لم يأتِ المغترَبَ صديقُنا مخيّرًا. عانى في الوطنِ مُرًّا دفعه قسرًا إلى هجرٍ وانسلاخ!
تأقلم، هكذا نراه اليوم. لكنّ ثمنًا دفعه، كم باهظًا، من يدري؟
طبعًا، يتحلّى بمؤهّلاتٍ علميّة ومواهبَ فكريّة سهّلت انخراطَه في مجتمعٍ جاءه غريبًا... ولكنْ تمكّن بقدراته وفطرته على الخلق أن يتجلّى مبدعًا... فأضاءَ سماءَ مهجره أفكارًا إغترابيّة لأدبٍ راقٍ، قدّمَ للمكتبةِ العربيّةِ منجمَ درٍّ مهجريّ الصفة، لبنانيّ التراث، أدبيّ الإبداع...
كلّ هذا لجهدٍ صبّه زمنًا غيرَ قليل. لعملٍ دؤوبٍ واكبَ نتاجاته الوافرة، حتى سطعَ اسمُه، وحلّق إبداعُه قوسَ قزحٍ ضوئيًّا في سماءاتٍ خرقت الآفاق.
طالَ الوهجُ مهتمّين التحقوا بالركْب، دخلوا المواكبَ المستنيرة، فشعّوا... لموهبةٍ فيهم، ولدعمٍ حيثُ عثروا... وهؤلاء نوعان: فئةٌ تلقّفتِ الموهبة وصقلت حيثُ ضعف. وبعد، عرفت موطنَ الدعم فبقيت تستقي بعرفانٍ يدفق. والفئةُ الأخرى، متى شعرتْ بارتواء، حسبتْ هذا اكتفاءً ذاتيًّا، فانتفختْ، وراحت تعدو وحيدةً، في نكرانٍ جاحد لمنهلِها، فغدت متخبّطةً بما آلت إليه، لا تعرف كيف تحافظ على مكتسبٍ تناله، ولا تهتدي بضرباتٍ تكيلُها خبطَ عشواء!!
في رأيي، النوع الأوّل انتماءٌ إلى الكبَر. من يعرف المنابع التي غذتْه، يعُدْ إليها فلا يعطش. ومن لم يمتلئ لثقبٍ في وعائه، بقيَ في احتواءاته يفرغُ... هذا هو النوعُ الآخر. وشتّان يا سيّدُ بين الانتفاخِ والامتلاء... ولن أفيضَ!
د. جميل الدويهي، يحضرني في هذه العُجالة، مثَلُ العهد الجديد حول السيّد الذي أراد السفر، وأعطى عبيدَه كلاًّ وفقَ طاقته... من يُضِعْ وجهةَ استثمارِ فضّته، ترُحْ عبثًا مطالبتُه بالجنى، فلا مرتجى فيه...
أنا أدركُ كم يؤلمُكَ إجحافٌ في حقّكَ. وإضاعةُ الاهتمام وقتًا وقدرات في خدمةِ الناكرين. لكنّي أعرف أنّهم لم يصلوا إلى أعتابكَ، رغم كلّ دفعهم باتّجاهك. لم ينظروا أبوابكَ ليروها مشرّعة، انقادوا صوبَ عماهم، أراهم سرابًا واهمًا من فراغ ذواتهم النتنة، فخانوا مودّتكَ وسقطوا. دعهم حيثُ هم، إن بانتْ رؤوسُهم، تأكّدْ أنّكَ التفتتَ إلى تحت!
هم لم يعرفوا قط رفعتكَ فاعذرهم سيّدي. يعتقدون أنّهم في انحدارتهم، يطالونكَ... خسئوا. أنتَ من طينةٍ لا تشبههم. إبقَ حيثُ أنت. إنسَهم أرجوك. هم في عالمكَ لم يولدوا... وأنت، تابع حيثُ تثمرُ العطايا وافرة وتفيضُ في القادرين!!!
|