• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : يا حاضرا عند الشدائد لا يثنيك موت .
                          • الكاتب : كريم شلال نعمه .

يا حاضرا عند الشدائد لا يثنيك موت

  التاريخ يشهد أن المبادئ باقية ببقاء أصحابها، ومن أجل المبادئ تزهق أنفس وتسيل دماء، وتخرج أرواح من أجسادها، ولا يشك عاقل أن الموت من أجل المبادئ شرف كبير وأمر عزيز لا يقدر عليه أكثر الناس، لكن ثلة من الذين سمت نفوسهم وعلت هممهم، فارخصوا أرواحهم في سبيل المبادئ وبقائها. وبذلك ظل الفلاسفة والمبشرون والعظماء يبشرون بالقيم والفضائل، عضدتهم بذلك كتب ومراسيل السماء، فهذه "ماشطة " ابنة فرعون وأبناؤها قتلوا جميعا واحرقوا بزيت يغلي، وما كان ذلك إلا من اجل المبادئ، فوجد النبي ص رائحتهم الطيبة في السموات العلى أثناء معراجه، فيا لها من ميتة عظيمة، من اجل مبادئ كبيرة لا يفهمها كل من أصابهم الوهن... وقد عد جعفر بن أبي طالب ع احد الذين ماتوا من اجل المبادئ، قطعت يمينه في معركة" مؤتة" وهو يحمل راية الجهاد في سبيل الله، فمسك الراية بشماله فقطعت، فاحتضن الراية بعضديه وتكسّرت الرماح عليه وتساقطت النبال، فاشتاق للجنة، وشعر بها وخرجت روحه إلى بارئها، فأبدله الله تعالى بجناحين يطير بهما في الجنة!! والأمثلة كثيرة ،وهكذا هي المبادئ فترى الأبطال يموتون، لكنها المبادئ تبقى ولا تزول! ولتلك القيم طالما سعت البشرية باصرار لترسيخها، وتبلورت جهودهم بسعي عظمائهم لنشر تلك المثل والقيم حيث ظهرت في آرائهم ونظرياتهم، ولعل جل فلسفة "سقراط" في حواراته هو إصراره الدائم على ترسيخ الفضيلة في مواجهة الرذيلة، فقال: الفضيلة علم والرذيلة جهل، ولو علم الإنسان ماهية الفضيلة فلا شك انه سيعمل بها، ولو علم ماهية الرذيلة فلابد أن يتجنبها، وهكذا حاول الفلاسفة والمفكرون ترسيخ تلك المثل، وحاولوا ترويض النفس بل جلدها ومحاسبتها، وهذا ما ذهب إليه "هيروقليطس" في عقائده الأخلاقية وكذلك السوفسطائيون الذين يرون أن الحكمة هي بلوغ السعادة.
   وتتجلى سعادتنا في إرضاء الله تعالى، والعمل والتدرع بحكمته، وخير من تمثل بتلك المثل بعد المصطفى (ص) هو ابن عمه إمام الغر المحجلين (ع) وهو ما نحن بصدد الخوض في ثناياه، فهو رجل ليس ككل الرجال، بل يكاد يتفرد بما يحمله من خصال حباه الله تعالى بها، فيكفي انه تلميذ المصطفى (ص) وهذا النسج الخاص من البشر تراهم كالمصابيح المتناثرة على مفارق الأجيال ، بل هم كالرواسي، ومن بين هؤلاء القلة يبرز وجه علي بن أبي طالب ع التي فاضت عليه أنوار النبوة.    
  إن الولوج إلى عالم هذه الشخصية ليس أقل حرمة من الولوج إلى المحراب، فيترتب على المقتحم التحصن والتأدب والتأني، فهو ليس ككل من يأتي إلى دنياه ويغادرها، ويلفه النسيان لكنه أتى دنياه، أتاها وكأنه أتى بها.. ولما أتت عليه بقي وكأنه أتى عليها. وتظل مسيرته نبراسا لطالما حاولت الطغم الباغية محاصرته ببطلانها، على الرغم من خبثهم وشراستهم، لكن إرادة الله تعالى فوق إرادتهم، لينصف أولياءه، فكان انتصاره ساحقا باستشهاده في مسجد الكوفة، وليطلق صيحته المدوية التي عانقت السماء ودكت صروح الجبابرة "فزت ورب الكعبة"، لقد كان الإمام على (ع) مقاتلا، فدائيا، مأمورا ومتطوعا، انتصر على الرغم من طغيان الفئة الباغية، وانتصارها الدنيوي المحدود، لكن انتصار يعسوب الصابرين هو انتصار البشرية على مر العصور.
   ومن أين تبدأ فهو صعب يسير، وأنت تقتحم حصن وقلاع رجل عظيم يقول:"سلوني قبل أن تفقدوني فو الله لا تسألوني عن فئة تضل مائة وتهدي مائة إلا أنبأتكم بناعقتها وسائقتها"، وعلى الرغم مما طرحه في دنيا الفكر الإنساني من أبواب المعرفة المتعددة، فإننا نظل عند قناعتنا من أن الإمام (ع) لم تسعفه الظروف الاجتماعية والسياسية على حد سواء في أن يسدي للإنسانية بالكثير مما عنده من معرفة؛ حيث كان من أزهد الناس في السلطة، ولما جاء المسلمون لمبايعته بالخلافة قبل أن يتولى المسؤولية الأولى في جهاز الدولة الإسلامية الفتية، دخل عليه صفيه وتلميذه "عبد الله بن عباس" يوماً فوجده يخصف نعله فعجب ابن عباس من أن يخصف أمير المؤمنين نعله بنفسه، وهو يحكم مناطق شاسعة من العالم القديم، فقال لابن عباس: (ما قيمة هذه؟) - مشيراً إلى نعله - قال: لا قيمة لها، فقال الإمام: (والله لهي أحب إليّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقاً...) ومن هذا فالسلطة تعني عنده - إذن - إقامة الحقوق، ومقاومة الباطل وأهله، ويظل الإمام حاضرا معنا في كل لمحة، فهو كالبحر تذوب مخيلتك ويشط ذهنك في ثنايا أمواجه الهادرة، فمن بلاغته التي تجسدت في "نهج البلاغة" والتي يزداد بريقها ولم يزدها تقادم الأيام إلا جدة ورفعة، إلى علوم الطبيعة والكون، ونقصد من علوم الطبيعة كل العلوم التي تدرس الطبيعة والكون التي أحاط بكل مفاصلها الى علوم الفلك والرياضيات والفيزياء والكيمياء والجيولوجيا...
إلى مواقفه الخالدة في مجال حقوق الإنسان التي تتضمن الرؤية الشمولية لحقوق الإنسان في الإسلام، فقد كانت مواقفه معبرة أصدق تعبير عن هذه الرؤية، مستميتاً في الدفاع عنها قولاً وعملاً إلى آخر لحظة في حياته، إلى دماثة خلقه حتى مع قاتله الذي شخصه منذ وقت مبكر، ولم يقتص منه عملا بمبادئ الإسلام، عندما أتاه عبد الرحمن بن ملجم ليبايعه نظر علي(ع) في وجه طويلاً، ثم قال: أرأيتك إن سألتك عن شيء وعندك منه علم هل أنت مخبر عنه؟ قال: نعم، وحلفه عليه فقال: أكنت تواضع الغلمان وتقوم عليهم، وكنت إذا جئت فرأوك من بعيد قالوا: قد جاءنا ابن راعية الكلاب؟؟ فقال: اللهم نعم، فقال له: مررت برجل وقد أيفعت (صرت يافعاً) فنظر إليك نظراً حاداً فقال: أشقى من عاقر ناقة ثمود؟ قال: نعم قال: قد أخبرتك أمك أنها حملت بك في بعض حيضها؟ فسكت هنيئة ثم قال: نعم، فقال الإمام: قم فقام، قال ( ع): سمعت رسول الله ( ص) يقول: (قاتلك شبه اليهودي بل هو اليهودي).
  ونقول هل توقف عطاؤه (ع)على أحد دون آخر؟ كلا بل فاض بره وطوق أعناق حتى أعداءه، وهل توقف عدله، أم جوده وكرمه؟، وهكذا فعطاياه كالنجوم لا تعد ولا تحصى، ولكن ماذا جنى من كل مداده الذي نشره على مدى أكثر من (63)سنة؟ والجواب يأتي من عدو الله الذي طالما أفاض عليه الإمام بجوده وكرمه، فماذا جنى منه ومن أمثاله من الطغاة البغاة إلا الغدر، فعبد الرحمن بن ملجم الذي غرته الدنيا بزخرفها وتمايل عشقا مع شيطانها، فسار على هوى الخوارج وذاب في حب قطام، التي قُتل أبوها وأخوها وزوجها في النهروان، وقد امتلأ قلبها غيظاً وعداءً لأمير المؤمنين، وأراد ابن ملجم أن يتزوجها فاشترطت عليه أن يقتل أمير المؤمنين (ع) فاستعظم هذا الأمر وطلبت منه ثلاثة آلاف دينار وعبداً، وانصاع لطلبها، وتمثل لأمرها، ونفذ مآربها فتحين الفرصة للغدر بالإمام، وكان الإمامُ (ع) يعلم بسر ابن ملجم ليخبره عن نومته الخبيثة، بأنها نومة يمقتها الله، وهي نومة الشيطان، ونومة أهل النار، وبر أمير المؤمنين ( ع) يفيض من علومه على الأخيار والأشرار وينصح السعداء والأشقياء ولا يبخل عن الخير حتى لأشقى الأشقياء، ويرشد كل أحد حتى قاتله!! ثم يقول الإمام لعدو الله تعالى: لقد هممت بشيء تكاد السماوات أن يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً، ولو شئت لأنبأتك بما تحت ثيابك ثم تركه، واتجه إلى المحراب، ويستغل اللعين سجود الإمام لفعل فعلته الخبيثة، التي قابلها الإمام بقولته الخالدة" فزت ورب الكعبة"، هذا ما وعد الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، لقد استولت الدهشة والذهول على الناس، وخاصة على المصلين في المسجد، وفي تلك اللحظة هتف جبرائيل بذلك الهتاف السماوي المدوي والذي لم نسمع في تاريخ الأنبياء أن جبرائيل هتف يوم وفاة نبي من الأنبياء أو وصي من الأوصياء، ولكنه هتف ذلك الهتاف لما وصل السيف إلى هامة الإمام وهو بعد حي، هتف بشهادته كما هتف يوم أحد بفتوته وشهامته يوم قال: لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار، ويذهب أعداؤك سيدي الى مطامر النار، وغياهب جهنم، وتبقى منارا وعلما بل تبقى قبسا يسير على هداه المتقين الى يوم الدين.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=156460
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 06 / 05
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 14