كثيرٌ منَ الناسِ لايُمَيِّزونَ بينَ القانونِ الطَّبِيعيِّ والقانونِ العِلْميِّ ويَتَعامَلونَ مَعَهُما بِوِزانٍ واحدٍ ويُصَنِّفونَهما تَصنِيفاً واحِداً .وفي هذا المَقالِ ، لاأقْصُِدُ بالقانونِ الطبيعيِّ ماذَهَبَ اليهِ أَرِسطو وتوما الاكويني وهوبز وجون لوك حيثُ تَحَدَثُوا عن الحُقوقِ التي مَصدرُها الحق الطبيعيِّ وتَحَدَثوا عن ضبطِ القانونِ الوَضعيِّ على ضوءِ مقاساتِ القانونِ الطبيعيِّ ؛ لضمانِ العدالةِ وتحقيقِ المُساواةِ بينَ أَفرادِ المُجْتَمَعِ ، وانما أَعني بالقانونِ الطبيعيِّ ، القوانينِ الطبيعيةِ التي تحكمُ الكونَ والعالَمَ الماديَّ .
القَوانينُ الطَّبيعِيَّةُ : هي القوانينُ التي تحكمُ الوجودَ وعالمَ المادةِ ، وهي قوانينُ تَتَّسِمُ بالثَّباتِ والاطرادِ ، ولاتقبلُ التغييرَ والتبديلَ ، وهي تُشَكِّلُ البِنْيَةَ التَحْتِيَّةَ للقَوانينِ العِلْمِيَّةِ .وهي تُمَثِّلُ الحقيقةَ في الكونِ المادي ، التي يسعى العُلَماءُ للوصولِ اليها. وَأَمّا القوانينُ العِلْمِيَّةُ فهي تُعَبِّرُ عن فهمِ العلماءِ للحقيقةِ الموضوعيةِ السابقة . وهي تتسمُ بالتغيرات والتبدلات والتحولات ؛ لانها تتعلق بفهم العلماء النِسْبِيِّ للحقيقة السابقةِ . اذن هناكََ حقيقةٌ موضوعِيّةٌ ثابِتَةٌ ولايمكنُ ان تكونَ نِِسْبِيَّةً . النِسْبِيّةُ مقولَةٌ حداثَويَّةٌ أومن مقولاتِ مابعد الحداثةِ . النسبيةُ تضييعٌ للمقاييس ، وفقدانٌ للبوصَلَةِ والمعايير .كيفَ تكونُ الحقيقةُ نِسْبِيَّةً وهي مُشْتَقَّةٌ من الحَقِّ الذي يعني الثُبوتَ والوجوبَ والامر الثابت .
المَوْقِفُ القُرآنِيُّ من هذهِ المَسْأَلَةِ
--------------------------
القُرآنُ الكريمُ تَحَدَثَ عن هذهِ المسأَلَةِ ولكن تحتَ عناوينَ اخرى ، فتارةً يُعَبِّرُ عنها بالسُّنَنِ وتارةً بالكلمات، والسُّنَنُ هي القوانينُ الثابِتَةُ التي تتسمُ بالثَّباتِ والاطِّرادِ وغيرِ القابِلَةِ للتبديلِ والتغييرِ والتحويل ، وهي تُشّكِّلُ البِنْيَةَ التَّحْتِيَّةَ لدراساتِ العُلماءِ وفهمهم للطواهرِ الكونيّة والنفسية والاجتماعية ؛ لانَّ السُّنَنَ الالهيةَ شامِلَةٌ للكون والانفس والافاق .
السُّنَنُ الالهيَّةُ الثابِتَةُ في القرآنِ الكريم
-------------------------------
القرآنُ الكثيرَ تَحَدَثَ كثيراً عن السُّنَنِ الالهيّةِ في الكونِ والنَّفسِ والمجتمعِ والافرادِ والجماعاتِ والدول. القرانُ الكريمُ قَدَّمَ لنا ثقافَةً سُنَنِيَّةً ، ولكن -للاسف- تَخَلَفَ المسلمون عن ثقافَةِ القُرآنِ السُّنَنِيَّةِ . ومن الايات التي تحدثت عن السننِ الالهية :
(سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا). الاسراء: الاية:77.
(قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ).ال عمران: الاية: 137.
(يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ). النساء: الاية: 26 .
(سُنَّةَ ٱللَّهِ فِى ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلًا). الاحزاب: الاية: 62.
(( فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ). فاطر: الاية: 43 .
وقد عَبَّرَ القُرآنُ الكريم عن هذه السُّنَنِ الالهيةِ الثابتَةِ بالكلمات ، كما في قولِهِ تعالى:
(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰٓ أَتَىٰهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِ ٱللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِىْ ٱلْمُرْسَلِينَ). الانعام: الاية: 34.
(وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ ۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ). الانعام: الاية:115.
(وَمَا كَانَ ٱلنَّاسُ إِلَّآ أُمَّةً وَٰحِدَةً فَٱخْتَلَفُواْ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). يونس: الاية: 19.(كَذَٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ). يونس: الاية: 33.
(لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلْاخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَٰتِ ٱللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ). يونس : الاية: 64
(وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ* لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}. يونس : الاية: 82 .
وخاتمةُ القول : ان هناكَ فرقاً بين القانون الطبيعي الذي يحكم العالم المادي والذي يمثل الحقيقة الموضوعية ، والقانون العلمي الذي يمثل فهم العلماء لقوانين الطبيعة ، ويتسم هذا الفهمُ بالنسبية والتحول والتغير والتعديل والتبديل . والقران عبر عن هذه القوانين الثابتة بالسنن والكلمات . والقران تحدث بشمولية عن السنن الالهية فهي سنن تحكم عالم الطبيعة والنفس والمجتمع والافراد والجماعات . نحن بحاجة الى تفسير سنني للقران الكريم ، ونحن بحاجة الى ثقافة سننية . ابن خلدون كانت مقدمتُهُ دراسة سننية ، وتفسير المنار سلط الضوء على السنن وتفسير العلامة الطباطبائي نلحظ فيه الرؤية السننية في فهم كتاب الله ، والسيد الشهيد كانت له دراسته المتميزة للسنن التاريخية . نحن-المسلمينَ- بأمس الحاجة للوعي بالسنن ، والقراءة السننية لعلومنا ودراسة واقعنا ومعرفة اسباب التخلف
|