هناك في تلك الصحراء المترامية الاطراف التي يجول البصر فيها وفي جبالها الصخرية للتأمل في عظمة خالقها، وفي غار من مغارات جبل النور يدعى غار حراء انبثق حدث استثنائي غيّر مجرى التاريخ، ربط الخالق بالمخلوق، ربط السماء بالارض، حَدَثُ البعثة النبوية بنزول الوحي الالهي بأول ايات القران المنزلة على رسول الله ص في يوم الاثنين السابع والعشرين من شهر رجب للعام الاربعين بعد عام الفيل.
ومن الجدير بالذكر ان هناك ثلاث اقوال ذكرها المفسرون في اول القران نزولا على النبي الاكرم :
١- الايات الخمس الاولى من سورة العلق
٢- سورة المُدّثّر
٣- سورة الفاتحة(١)
والقول الصحيح والمشهور عند اغلب المفسرين هو القول الاول (٢)
كما روي عن الإمام الصادق (ع): ( أوّل ما نزل على رسول الله (ص) بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم. اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ. وآخر ما نزل عليه إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ)(٣).
والايات الخمس الاولى من سورة العلق (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5))(٤) هي خمس آيات بينات اختصرت منهج الرسالة والحياة بمفرداتها وموضوعاتها المترابطة.
اول مفردات الوحي وايات القران النازلة على الرسول الكريم محمد (اقْرَأْ) لترتقي نبوته ص بحالة المجتمع الذي ارسل اليه رسول الله الذي يتصف بالامية والجهل والمظاهر غير الانسانية كالظلم ووأد البنات والربا وغيرها الى مستويات ثقافية اعلى تحفظ للانسان كرامته بما هو انسان واعٍ لحقوقه وواجباته في الاسلام
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) وذكر تعالى صفة الربوبية والخالقية في اول ايات القران نزولا ليُذكّر الانسان بربه العظيم وحقيقة خلقته في الاية الثانية (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ) والعَلَق: (الدم المنجمد والمراد به ما يستحيل اليه النطفة في الرحم)(٥) وعادت الاية الثالثة لتكرر الامر بالقراءة (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ) الذي اكرم الانسان بما جاء في الاية الرابعة (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) اي تعليم القراءة والكتابة والعلم وكذلك (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) في الاية الخامسة هنا يبين الله تعالى ان مهما بلغ الانسان من شأو عظيم في العلم فهو من تعليم الله تعالى له وهو القائل : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (يوسف/76)) كي لا يغتر الانسان الذي خلقه الله من علق بعلمه الذي علمه له رب العزة والجلال.
وفي التأمل في مفردات هذه الايات الخمسة نجد القراءة والقلم التعليم وبالتالي الكتابة لان القلم اداة الكتابة للارتقاء بمجتمع الجزيزة العربية البدوي القبلي الطبقي الى حضارة اسلامية عريقة بنيت على اساس العلم والثقافة والتحضر في السلوك الانساني.
فالامة التي تبدأ ارتباطها بالسماء
بالقراءة والتعليم والقلم والكتابة لهي امة واعية بوعي رسالتها وشريعتها السمحاء ولهذا تسمى امة الاسلام ب(امة إقرأ) لرفعة رسالتها وحضارتها بالقراءة والاطلاع.
ولا يخفى ان القراءة قد تكون مادية عن طريق المطالعة والبحث
وقد تكون معنوية بقراءة الاحداث بنظرة ثلاثية الابعاد -ان صح التعبير- وقراءة ما بين السطور ليعرف المؤمن تكليفه في الاحداث الواقعة بفراسته وذكائه.
وبالنتيجة فان اول الوحي من ايات القران منهج حياة الانسان الذي يجعله في تكامل مادي ومعنوي
التكامل المادي الذي يشمل تكامل العلقة في رحم الام الى جنين ثم طفل ثم شخص بالغ وهو التكامل البيولوجي لجسم الانسان بخالقية الله تعالى وقدرته وكذلك التكامل المعنوي الذي يرتقي بهذا الجسد الانساني الى اعلى درجات المعرفة بأدواتها وهي القراءة والكتابة والقلم والتعليم وهو هدف الرسالة الاسلامية بزرع الوعي في الامة.
وما احوج اليوم امة إقرأ للقراءة والمعرفة والوعي لتحديات المقطع الزمني الذي تمر فيه خاصة واننا نعيش عصر الجاهلية الحديثة بمسميات حضارية!!! فوأد البنات قد عاد بصورة اخرى فهم لا يدفنون البنات في التراب وانما يدفنونهن في مستنقع الرذيلة باسم تحرر المرأة!!! وظلم القوي للضعيف لا زال متفشيا وبأبشع صوره متعديا حدود الافراد الى الدول التي تحاول الدول الاستكبارية والمستعمرة الى نهب خيرات الدول الضعيفة بالمؤامرات تارة وبالتدخل العسكري تارة اخرى،
وفي كل الاحوال لا منجى من التحرر الا بالعلم والوعي كما امرنا بذلك القرآن الكريم فالجهل هو اساس الذل والعبودية للظالمين افرادا كانوا ام دولا تهيمن على العالم.
والحل هو العودة لقرآننا فهو دستور حياتنا ولنتمسك بأول اشراقاته على هذه الارض لنتحصن بالعلم ولنجابه مصاعب الحياة بالآيات الاولى للوحي بالوعي.
الهوامش:
(١) راجع تفسير مجمع البيان، ج١٠، ص٣٥٥.
(٢) راجع تفسير الميزان، ج٢٠، ص٣١٥.
(٣) تفسير البرهان، ج١، ص٢٩.
(٤) سورة العلق: الايات ١-٥.
(٥) تفسير الامثل، ج٢، ص١٨١.
|