جاهليتِها الأولى تحتَ مُسمياتٍ ودعواتٍ كـ(حريةِ التعبير، المساواة مع الرجل ، الفيمنست، المثلية) لتحقيق أغراضٍ ومُخططاتٍ هدفُها دفنُ الهويةِ الإسلاميةِ، ومُحاربةُ الشخصيةِ المُتدينة.
وللحديثِ حولَ نظرةِ الإسلامِ للمرأةِ وتفسيرِ بعض الآيات الخاصة بالنساء كان لنا حوارٌ مع الأُستاذةِ الفاضلةِ الدكتورة مواهب الخطيب*، وقد طرحتُ عليها بعضَ الأسئلةِ فأجابتْ عنها مشكورة:
السؤال الأول: باعتباركم أُستاذة في علومِ القرآن برأيكم مَنِ المؤهّلُ الذي يستطيعُ الخوضَ في الدينِ وتفسيرِ آياتِ القرآنِ الكريم؟
وماذا تقولون لمن يقولُ بأنَّ القُرآنَ وإنْ كان كلامًا إلهيًا فإنّه (قولٌ لغوي) وهو شأنُ أي قولٍ لغوي، قابلٌ لتفاسيرَ شتى؟
الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، وصلِّ اللهمَّ على سيدِنا مُحمّدٍ وآلِه الطيبين الطاهرين..
الأختُ الفاضلةُ الكريمةُ، شاكرة لكم عقدُ هكذا حواريةٍ لتثقيفِ الفكرِ المُسلمِ بما يدورُ حولَه من شُبُهاتٍ تستهدفُ نصَّ كتابِ اللهِ المجيد، والهدفُ الأصلي منه انفلاتُ المُجتمعِ ممّا يُقدَّمُ إليهم من أطروحاتٍ علمانيةٍ أو بدعوةِ ما يُسمّى الحداثة وهذه القراءات الهرمنيوطيقيا*١ للنصِّ القُرآني..
أجبتُ في كتابي تعدّدُ القراءاتِ في فهمِ النصِّ القرآني حولَ بعضِ هذه الشُبُهاتِ المطروحة من قبيل نظرية (موت المؤلف) أيّ إنّ هذا النصَ الذي أُنزِلَ عبارةٌ عن أيّ نصٍ من أيّ مؤلفٍ قابلٍ لأن نضعَه تحتَ مِطرقةِ النقدِ بما يُسمّى بـ(علم الألسُنيات)، والحقيقةُ أنَّ النصَ القُرآني نصٌ فوقَ مستوى البشر، وكلامٌ على حدِّ تعبيرِ موريس بوكاي*٢ "إنّه كلامٌ لا يستطيعُ أنْ يقولَه إلا خالقٌ، ولا يصدرُ إلا من خالق".
النظرياتُ الهرمنيوطيقيا الألسُنية لقراءةِ النص؛ بمعنى أنَّ القواعدَ اللُغويةَ الحاكمةَ على النصِ نجعلُها معيارًا بغضِّ النظر عن مُرادِ المؤلف أو ما يُسمّى اليومَ بـ(نظرية موت المؤلف) التي أسّسَ إليها رولان بارت *٣
القضيةُ أنّ هناك نظرياتٍ هل إنّ هذا النص المكتوب يحملُ معنىً دلاليًا لكُلِّ كلمةٍ وكُلِّ حرف؟
أم إنّه ينقلُ ما يُريده المؤلف؟
أو إنّ فهمَ القارئ هو من يُشكِّلُ النص؟
هذه نظرياتٌ مطروحةٌ، قد أجبنا عنها في كتابنا (تعدد القراءات في فهم النص القرآني)، طبعًا بعضُ ما يُسمّى اليومَ بالإسلام الليبرالي أو الذين يُريدون أنْ يُنسِّقوا بين النظرياتِ العلمانيةِ والنظرياتِ الإسلاميةِ وقد اتخذوا مذهبًا التقاطيًا من ها هُنا وها هُناك، واللطيفُ أنّهم يستشهدون بما قاله مولى الموحدين أمير المؤمنين (عليه السلام): "إنّ القرآن حمالٌ ذو وجوه"!
كُلُّ هذه المجموعة من الشبهات التي تردُ إلى الأذهانِ تحتاجُ إلى الردِّ عليها، من أنّه مع وجودِ المعنى الدلالي لكُلِّ حرفٍ وكُلِّ كلمةٍ لأنَّ القُرآنَ عربيٌ "قرآنًا عربيًا لعلّكم تعقلون" إذًا نستطيعُ فهمَ القرآنِ باللُغةِ العربية لكن أنْ لا يكونَ المعنى مُحمّلًا على النص، لا الذي يُريدُ أنْ يُصادرَه القارئ، والمعنى قطعًا يحملُ مُرادَ المؤلفِ لا الذي يصقلُه القارئ..
أمّا سؤالكم: هل أيُّ أحدٍ يستطيعُ أنْ يخوضَ في القرآن الكريم، لا أُختي الكريمة فهل التطفُل على بقيةِ الاختصاصاتِ يكونُ جائزًا ؟
هل يستطيعُ الذي لم يدرسِ الطبَّ بشكلٍ صحيحٍ أنْ يفرضَ رأيه ويُبيّنَ ما المُرادُ من هذه الجُزئية، ونحنُ اليومَ في جائحةٍ عالميةٍ، فهل يستطيعُ كُلُّ واحدٍ أنْ يُفتيَ برايه عن كورونا؟
قطعًا ليس كذلك، إذًا هناك شروطٌ لقارئ النصِّ القرآني تحديدًا، من له صلاحيةُ التكلُّمِ وتفسيرِ القرآن، فبعدَ دراساتٍ مُضنيةٍ يجبُ أنْ يكونَ متبحرًا باللُغةِ وبالفقهِ الاسلامي وباقي العلومِ التي تعنى بدراسةِ النصِّ القُرآني تحديدًا كشأنِ النزولِ، وأسبابِ النزولِ، والناسخ والمنسوخ، والمُجمَل والمُبيّن والمُفصّل، والمُتشابه والمُحكم، كُلُّ هذه يجبُ أنْ يكونَ على دِرايةٍ بها حتى يستطيع التعاطي مع النص القرآني.
السؤال الثاني:
تعرفون أنَّ أساسَ المُجتمعِ هي الاسرة، ويُحاولُ المُغرضون ضربَ المُجتمعِ الإسلامي بتدميرِ هذا الأساس بمعاولِ التشكيك والتخلُّفِ ودعوى التجنّي على المرأة، ومن المُفرداتِ التي يستدلّون بها هي مُفردة (فاضربوهن) في الآية: "وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً"[النساء/34].
سؤالي هل يحقُّ للزوجِ ضربَ المرأةِ ولأيّ حدٍ يحقُّ له ذلك؟
الجواب:
للإجابةِ عن هذا السؤالِ دعونا نذهبُ إلى كُتُبِ التفاسير للتعرُّفِ على معنى المُفردة وما المقصود منها:
وردَ في مُجمَعِ البيان للطوسي ج 2، ص 44: في قوله (تعالى): "فعظوهن واهجروهن في المضاجعِ واضربوهن"، رويَ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "يحوِّلُ ظهرَه إليها"، وفي معنى الضرب عن أبي جعفر (عليه السلام): "أنّه الضربُ بالسواك"، وفي الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله (تعالى): "فابعثوا حَكَمًا من أهله وحكمًا من أهلِها"، قال: "الحكمان يشترطان؛ إنْ يشاءا فرّقا، وإنْ يشاءا جمعا، فإنْ فرّقا فجائزٌ، وإنْ جمعا فجائزٌ"، وشبيهُه في تفسيرِ الميزان وما روي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله: "إنّما المرأةُ لُعبةٌ من اتخذَها فلا يُضيّعْها".
وقد كانَ يتعجبُ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) كيف تُعانَقُ المرأةَ بيدٍ ضُرِبتْ بها، ففي الكافي أيضًا بإسناده عن أبي مريم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "أيضربُ أحدُكم المرأةَ ثمَّ يظلُّ مُعانقها؟!" وأمثالُ هذه البيانات كثيرةٌ في الأحاديث، ومن التأمُّلِ فيها يظهرُ رأيَ الإسلامِ فيها [تفسير الميزان، الطباطبائي ج ٤ ص ٣٤٩]
لقد كان ضربُ النساء في نشوزٍ وفي غير نشوز مُتداولًا بينَ العرب قبلَ الإسلام، ولا عَجَبَ في ذلك فإنَّ المرأةَ التي تُدفَنُ في التُرابِ حيةً، ويُنظَرُ إليها أنّها كَلٌّ على مواليها، لا تفكُّ عانيًا، ولا تكسبُ رزقًا، ولا تنكأُ عدوًا، فلا عَجَبَ أنْ يكونَ الضربُ أهونَ ما تتلقّاهُ في وَسَطٍ ثقافي كهذا.
لكنِ السؤال الذي يفرضُ نفسَه: هل عالجَ الإسلامُ هذه الظاهرةَ أم أقرَّها وشجّعها؟
لا شكَّ أنّنا إذا فهِمنا هذا النصَّ الواردَ في القرآن، في سياقِه الخاص ثم العام، فهمًا جيّدًا؛ بأنْ نفهمَ المُرادَ بالأمرِ بالضرب، ونفهم الضربَ المُراد بهذا الأمر، ونفهم موقفَ الإسلامِ منه، زالَ عنّا كُلَّ التباسٍ ولاحَ لنا وجهِ القسطاسِ في شريعةِ ربِّ الناسِ (جلّ وعلا).
أولًا: النشوزُ الواردُ في الآيةِ معناه: امتناعُ الزوجةِ عن أداءِ حقوقِ الزوج، ومن صوره ومظاهره المجلية لمفهومه: امتناعُ الزوجةِ عن المُعاشرةِ في الفراش، مُخالفةُ الزوجِ وعصيانه في ما أمرَ به أو نهى عنه، وكانَ من المعروفِ الذي وافقَ الشرع، وما تعارفتْ عليه العقولُ السليمةُ كالخروجِ أو السفرِ بغيرِ إذنِه، وإدخالِ بيتِه من يكرهه، وفي أمورٍ ما لم يكنْ في إجابتِها ضررٌ عليها في نفسِها أو دينِها..
ثانيًا: الأمرُ بالضربِ في الآيةِ أمرُ إباحةٍ للحاجةِ والضرورة، لا أمرَ وجوبٍ ولا أمرَ نُدبٍ، وهذه الحاجةُ أو الضرورةُ تتمثّلُ في دفعِ نشوزِ الزوجةِ وإصلاحِها حفاظًا على عُشِّ الزوجية وبُنيان الأسرة. والأصلُ هو حُسنُ المُعاشرةِ بينَ الزوجين، بتعبيرٍ آخر هي بمثابةِ الاستثناءِ من القاعدةِ الأصليةِ في العلاقةِ الزوجيةِ كما أرادَها ربُّ العالمين في قوله (تعالى): "ومن آياته أنْ خلَقَ لكم من أنفسِكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعلَ بينكم مودةً ورحمةً إنّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكرون"[الروم/21]، وقوله (تعالى): "وعاشروهن بالمعروف"، وكما يدلُّ عليه سياقُ آيةِ النشوزِ نفسِها من سورة النساء.
إذًا السياقُ بما نصَّ عليهِ من لزومِ التدرُجِ في التأديب، من اللينِ إلى الشدّةِ كما هو ظاهر، هو أنْ ينتهيَ إلى منعِ الضرب؛ ذلك أنّ الضربَ بما هو سلوكٌ اجتماعي إنّما يأتي في حالةٍ من الانفلاتِ والغضبِ والعجزِ عن السيطرةِ على النفس، واللجوء إلى العُنفِ المادي للانتقامِ وإشفاءِ الغليل..
أمّا الذي يضبطُ نفسَه لكي يعظَ -والوعظُ مستوى راقٍ من الأداءِ الحضاري- بالكلامِ والإقناعِ بالبينة ثمّ ينتقل إلى ما هو أصعبُ على الرجلِ وهو أنْ يهجُرَ زوجتَه ليس خارجَ المَضجع وإنّما في المَضجع، حريٌ بالذي يتحكّمُ في ذلك أنْ يمسكَ يده عن الضرب.
وفي الواقعِ الذي يُمارِسُ فيه الرجلُ مع زوجتِه الوعظ، فإنِ استعصتْ يُمارسُ معها الهجر، لنْ يحتاجَ منطقيًا إلى مُمارسةِ الضرب؛ لأنّه إنْ ملَكَ لسانَه وغريزتَه، فمنِ الهيّنِ أنْ يملَكَ يدَه"[معضلة العنف: رؤية إسلامية، المقرئ الإدريسي، ص65]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مواهب صالح مهدي الخطيب:
1- دبلوم معارف إسلامية
2_بكالوريوس معارف إسلامية صادرة من جامعة المصطفى في قم المقدسة
3-بكالوريوس معارف إسلامية صادرة من جامعة الزهراء (عليها السلام) في قم المقدسة
4-ماجستير تفسير وعلوم قرآن صادرة من جامعة المصطفى العالمية في قم المقدسة
5- شهادة مُدرِّب مُعتمد في البرمجة اللغوية العصبية من منظمة (afhd)
6- طالبة دكتوراه (مرحلة تدوين الرسالة بعنوان: النظام الجامع للتربية العقلية في القرآن برؤية تفسيرية شاملة) تفسير وعلوم قران من جامعة المصطفى العالمية قم المقدسة.
١-موريس بوكاي، كان طبيبًا فرنسيًا، ونشأ على المسيحية الكاثوليكية، وكان الطبيبَ الشخصي للملك فيصل بن عبد العزيز، ومع عملهِ في المملكةِ العربية السعودية وبعدَ دراسته للكتب المقدسة عندَ اليهودِ والمسلمين ومقارنة قصة فرعون، أسلمَ وألّفَ كتابَ التوراة والأناجيل.
٢-الهرمنيوطيقا: لغةً: لفظٌ يوناني ترجمَه البعضُ بالتأويل مثلَ محمد شوقي الزين في كتابِه (تأويلات وتفكيكات).
واصطلاحًا: ذهبَ أحمد الواعظي إلى أنّ الهرمنيوطيقا تُساوي كلمةَ تفسير، وعرّفَها غيرُه بالقواعدِ والمعاييرِ التي يجبُ أنْ يتبعَها المُفسِّرُ لفهمِ النصِّ الديني.
٣- رولان بارت: ناقدٌ ومُفكرٌ فرنسي، في العام ١٩٦٧ نشرَ مقالته: "موت المؤلف" (لمعرفة المزيد يُراجَعُ كتابُ تعدد القراءات، د. مواهب الخطيب:١٢٩)
|