• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : "خاب الوافدون على غيرك.." يا رب! .
                          • الكاتب : محمد جعفر الكيشوان الموسوي .

"خاب الوافدون على غيرك.." يا رب!

لا شيء سوى الخيبة والخسران يجنيهما الوافد بكل وقاحة على غير الحق سبحانه. جاء في الخبر أن الإمام الصادق صلوات الله عليه كان يدعو بهذا الدعاء الذي مطلعه "خاب الوافدون على غيرك وخسر المتعرضون إلاَ لك..." كل يوم من أيام شهر رجب الأصب. دعاء تربوي عالي المضامين له عظيم الأثر في ترويض النفس بالتقوى ومخافة الله تعالى. قبل مواصلة الحديث عن الآثار الروحية والمعنوية والنفسية والأجواء الإيمانية النورانية التي يعيشها الداعي والمتضرع المتوسل الراجي والخائف من الحق سبحانه وتعالى، أرى من المفيد أن اذكر نفسي وإياكم ببعض الملاحظات المختصرة لإستكمال الفائدة المرجوة بإذن الله تعالى :

التفاعل مع الدعاء (أيّ دعاء)..

لقد إعتدنا على قراءة الأدعية الشريفة في أوقاتِ مختلفة من الأسبوع، نقرأ دعاء كميل كل ليلة جمعة ودعاء التوسل بالنبي المختار وفاطمة الزهاء والأئمة الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين في ليلة الأربعاء وعلى مدار السنة، بالإضافة إلى الأدعية الخاصة بالأيام والشهور كشهر رجب وشعبان وشهر رمضان المبارك. الكثيرون منا قد حفظ جلّ تلك الأدعية المباركة أو كلها عن ظهر غيب ويحسن قراءتها (حتى مع الوَنَّه)! لكن لا أثر لتلك الأدعية الشريفة في نفوسنا وفي تعاملاتنا وتصرفاتنا وسلوكياتنا! نواظب على المشاركة في مراسيم دعاء كميل ليلة الجمعة والبعض منا يترك عمله وبقية إلتزاماته من أجل ان لا يفوته الدعاء. لكن لا أثر للدعاء بعد الإنتهاء من قراءته!

ما سبب ذلك يا ترى؟؟؟

أجزم ان عدم الجد هو السبب الرئيس الذي يجعل حالنا بعد انتهاء الدعاء ليس بأفضل من قبل قراءته. لم نستفد شيئا من دعاء أصبح حضوره من الروتين والعادة، يعني تسجيل حضور عند رب العالمين عز وجل. والشيء ذاته في إحياء المجالس الحسينية. أكرر دائما وهنا أيضا بأن خادمكم ليس بأحسن حال من أسوأ الناس إطلاقا (عافاكم الله) فكل الملاحظات (السلبية) أنا على رأسها. مقبلون ان بقينا من الأحياء ان شاء الله واياكم على شهر شعبان شهر رسول الله ص وعلى شهر رمضان المبارك شهر الله الكريم فلنكن (انا واياكم) ممن سيقف بين يدي المولى الكبير المتعال موقف العبد بين يدي سيده. فرائصه ترتعد من خشيته وقلبه منقطع إليه ولسانه مقر بالذنوب يطلب الستر والمغفرة وان لا يكله إلى نفسه طرفة عين. لقد أعتدتُ أنا خادمكم على قراءة دعاء كميل منذ نعومة أظفاري لكن ما الفائدة من مواظبتي على قراءة ذلك الدعاء الشريف؟ لا شيء سيء قد تغير عندي، فقلبي لا زال متعلقا بحب الدنيا، ولا زلت أسهو في كل صلاة يومية حتى أصبحت خبيرا في احكام الشك في الركعات لكثرة وقوعي في الشك وربما أعدت إحدى صلواتي ثلاث مرات. أين أثر دعاء كميل على نفسي. واقعا أشعر بالخجل من الحق سبحانه من تكراري لـ "ظلمت نفسي" وأعود لظلمها حال إنتهاء الدعاء وأكرر في ليلة الجمعة القادمة : ظلمت نفسي! سوف لن أسترسل في الحديث عن عيوبي فهي أكثر من أن تحصى ولا تسعها مجلدات ضخمة. الذوبان في الدعاء كما التدبر في قراءة القرآن لا خير بدونها. إليكم القصة:

أنا والسيد الجليل من كربلاء..

إلتقيته في إحدى الزيارات في بداية شعبان قبل عدة سنوات. أعرفه عن قرب، من أهل العلم والفضل والتقوى. كنت منشغلا بزيارة العباس بن امير المؤمنين عليهما السلام ليلة مولده. أمرني السيد ان أعيد الزيارة من أولها. قلت له انا في خدمتكم ولكن لا أقرأ الزيارة إلاّ أن أكون انا من يجلس خلفك وليس العكس. حاولت كثيرا لكن السيد كان متمسكا بتواضعه. بدأت الزيارة وعندما وصلت الى فقرة "أشهد أنك قد بالغت في النصيحة واعطيت غاية المجهود" رأيت السيد قد لطم جبهته الشريفة. ظننت ان ذلك من الحزن والأسى على السقّاء أبي الفضل عليه السلام. لكن السيد امرني ان اتوقف قليلا وقال لي : كنت ولا أزال مواضبا على زيارة العباس عليه السلام فقد جاورته سنوات عمري وربما زرته مرتين في اليوم والليلة ولم أنتبه إلى هذه العبارة العظيمة وأدقق فيها مثل هذه المرّة! كنت ألفظها ولا أنتبه لمعناها! وأخذ السيد المبارك يشرح لي  بشكل مفصل معنى "أشهد أنك قد بالغت في النصيحة" حتى ظننت ان السيد ربما أراد إلفات نظري بأسلوبه المهذب وخلقه الكريم فنسب ذلك لنفسه تجنبا لإحراجي، لم أسأله حينها عن ذلك إحتراما لمقامه ولشديد تواضعه فانا لا اساوي ظفرإصبع قدم رجله. مهما يكن الحال سواء أكان السيد حفظه الله يعنيني او كان يعني نفسه ـ وأستبعد ذلك واقعا ـ فإن العِبرة هي ان نتفاعل ونذوب في الدعاء وننصهر في بوتقته لنخرج بشيء من الزاد لذلك الطريق الشاق المتعب المرهق. أي نخرج من الدعاء وقد تزودنا بخير الزاد. أليسَ كذلك؟

العِبرة من القصة..

الشرود والسهو وعدم الجد لا يقتصر على شريحة دون أخرى " كلُّ بني آدم خَطَّاءٌ, وخيرُ الخَطَّائِينَ التوابون" فمن  ينجو من الخطأ إلاّ ما عصم ربي ورحم. العبرة في تصحيح الخطأ وعدم تكرار ذات الخطأ والإصرار على فعله. ذلك السيد المبارك قد إعترف لسهوه وغفلته لشخص (مثلي) وانا بمقام أصغر خدامه. كيف يكون إعترافه إذن في الخلوة مع سيده ومولاه وخالقه. تخيّل سيدي الكريم الجوّ الذي سيكون فيه ذلك السيد عندما يجن عليه الليل ويخلد الناس الى النوم ويبقى العاشقون في مناجاة مع معشوقهم. قلب حزين وعيون مليئة بالدموع وبكاء ونحيب وانقطاع إلى الحق سبحانة. خاب الوافدون على غيرك.. يا إلهي. فقد وفد كل من أولئك الغافلين إلى سلطانه وشيطانه يلتمسه بدناءة وخِسة بعض الوجاهة الزائلة والمقام الوضيع  التافه مهما حسبه رفيعا عاليا. ومع كل جهده واجتهاده وبيعه ماء وجهه لشيطان مريد أملاً بالحصول على مقعد بالٍ في مجلس اهل الدنيا وطلابها فإنه لا يحصل إلاّ على الخيبة يجر أثوابها بيدين صفرتين خاليتين من كل خير. خسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين.

خاب الوافدون على غيرك.. يارب. كيف لقليل الحياء والأدب أن يفد على غيرك وانت المبتدأ بالنعم قبل إستحقاقها. وانت الرؤوف الرحيم  الذي يعفو ويغفر. وانت الذي ما عندك يبقى وما عند غيرك ينفد! مجنون لا عقل له من أمن عقابك وقنط من رحمتك وأمّل مِن مُعْدَمٍ مثله خير الدنيا والآخرة. خاب الوافدون على غيرك.. سيدي. فأنت الذي أحسنت إلينا إذ لم نك شيئا فخلقتنا بقدرتك ورزقتنا من فضلك وأحببتنا وتوددت إلينا ودنوت منا وقلت لنا متفضلا :" أدعوني أستجب لكم" فإبتعدنا عنك ودعونا غيرك وبعد ذلك جحدنا نعمك ونكرنا فضلك ولم نشكر. قليل من المال وكرسي خشبي او حديدي او حتى لو كان من ذهب مرصع بالحلي والجواهر فلا قيمة له مقابل متر مربع في الجنّة. كنت برفقة أحد العلماء رحمه الله ورفعه في عليين عندما سأله أحد المؤمنين مازحا : أكثر الناس قد إشتروا بيوتا وقصورا بعد ان وفروا المزيد من المال فماذا إشتريتم جنابكم؟ أجابه ذلك العالم الفاضل : لقد إدخرت كل أموالي لشراء متر مربع واحد في الجنّة. فقال له : وأين إدخرت اموالك؟ أجاب العالم : بعثتها قبلي إلى مكانٍ آمن. فقال له : وأين هذا المكان الآمن؟ فقال له العالم : إستلمها الله مني وعند ربي لا تضيع الودائع. عندها علم السائل ان ذلك العالم الفاضل قد تصدق بأمواله وأن الله هو الذي يستلم الصدقة ولهذا علينا إعطاء الصدقة باليد اليمنى وتقبيلها قبل إن نعطيها إلى مستحقيها لأن الله تعالى هو الذي يقبل الصدقات.

خاب الوافدون على غيرك..مولاي. خسارة فادحة أن تدعوننا يارب فلا نستجيب لك ونفد على غيرك فيطردنا عن بابه فنعود أدراجنا خائبين خاسرين. شتّان بين ملائكتك وحراسه.. ملائكتك تنادينا : أين المستغفرون هيا.. أين التائبون هيا.. أين الخائفون هيا.. اين الآملون هيا.. أين المذنبون هيا.. هيا تعالوا لربكم الكريم ليغفر لكم من ذنوبكم، ويكفر عنكم من سيئاتكم  ويهديكم صراطه القويم.هيا أقبلوا على خالقكم بقلوب يملؤها الشوق لمناجاته فلا حلاوة ألذ من ذلك العشق الذي يأسر العقل ويستحوذ على القلب كل القلب. شتّان بين ملائكة الربّ الكريم وبين حرّاس ذلك العبد اللئيم الذي طغى في الأرض وظن ان جنته لا تبيد أبدا. أبواب سماواتك يا ربّ مفتحة لداعيك "وأبواب الإجابة لهم مفتحة" وأبواب اللئام مغلقة وعلى مدار الساعة. أيها السيد الكريم.. الجلوس في حلقات الذكر والدعاء من التوفيقات الربانية التي منَّ الله بها علينا، فلنستثمر تلك الجلسات بما ينفعنا في الدارين. أكاد امشي محدودب الظهر لثقل الخطايا والذنوب التي أحملها ولا أدري ما ذا يفعل بي غدا، رحماك يا رب. أيها السيد الكريم.. قد سمح لنا بالجلوس بين يدي ملك الملوك وتلك نعمة محمودة علينا شكرها بالعمل الصالح وليس فقط بألسنتنا فمن مصاديق الشكر ان نعمل صالحا ونتقن العمل "اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ". إلهي.. "خاب الوافدون على غيرك".




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=152644
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 03 / 01
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19