كيف نحقق الرضا والكفاية في عالم متغير على الدوام؟
لازال رايموند تانغ يتصارع مع هذا السؤال لحين عثوره على فلسفة صينية قديمة تتضمن مقطع مميز يقارن مابين الخير والماء، وقد حصد منها ثلاث دروس مهمة حرص على تطبيقها في حياته اليومية.
يقول رايموند تانغ وهو طالب في مرحلة الدكتوراه، جامعة كاليفورنيا:
عندما تستيقظ صباحا ستجد هاتفك مليئ بالاشعارات والرسائل، والرزنامة تذكرك بمواعيدك وارتباطاتك، تشعر بأنك مشغول جدا، في الواقع تشعر بأنك انسان منتج، لكن في نهاية الامر سيتولد عندك شعور بان هنالك شيء ما ناقص، ستحاول ان تشخص ذلك النقص، لكن وقبل ان تتمكن من فعل ذلك، سيبدأ يومك الجديد.
هكذا كان حالي طوال العامين الماضيين، كنت اشعر بأني مضغوط ومضطرب وكأني واقع في مصيدة،فالعالم من حولي يتحرك بسرعة كبيرة، وأنا عاجز عن فعل أي شيء.
بدأت اتساءل مع نفسي، كيف يمكنني مواكبة كل هذا!
كيف يمكننا الوصول الى الكفاية في عالم تبلغ سرعته في التغيير كسرعتنا في التفكير، او ربما اسرع؟
بدأت بالبحث عن جواب، تحدثت مع العديد من الناس ،مع الاصدقاء، مع العائلة، حتى اني قرأت العديد من كتب مساعدة الذات، لكني لم أعثر على الجواب الشافي!
في الحقيقة كنت كلما قرأت المزيد من كتب مساعدة الذات كلما زاد شعوري بالضغط والتوتر، وكأنني اهضم عقلي، ولوهلة شعرت بالبلادة.
اوشكت على اليأس،الى ان عثرت على 'تاو تي جنغ' كتاب 'الطريق وحسناته'
إنها فلسفة صينية قديمة كتبت قبل حوالي 2600.سنة تقريبا، كان اصغر كتاب في المكتبة يتألف من 81صفحة! وفي كل صفحة يوجد قصيدة قصيرة. في معرض تصفحي للكتاب اذكر أني لاحظت هذه القصيدة:
الخير الاسمى يشبه الماء
ينفع جميع الاشياء دون خلاف
في التأمل، يبقى متواضعا
في الوجود، يتدفق الى الاعماق
في التعبير ، هو صادق
في المواجهة، يبقى لطيفا
في الحكم ، هو لايسيطر
في العمل، يتوافق مع التوقيت
إنه راض بطبيعته
ولذا لايمكن أن ينتقد
عندما قرأتها للمرة الاولى شعرت بقشعريرة تسري في بدني، واليوم شعرت بها وأنا أقرأها لكم.
فجأة اختفى اضطرابي وتوتري،
منذ ذلك الحين بدأت أحاول تطبيق المبادئ الموجودة في تلك القصيدة على حياتي يوما بيوم، واحببت أن اشارككم الدروس الثلاثة التي تعلمتها من فلسفة الماء هذه.
ثلاث دروس أعتقد أنها ساعدتني فعلا لأصل الى الرضا والكفاية في كل ما أفعله تقريبا.
الدرس الاول هو التواضع، لو تأملنا الماءالمتدفق في النهر ، لوجدنا أنه يبقى منخفضا على الدوام، يساعد النباتات على النمو ويحفظ حياة بقية الكائنات الحية، إنه في الواقع لايجذب الانتباه لنفسه،كما أنه لايحتاج الى مكافئة او عرفان بالجميل، إنه متواضع.
ومن دون تواضع الماء بهذه المساهمة المهمة، لما كان هنالك حياة.
وقد تعلمت من تواضع الماء بعض الامور المهمة، لقد تعلمت أنني بدلا من العمل وكأنني اعرف ما أفعله بالضبط، وكأني امتلك كل الحلول، لابأس من ان اقول أنا لا أعرف، أريد أن أتعلم المزيد، أنا احتاج الى المساعدة.
تعلمت ايضا أنه بدلا من السعي لتعزيز نجاحي وتفوقي، سيكون من المرضي حقا تعزيز نجاح وتفوق الاخرين.
تعلمت أنه بدلا من التركيز على مايمكنني انجازه والمضي قدما، سيكون من الافضل والاكثر ارضاءا لو أني ساعدت الاخرين على تجاوز التحديات وتحقيق النجاح.
بهذه العقلية المتواضعة كنت قادرا على تكوين العديد من الروابط المثمرة مع الناس من حولي. كنت مهتما بتلك القصص والتجارب التي جعلتهم فريدين من نوعهم ومميزين، اصبحت الحياة اكثر متعة، لانني يوميا اكتشف افكار ومعضلات جديدة، وحلول جديدة لم أكن أعرفها من قبل. كل الشكر لتلك الافكار وللمساعدة التي حظيت بها من الاخرين.
فجميع الجداول عاجلا ام أجلا ستصب في المحيط، لأنه اكثر انخفاضا منها.
التواضع يمنح الماء قوته، لكني اعتقد أنه يمنحنا القدرة على الاحاطة التامة بمجريات الامور ، وأن نكون حاضرين، لنتعلم ونتغير بفعل مانسمعه ونراه من أحوال الناس وقصصهم .
الدرس الثاني الذي تعلمته هو الانسجام.
لو تأملنا الماء الذي يصادف صخرةاثناء جريانه، سنجده يلتف حولها بهدوء، هو لا ينزعج او يغضب، ولا يصيبه الاضطراب او الهيجان. اي ان الماء اذا واجه عائقا فإنه بطريقة ما يجد الحل، من دون قوة أو صراع!
اثناء تفكري بهذه الامور ، ادركت لماذا كنت متوترا في البداية، فبدلا من التعايش بأنسجام مع محيطي الخارجي، كنت أعمل ضده، كنت اجبر الاشياء على التغيير، لأني كنت مستغرقا في الحاجة الى النجاح واثبات الذات، وفي النهاية لم يحصل شيء، وازدت احباطا، لكن بمجرد تغيير بوصلة التركيز من محاولة تحقيق المزيد من النجاح الى محاولة تحقيق الانسجام اصبحت بالفعل اكثر هدوءا وتركيزا، وبدأت بطرح الاسئلة مثل:
هل هذا الفعل يحقق الانسجام مع محيطي الخارجي؟
هل يتناسب مع طبيعتي؟
بدأت اشعر بأرتياح اكبر لانني ببساطة اتصرف كما اكون وليس كما يفترض بي ان اكون، في الواقع اصبح العمل اسهل لأني لم اعد اركز على الامور التي يصعب علي انجازها او التحكم بها!
انا فقط افعل ما استطيع فعله، ولم اعد اتصارع مع نفسي. تعلمت التعايش مع بيئتي وحل مشكلاتها.
الطبيعة لاتستعجل، ومع ذلك كل شي يتم انجازه في وقته.
هكذا تصف فلسفة تاو تي جانغ قوة الانسجام.
لو اننا وبدل التركيز على ان نكون اكثر نجاحا، ركزنا على ان نكون اكثر انسجاما، لشعرنا بمقدار كبير من الرضا.
الدرس الثالث الذي تعلمته من هذه الفلسفة هو الانفتاح.
الماء منفتح على التغيير.بالاعتماد على درجة الحرارة يمكنه ان يكون سائل او صلب او غاز، ويتشكل بحسب الوعاء الذي يضمه يمكن ان يكون ابريق ماء او قدح او مزهرية.
(يلعب ادوار مختلفة حسبما تقتضه الظروف الموضوعية)١
إن خاصية الماء على التكيف والتغيير واحتفاظه بالمرونة هي التي منحته القدرة على التحمل على مدى الزمان رغم كل مايحصل حوله من تغييرات.
نحن نعيش في عالم متغير، ولا يمكننا العمل على وصف وظيفي ثابت او ان نتبع مسلك مهني احادي.
نحن ايضا نتوقع على الدوام ان نقوم بإنعاش مهاراتنا وتجديدها لنكون مواكبين لما يحصل من تغييرات من حولنا.
في منظمتنا لدينا مايعرف بالهاكاثون، حيث يجتمع
عدد من الناس لحل مشكلة معينة ضمن سقف زمني محدد.
المهم بالنسبة لي هو ان الفريق الذي يفوز هو ليس الفريق اذي يتمتع اعضاءه بالخبرة بل الفريق الذي يكون لافراده الاستعداد للتعلم ومساندة بعضهم البعض والخوض في غمار الظروف المتغيرة.
الحياة تشبه الهاكثون الى حد كبير
فهي تدعو كل فرد منا الى التأمل والانفتاح وإحداث تأثير مضاعف.
يمكننا البقاء خلف الابواب الموصدة مشلولي الحركة بمعتقداتنا الشخصية المحدودة، او ان ننفتح ونواكب. إنها بالفعل لتجربة مذهلة.
التواضع ، الانسجام والانفتاح هي الدروس التي تعلمتها من الماء واصبحت اسس انطلاقي في الحياة
اليوم عندما اشعر بالتوتر ،عدم الرضا او الحيرة، ببساطة أطرح على نفسي هذا السؤال:
مالذي سيفعله الماء؟
هذا السؤال البسيط والفعال استلهمته من كتاب صغير كتب قبل عصر البتكوين والتكنولوجيا المالية والرقمية، لكنه غير حياتي الى الافضل!
[ ]
انتهى كلام رايموند تانغ، الذي تأمل وتفكر وحقق واستقصى الى أن اكتشف حجية الماء ، فأغترف منها غرفة روى بها ظمأه نحو التكامل الروحي والأخلاقي.
أوليس هذا هو مسلكنا نحن المسلمين!
أوليس التفكر هو مخ العبادة !
واذا كان تانغ قد ارتوى من ذلك المركب الكيميائي البسيط، الماء(H2O)، فمالنا لم نعمل لحد الان بمقتضى حجية اصل الوجود ومنبعه، محمد المصطفى واله الاطهار .٢
فهل سعينا للتعرف الى ذواتهم وتقصي سلوكهم، فإذا ما واجهتنا عقبة ما قلنا:
مالذي سيفعله النبي؟
أو مالذي سيفعله الامام؟
التواضع ، الانسجام والتكيف، كلها خصال فذة تجسدت في الخير الاسمى، تجسدت في الماء المعين!
‐------------------------------
١/المترجم
٢/(اول ما خلق الله نور نبيكم ياجابر ثم خلق منه كل خير) بحار الانوار، ج١٥، ص٢٤.
|