• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : أدب الفتوى .
                    • الموضوع : علامة النصر .
                          • الكاتب : علي حسين الخباز .

علامة النصر

  لاحظت بالمدة الأخيرة حالات غريبة تنتاب ولدي مهدي، فهو يتصرف تصرف الكبار، وكأنه يريد أن يشعرني بأنه غادر طفولته منذ رحيل أبيه، عرضت حالته على أحد أقاربي وهو طبيب نفساني، فقال: انه يريد ان يقول لك: انه رجل البيت، قلت: هو فعلا رجل البيت، وهذا ما أقوله له دائماً، ولا يحتاج الى ان يبرهن لي ذلك، بل المسألة تعدت هذه الفكرة،  حتى ان الطبيب قال: حيرني أمر ابنك.. لا ادري ماذا يدور في رأسه، قال لي قبل أيام: "نحن نصنع الزمن يا ماما، لا شيء خارج ارادتنا إلا ما شاء أمر الله"، كلام كبير بالنسبة لطفل بعمره..!

 وحين سألته: ممن سمعت هذا الكلام؟ قال: علمني إياه أبي أمس..!! هذا الكلام يكاد يوصلني الى الجنون، وان اقلق على ابني مهدي؛ لأن والده رحل عنه قبل سنوات وهو كان طفلاً صغيراً يلثغ النطق.. في كل الأحوال هي فرصة لأفهم معاناة ابني أو ادرك ما يدور في رأسه، او ربما استطيع أن أقرأ عقله الباطني، أو في أحلامه التي ربما تجمعه بأبيه: هل يمكن ان يكون هناك اتصال روحي بهذا المعنى، أم يا ترى هو الذي حمل اباه في رأسه..؟
 طيب.. ومن اين تعلم هذه العبارات الكبيرة؟ طفل ودود ليس بالمنغلق او المنزوي عن أبناء عمره ينفتح على الأصدقاء ويباغتهم أحياناً بكلام لا يفهمونه، فلذلك يتهمه البعض بالجنون، حتى انا أحياناً اقف امام عباراته مستغربة، فهو حين يذهب الى النوم يقول لي:ـ ماما انا ذاهب الى أبي، وحين يصحو من النوم يقول:ـ انا جئت من أبي..!
 حاولت ان اشرح له بعض الأمور؛ كي لا تكون حالاته غريبة عن اقرانه، قلت له:ـ مهدي انت كنت نائماً في غرفتك في البيت، وابوك ينام هناك عند الله تعالى في الجنة..! اجابني فوراً:ـ أولا تعرفين يا امي ان الله يحب أبناء الشهداء؟
اضطررت ان أتظاهر بأني أفهم كل ما يدور في رأسه، واسمّي الأشياء مثلما يسميها، فالكتاب اسمه بندقية، والامتحان هجوم، فأسأله مثلاً: متى يبدأ هجوم الرياضيات؟ وانا اضحك في سري ويأتيني الجواب جادا منه، ويسمي النجاح نصرا، ومع كل هذا هو يكره لعب الأسلحة والرشاشات.
اهدى له احد اخواله دبابة فسحقها بقدميه، وقال:ـ لا لكل شيء يقتل الإنسان، قال لي أبي: نحن نكره الحرب، قلت له:ـ كيف وأبوك شهيد حرب؟ نظر ابني الى الأرض غاضبا من حدة السؤال، وكأنه يحمل جوابا لا يريد ان يبوح به، لكنه في النهاية قال:ـ البارحة حدثني ابي عن أشياء كثيرة، طالبني ان اقاتل أعداء الحياة، وان اتدرب جيدا للمواجهة لأرفع راية النصر عاليا.
 لم اتحمل الموقف، فضحكت في سري وقلت له:ـ انت ما زلت صغيرا على لغة الحرب يا مهدي، عليك ان تعيش طفولتك بعيدا عن المصطلحات الخشنة، وأبوك كان يخاف عليك من النسمة، كيف يدفع تفكيرك الى عوالم الحرب، ويبدو ان هذا الكلام اغضبه تركني ومضى الى غرفته..!
 شعرت بإحراج شديد، لكني كأمّ لابد لي ان ادافع عن حياة ابني، وهذه التناقضات العجيبة الصارخة فيه، طفل يكره الحرب ويكسر كل لعبة تشارك في فكرة القتال، وهو بنفس الوقت يحلم بمواجهة أعداء الحياة، ويتدرب على الأسلحة ليرفع راية النصر..! أشياء غريبة فعلاً، ورحت اعاتب الاب في قرارة نفسي:ـ وأنت يا عبد الحسن كيف تعلم ولدك مثل هذه الأفكار؟ فجأة رأيته يقف امامي ليقول:ـ لا تعاتبي أبي بهذه اللهجة يا ماما، انت لم تفهمي الموضوع على حقيقته.
قال لي أبي:ـ انهم يحاربون الحياة، ونحن حملنا الأسلحة وقاتلنا؛ لأنها الوسيلة الوحيدة التي كانت لدينا لرده ومواجهته والانتصار عليه، وكل واحد من الناس لديه عمله الذي يواجه به الأعداء، اما انت يا ولدي ساحة حربك هي المدرسة وسلاحك هو الكتاب، عليك ان تدرس لتنجح، فنجاحك يا ولدي هو النصر الذي يتوج جهادي، لذلك انا اكره الأسلحة النارية واللعب المؤدية الى الموت، وأحب المدرسة؛ لأنني بها سأحقق النصر الذي يرفع رأس أبي الشهيد. 
مرت هذه الاحداث برأسي، وأنا أقرأ نتيجة ولدي بفرح.. ناجح الأول على صفه، فبكيت ودون أن أعلم، رفعت اصبعين من اصابعي لأرسم بفرح علامة النصر.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=153123
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 03 / 16
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19