لقد كان تدوينُ الحديث عند العامة متأخراً جدّاً؛ لأنَّهم منعوا تدوين الحديث في عهد رسول اللهرغم أمره بتدوينه ، كما مُنِع الرسولمن كتابة وصيته في آخر ساعة من حياته، واستمرَّ النهيُ عن كتابة سنَّة رسول الله حتى عصر الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، حيث رفع الحظر، وأَمَر بتدوين حديث الرسول، فكانت البذرة الأولى في تدوين الحديث تحت إشراف النظام الأموي، فاتَّخذت ﻣﻨﻬﺠﻴﺔ البحث الحديثي طابع الفكر الأموي الَّذي كانت مواقفه معروفة اتِّجاه أمير المؤمنين، وأهل البيت؛ لذا شَدَّدُوا على منع روايات فضائل أهل البيت، وأطلقوا العنان في مدح مخالفيهم، ومِن شواهد هذه المسألة ما رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل )قال: سألت أبي عن عليٍّ ومعاوية فقال: "إعلَمْ أنَّ عليّاً كان كثير الأعداء، ففتش له أعداؤُه شيئًا فلم يجدوه، فجاءُوا إلى رجل قد حاربه وقاتله فأطروه كيدًا منهم له((1).
ومن المؤسف أن نرى استمرار سلبيات هذه المنهجية عبر قرون عديدة، حتَّى يمكنك أن ترى هذا الأثر ظاهراً عند معظم علماء الجرح والتعديل في مسألة توثيق رجال الحديث، فإذا اشتهر راوٍ من الرواة بالبغض والنصب لعلي أو لآل الرسول كان ذلك الراوي مصدر ثقة، وموضع احترام عندهم أمثال حريز بن عثمان الَّذي كان ينتقص الإمامَ علياً، وينال منه، فكان هذا الراوي مصدر ثقة عندهم لبغضه أمير المؤمنين، فقد وثَّقوه رغم وجود هذه الخصلة الذميمة فيه والتي تسقط عدالته، فتراهم فضَّلوه على كثير من الرواة، حتى قال عنه أحمد بن حنبل: (ثقة، ثقة، وقال أيضًا: ليس بالشام أثبت من حريز) (2).
وفي مقابل هذا، ترى تشدُّدَهم وتركهم لمن أحبَّ أو روى فضائل أهل البيت، وإنْ كان الراوي في حدِّ ذاته صادقاً مشهوراً بالصلاح عابداً زاهداً، أو كان إماماً من أئمة السنَّة فَسَيُتَّهم بالتشيّع أو الرفض، وتترك روايته، ويُتَّهم بالكذب أمثال الحارث الهمداني الَّذي وصفوه بأحد الكذابين، وتركوا روايته لأنَّه أحبَّ عليًّا، وقد شهد أحدُ علماء السنَّة وهو ابن عبد البر على براءته من الكذب، وبيَّن سبب تكذيبه فقال: (ولم يَبِن من الحارث كذب، وإنما نُقِم عليه إفراطه في حب عليٍّ)(3).
فمحبة عليٍّ، صارت عندهم معياراً لاتهام الراوي بالكذب وعدم الأخذ بروايته، ولا شكَّ أنَّ هذا الأسلوب كان له الأثر الكبير في إسقاط أحاديث كثيرة تُركت ولم يُعمل بها بسبب محبة رواتها لعليٍّ، فتوهموا أن حبَّ عليٍّ جريمة تسقط بها عدالة الراوي، متجاهلين قول رسول الله الذي رواه مسلم بإسناده عن عليٍّأنه قَالَ: وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ إِلَيَّ أَنْ لاَ يُحِبَّنِي إِلاَّ مُؤْمِنٌ وَلاَ يُبْغِضَنِي إِلاَّ مُنَافِقٌ(4).
وقد حاول ابن تيمية تضعيف هذه الحديث والتشكيك به(5).لأجل تبرئة معاوية من النفاق؛ لأنّ هذا الأمر يخص معاوية، فهذا الحديث يثبت نفاق معاوية الَّذي أبغض عليًّا، فلذا ذهب ابن تيمية يلتمس لمعاوية الأعذار ويرفع مِن شأنه، فأخذ يكذِّب رسول الله، ويضعِّف من حديثه، كرامة وثأراً لمعاوية!.
والمتتبع لأقوال ابن تيمية يشعر بعمق البغض الَّذي يكنه ابن تيمية لعليّ بن أبي طالب، ولعلَّ هذه الخصلة هي السبب في تلقيبه بشيخ الإسلام.
وهكذا لعبت الأهواء والمزاجية الدور الكبير في انحراف المنهج الحديثي عن مساره الصحيح، مخلفةً خلفها سلبيات كثيرة كان لها الأثر الكبير على مختلف المجالات التطبيقية في الحياة العبادية أو المعاملاتية، إضافة إلى التطرّف الَّذي أودى بحياة الكثير من الأبرياء، حتى طال بعض علماء السُّنَّة كالنسائي الَّذي هو أحد مؤلفي الصحاح الست، فقد قتلوه بسبب تصنيفه كتاب الخصائص في فضل علي بن أبي طالب وأهل البيت، فأنكروا عليه ذلك، وقيل له: ألآ تخرج فضائل معاوية، فقال: أي شيء أخرج؟ حديث اللهم لا تشبع بطنه، وسئل - أيضاً - عن معاوية وما جاء من فضائله، فقال: ألا يرضى رأسًا برأس حتى يفضل، فما زالوا يدفعون في خصيته وداسوه حتى أخرج من المسجد وحمل إلى الرملة ثمَّ مات بسبب ذلك الدوس.
هذا وقد شعر بعض العلماء المتأخرين من أهل السنَّة بضرورة دراسة النصوص وتحليلها، فنادوا للإصلاح والتغيير أمثال محمود أبو رية في كتابه أضواء على السنة المحمدية، ونأمل أن نرى الكثير من المتحررين عن تلك المنهجيَّة الأموية الساعين في وضع منهجية صحيحة تقوم على أسس منطقية صحيحة لتقويم جميع النصوص التي تأثرت بالطابع السياسي الأموي.
المراجع:
علي الخباز, [٠٧.٠٧.٢١ ١٢:٤٤]
(1) الصواعق المحرقة لابن حجر : 197، [الفصل الثالث في ثناء الصحابة ، والسلف عليه] ، ط . دار الكتب العلمية، سنة؛ 1420هـ - 1999م ، بيروت .
(2) تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني:2/220[حرف الحاء: من اسمه حارث/1075-الحارث بن عبد الله الأعور]، ضبطه صدقي جميل العطار،دار الفكر، بيروت-لبنان، ط.الأولى؛1415هـ- 1995م.
(3) نفس المصدر السابق:2/117.
(4) صحيح مسلم: 49[كتاب الإيمان/باب الدليل على أنّ حب الأنصار وعليّ رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته وبغضهم من علامات النفاق- ح. 131-(78)]، مؤسسة المختار، القاهرة- مصر،ط. الأولى؛ 1426هـ- 2005م.
(5) منهاج السنة النبوية:7/83، خرج أحاديثه وعلق عليه واعتنى به: محمد ايمن الشبراوي، دار الحديث القاهرة، القاهرة- مصر، ط.1425هـ- 2004م.
|