إنّ الأُسلوب - الذي نُعنى به - مادةٌ لُغويَّةٌ في المقام الأوّل، ونتوخّى من ذلك أنه صياغة من الألفاظ تأتلفُ في ثناياها العديدُ من الخواصّ التَّعبيرية الفنيّة منها والبلاغيّة، إضافةً إلى الفِرادة التي يتميَّزُ بها صاحِبُها، وغير ذلك أيضاً، وهذه الخواصّ التعبيرية بجملتها تهدف في آخر المطاف إلى التأثير في المتلقي كما هو معروف، ونظرة عَجْلى على حيثيات هذا الموضوع، تجعلنا نتوقع أنه ليس مفاجئاً أن يمتدَّ التفكيرُ في مسألة تجديد الأُسلوب العربي في عصر الحداثة والتنوير إلى أنساق البلاغة العربيّة نفسها، في محاولةٍ لفهمها وتجديد أُسسها ومنطلقاتها التي تساعد في تحديد مفاصلها المهمّة التي يكون بمقدورها فيما بعد أنْ تُحدِّدَ جماليات النصِّ الأدبي أو تُشَخَّصُها؛ بوصفها الجذر المتأصِّل لتركيبة موضوع الأُسلوب المُعقّدة والكثيرة المرجعيات، وهذا أمر لم يقتصرْ على الأدب العربي ونقده حسب؛ بل سبق أن مرّت به المراحلُ التاريخيةُ التي تعاقبت على تطوُّر الآداب الأوربية ودراساتها النقديَّة في حقبها المتقدمة، من خلال خوضها المعترك نفسه؛ ولكنَّها استطاعتْ تلافيه بصورة أكثر وعياً وأقلّ تخبطاً مما هو في أدبنا العربي، ويُرجِعُ بعضُ الدَّارسين هذه الإشكالية في نقدنا العربي إلى طبيعة تراثنا الأدبي الذي لم تسنحْ له الفرصُ الكافيةُ كي يؤسِّسَ نظريةً أدبيةً يمكن الاستعانة بها لتخطّي مثل هـذه العقبات الشائكة، الأمر الذي ترك أثراً لا يُحمَد على مسار حياتنا الأدبية سواءً في عصور الانحطاط أو عصر النهضة الحديثة.
ويهمنا أن نرصد - ونحنُ نتتبع صيرورة الأسلوب العربي الحديث في مراحله المرتبطة بعقود القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين - حالةً بدتْ مَلامِحُها تلوح في الأفق، حتَّى أعلنتْ عن نفسها بوضوح تام فيما بعد، وهي اصطباغ هذه المرحلة للعقل العربي بالروح العلمية، وما تبعها من توجُّهٍ جادٍ نحو الموضوعية، وانعكاس ذلك على فهم ودراسة الأُسلُوب، ولتفاعل مثل هذا النوع من الاهتمامات العلمية، وما تضمنته من ترجمة المصطلحات أو الموضوعات المتعلَّقَةُ بالمخترعات الحديثة في مختلف مجالاتها، جعلها تشكِّلُ علامةً فارقةً على طبيعة وعينا العربي وتفكيرنا المستحدث، بدءاً من تلك العقود من تاريخنا الفكري بصورة عامّة، والأدبيّ بشكلٍ خاص، فعلى سبيل المثال نادى (سلامة موسى) إلى استعمال الأسلوب التلغرافي؛ وكان يعني به الأسلوبَ المركَّزَ الذي يخلُو من الحَشْوِ؛ أي الاكتفاء بأخصر قدر من القول المعبِّر عن المعنى...
• رسالة تقدم بها إلى قسم اللغة العربية في كلية الآداب جامعة البصرة/ لنيل درجة الدكتوراه في فلسفة اللغة العربية وآدابها.
|