القران الكريم يتعامل مع الاحداث بمنهج علمي ونفسي دقيق جدا في محاولة منه لتربية الفرد المسلم وتنشئته نشأة سليمة نفسيا وجسديا خاصة في وقت الازمات التي مرت بها الامة ومنها نكسة غزوة احد.
وقعت معركة احد في النصف من شوال في العام الثالث للهجرة، واسبابها ووقائعها معروفة، وقد ذكرها القران في سورة ال عمران من الايات (١٢١-١٧٩) ولم تذكر صراحة -ومن الجدير بالذكر ان الغزوة الوحيدة التي ذكرها القران صراحة هي بدر- وانما تعرضت اليها بشيء من التفصيل في اسباب ونتائج وعبر تلك الغزوة بمنهج نفسي رائع جدا في تسلية المسلمين وتفريج همهم وتوعيتهم بعد الهزيمة في احد، واعتمدت مفردات هذا المنهج القراني في تلك الغزوة على التوازن بين الجهاد الاصغر والجهاد الاكبر، فلم يتعامل القران مع غزوة احد كمعركة عسكرية بل كمعركة للحياة بكل تفاصيلها المادية والمعنوية (غزوة أحد لم تكن معركة في الميدان وحده؛ إنما كانت معركة كذلك في الضمير . . كانت معركة ميدانها أوسع الميادين . لأن ميدان القتال فيها لم يكن إلا جانباً واحداً من ميدانها الهائل الذي دارت فيه . . ميدان النفس البشرية ، وتصوراتها ومشاعرها ، وأطماعها وشهواتها ، ودوافعها وكوابحها ، على العموم . . وكان القرآن هناك . يعالج هذه النفس بألطف وأعمق ، وبأفعل وأشمل ما يعالج المحاربون أقرانهم في النزال!)(١).
وسنتعرض لاهم مفردات هذا المنهج لانه لا يمكن تفصيل وحصر مفرداته في بضع سطور:
ابتدأت الايات بعرض احداث ما قبل الغزوة بخروج النبي الى موقع احد ليعسكر فيه بعد ان اختلف المسلمون في كيفية مواجهة العدو بعد وصول رسالة العباس عم النبي يحذره من هجوم قريش وكان راي الاغلبية من الشباب المتحمس الخروج من المدينة بينما كان راي النبي ص وبعض الصحابة التحصن في المدينة، وهنا يبرز دور المشاورة في الاسلام واحترام راي الاغلبية.
*ثم تعرضت الآيات الى طائفتين من المسلمين همت ان تفشلا وهما بنو مسلمة من الاوس وبنو حارثة من الخزرج اذا كان رايهما ان يتحصن المسلمون في المدينة فهمّوا بالتراجع والتساهل في امر المعركة الا انهم تداركوا الامر اخرا.
*ثم عرضت الآيات لمواساة الله تعالى للمسلمين بعد تحول نصرهم المحقق في احد الى هزيمة لان الرماة على الجبل لم يلتزموا بأوامر الرسول ص في الثبات في مواقعهم واغرتهم انفسهم في الحصول على الغنائم، ورفعت الآيات من معنوياتهم المنكسرة بعد الهزيمة بتذكيرهم بنصرهم في بدر وكانوا قلة في العدة والعدد اضافة الى تأييد السماء لهم بثلاثة الاف من الملائكة وامرتهم بالصبر والتقوى ليمدهم بخمسة الاف من الملائكة ليطمئن قلوبهم وامرتهم بطاعة الرسول فالنصر في المعارك لا بد وان يكون بالأسباب الطبيعية مهما كان وعد الله بنصر عبادة غيبيا وهنا النقطة الفاصلة والمهمة في ميادين القتال حيث لا يستهين اي طرف بعدوه ويعد عدته المادية وفق النواميس الطبيعية.
ثم تعرضت الآيات لحث المؤمنين الى الخير والتقوى وابتغاء الجنة ونعيمها وفق السنن الكونية العامة في النظر والتفكر في عاقبة الامم الماضية للعظة والاعتبار.
وفي طبطبة على اكتاف المسلمين ومحو مرارة الهزيمة في اية (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) ال عمران/١٣٩ ((على أن عبارة (وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) عبارة غنية بالمعاني حرية بالنظر والتأمل. إذ هي تعني أن هزيمتكم إنما كانت بسبب فقدانكم لروح الإيمان وآثارها، فلو أنكم لم تتجاهلوا أوامر الله سبحانه لم يصبكم ما أصابكم، ولم يلحقكم ما لحقكم، ولكن لا تحزنوا مع ذلك، فإنكم إذا ثبتم على طريق الإيمان كان النصر النهائي حليفكم، والهزيمة في معركة واحدة لا تعني الهزيمة النهائية)(٢).
وفي بيان جميل في اية (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِين) ال عمران/١٤٠، هنا تصبر الآيات المسلمين بانهم مهما اوذوا نفسيا وجسديا في هذه المعركة وانعكاساتها خاصة بعد قتل ابطالهم مثل الحمزة ومصعب بن عمير فقد اوذي المشركون ايضا ومقصد الاية ان في كل محنة منحة الهية فالهزيمة والحوادث الصعبة هي ميدان لتربية النفس والتحلي بالصبر والحكمة في تصحيح الاخطاء التي ادت الى الفشل وبالنتيجة فانه محك لاختبار ايمان المسلمين واصطفاء الشهداء فالأمة التي لا تضحي من اجل اهدافها فهي لا تعي اهدافها جيدا ولا تستحق النصر، وما وصلنا الاسلام الا بتضحيات السابقين.
كما تعرضت الآيات الى نقطة مهمة جدا في اية (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) ال عمران/١٤٤ وهي مسألة الانقلاب على الاعقاب بعد اشاعة قتل الرسول في المعركة وتخلخل جيش المسلمين وفرارهم وثبات القلة القليلة مع الرسول وحمايتهم له (والجدير بالذكر أن القرآن استخدم للتعبير عن الردة إلى الجاهلية كلمة (انقلبتم على أعقابكم) و «الأعقاب» جمع عقب (وزان خشن) بمعنى مؤخرة القدم، فهو تعبير موح يصور التراجع إلى الوراء والإرتداد الواقعي، وهو أكثر إيحاءاً وأقوى تصويراً من لفظة الردة والرجوع والعودة، لأنه بمعنى السير القهقري.)(٣) وهنا تتبين خطورة الشائعات والاراجيف في الحروب العسكرية ودورها الكبير في الانهزام النفسي للمقاتلين -وهي بالضبط كالحرب الاعلامية الباردة في عصرنا الراهن- ولهذا كان الموقف المشرف لأنس بن النضر الذي احتوى المنكسرين نفسيا بشكل سريع وحاسم وتثبيتهم على مبدأ الحق ان عاش الرسول او مات، فالوعي كفيل بالاستقرار النفسي للمقاتل مهما واجه ظروفا صعبة واستثنائية في الميدان وهنا اسس القران في منهجه ان لا قداسة للشخصية وان عظمت في حياتها فقط وترك ما جاءت به من بعده وانما هو التزام بالمبادئ والتعاليم الحقة في حياة الرسول وبعد مماته.
واستمرت الآيات بعدها بحث المسلمين على الصبر والثبات وتذكيرهم بتضحيات اصحاب الانبياء الماضين مما يستدعي تأييد الله للمسلمين بإلقاء الرعب في قلوب الكافرين وبالتالي تطهير النفوس من الامراض المعنوية والنصر المادي.
كما اشارت الآيات بعدها الى مخططات المنافقين واستغلالهم نكسة تحد لتثبيط المسلمين وتشكيكهم بإيمانهم.
وذكرت رحمة الرسول في احتواء النادمين على تقصيرهم في المعركة فالعفو من سمات القيادة الربانية.
كما نهت الآيات المسلمين عن الطمع والجشع الذي ادى الى الهزيمة باعتقاد البعض ان الرسول سيغل بالغنائم واكدت على ان العدالة سمة الانبياء والخيانة غير واردة منهم مطلقا كما منن القران ببعثة الرسول لشد المسلمين الى طاعة الرسول وعدم مخالفته.
كما ختمت الآيات التي تتحدث عن غزوة احد بأهمية الشهادة في الاسلام في قوله تعالى (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) ال عمران/١٦٩ وما بعدها بذكر نعيم الشهداء في الاخرة وما اوصلهم لتلك المنزلة الرفيعة وقيل ان هذه الآيات لا تلحق بآيات غزوة بدر
الا ان ما جاء عن الامام الباقر ع وكثير من المفسرين: (انها تتناول قتلى بدر وأحد معا.)(٤)
وعموما فان القران الكريم يثبت في هذه الايات ويؤسس لقاعدة مهمة جدا وهي ان الجهاد في الميدان العسكري هو جزء من منظومة الجهاد الاكبر وهو جهاد النفس وتهذيبها وهو المعركة الحقيقية والاساسية في الحياة فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم فقد يسهل الانتصار في معركة عسكرية كبيرة بينما نفشل فشلا ذريعا في محاربة النفس الامارة بالسوء، وان الهزائم ليست مدعاة لليأس والتقهقر بل العكس رغم قسوة الهزيمة في النفس الا انها حافز قوي في الثبات على المبادئ والالتزام بالشريعة ومراجعة النفس وتصحيح الاخطاء وتقويم المسار وانه لعمري درس بليغ من دروس القران وعبرة نتعلمها من حدث مهم في التاريخ الاسلامي وتوظيف تلك العبرة في بناء جيل قوي يؤمن بان القوة قوة النفس وان قوة الساعد متأتية من قوة النفس الايمانية ومكملة لها، وما احوجنا لدراسة تلك الفقرات القرآنية في مواجهة النكسات والازمات خاصة ونحن نعيش في عصر تقهقرت فيه معالمنا الاسلامية واصبح الالحاد اقرب الى شباب المسلمين ومظاهرهم وفي خطوات ذلك المنهج القرآني العلاج الناجع للعودة بالإسلام بقوة وحزم وارادة ووعي لمواجهة مخططات اعداء الاسلام.
الهوامش:
(١)في ظلال القران،ج١،ص٤٢٥.
(٢)تفسير الأمثل،ج٢، ص٧١٠.
(٣)تفسير الأمثل،ج٢، ص٧٢٠.
(٤)تفسير التبيان،ج٣،ص ٤٦.
|