• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : حرب وسجن ورحيل -58 / سنوات ما بعد الحرب - 3 .
                          • الكاتب : جعفر المهاجر .

حرب وسجن ورحيل -58 / سنوات ما بعد الحرب - 3

أستمرت لعبة القط والفأر التي كان يمارسها النظام العراقي مع القوات الأمريكية التي كانت طائراتها  الحربية وأقمارها التجسسية تجوب العراق من كل الأتجاهات لكن النظام كان يتصرف  وكأنه المنتصر وبصورة بائسة لاتنطلي حتى على السذج  من الناس  ليظهر نفسه بأنه مايزال قويا مقتدرا ويستطيع أن يوجه ضربات موجعة ألى القوات الأمريكية التي بقيت في الكويت والسعودية تراقب الوضع عن كثب وغالبا ماكانت تحلق أحدى  طائرات الميغ الحربية المتبقية لدى النظام العراقي في الأجواء الجنوبية مخترقة حاجز الصوت  تعود بعدها لتختبئ ويصدر البيان العسكري المعد سلفا بأن (قوتنا الجوية المقتدرة طاردت طائرات العدو في أجوائنا الجنوبية  وأجبرتها على الفرار !!!) وقد أسقطت بعض الطائرات العراقية من قبل الطائرات الأمريكية التي كانت تفوق الطائرات العراقية تقنية  وكفاءة دون أن يعترف  النظام بسقوطها. واستمرت هذه الظاهرة خلال أعوام  92، و 93و 94و95في الوقت الذي كان الحصار يأخذ بخناق العراقيين ويزيد من مآسيهم ويعمقها أكثرفأكثر دون أن يكترث النظام بذلك .

كانت نتائج الحرب والحصار بادية على كل الوجوه وباستطاعة أي أنسان بسيط  قراءة  وجوه العراقيين التي تنطق بعلامات التذمر والغضب والأستياء من النظام وأزلامه الذين كانوا يعيشون في واد والشعب في واد آخر . لقد كنا مجموعة من المعلمين في المنطقة نجتمع في بيت صديقي المرحوم الأديب جعفر سعدون لفته وقد توفي بعضهم والبعض الآخر مازال حيا أمد الله في عمرهم وكانت الثقة بيننا قوية حيث قضينا أعمارنا كأصدقاء وكنا نتداول في أحاديثنا التي غالبا ماتستمر ألى منتصف الليل عن حالة الأنهيار الأجتماعي والأقتصادي  التي أحدثتها الحرب وخاصة بين طبقات الشباب الذين أنهكتهم الحروب ورموا على الرصيف بعد أن شابت رؤوسهم.وتحول الكثير منهم إلى أشخاص عدوانيين في المجتمع الذي بقيت مظاهر العسكرة مستمرة فيه حتى بعد تلك الحرب الكارثية  مما ولد أنطباعا لدى الأجيال التي بعدهم بأن حروبا قادمة تلوح في الأفق مادام رأس النظام وحاشيته  وأقربائه وعشيرته  متسلطين  على دفة الحكم في العراق  حيث لجأ بعض الشباب الذين أكملوا الثامنة عشرة ألى تعويق بعض أعضائهم بآلات حادة عسى أن يعفوا من  خوض الحروب القادمة.
لقد كانت أحاديثنا تدور عن الأقرباء والجيران من الشباب اليافعين  الذين غيبتهم الحرب إلى الأبد ومازالت جثثهم ضائعة في رمال الصحراء ولم يعثر أهاليهم على جثثهم بعد عملية بحث مضنية كانت تدوم أشهرا  وتستنزف العائلة فيها الكثير من المال ثم تعود بخفي حنين و كانت معظم تلك الأسرمن الأسر الفقيرة المعدمة التي أنهكها الحصار وكاد يقضي عليها .

وقد عقب أحد زملائنا على ذلك الموضوع  قائلا : (كيف يرضى هذا الرئيس لنفسه أن يبقى متربعا على عرش السلطه  ويحمل رتبة مهيب ركن وجيشه قد أهين بهذه الصوره وتمزق وتاه في الصحاري والوديان ودفن الآلاف منهم تحت ملايين الأطنان من الرمال وهم أحياء؟فأجابه زميل آخر هذا هو شأن كل دكتاتور فهو لايرى ألا نفسه ولو رأى بحورا من  دماء شعبه تسفك أمامه فهو يعتبرها عملا مقدسا من أجل بقائه. 

والتأريخ شاهد على ذلك أقرأوا حياة نيرون وهتلر وماوسليني وقياصرة روسيا سترون الأعاجيب . فعقب آخر قائلا وهل  غنى لهم المغنون   كما غنى المطربون  لرئيسنا (مانريد الهوه والماي بس يسلم أبو عداي ؟ ) و (ياصدام أحنه وياك وين أتريد ودينه. وغيرها من آلاف الأغاني ؟ ) فعقب المرحوم جعفر سعدون أتمنى عليكم أن  تقرأوا بعض  رويات الحروب عن  الحربين الكونيتين السابقتين لكي تعلموا كم من المآسي الأنسانية  الكبرى حدثت فيها؟   وتحدث آخر معقبا وهل كان  لأولئك الطغاة أبناء متهتكين ومنحرفين مثل عدي وقصي يفعلون مايشاؤون دون أن يحاسبهم أحد ؟فأجاب لاأدري بأمكانكم أن  تقرأوا روايات الحروب تلك وتجدوا بأنفسكم ماحدث فيها . وأتذكر في أحدى المرات قرأ لنا  الشاعر  المرحوم جعفر سعدون لفته قصيدة عن الحرب العالمية الثانية  للشاعرة المرحومة نازك الملائكة كان يحتفظ بها  وقد أخذتها منه وصورتها ومازلت أحتفظ  بصورتها  مع بعض الأوراق القديمة حيث تقول الشاعرة في بعض  مقاطعها:

أسفا ضاعت الميادين بالقتل

وما عاد يدفن الأموات في سفوح الجبال
أنظري الآن هل ترين سوى آثار دنيا
ليس من سحرها سوى أحجار
تثير الدموع والأشجانا
أين لهو الأطفال عند البحيرات
وفوق الثلوج في الأعياد؟
أين ضاع الخيال والحلم الفاتن
ضاع الجمال ضاع الرخاء
ليس ألا دنيا من الجوع والفقر
عليها يعذب الأبرياء
ياقلوب الأطفال لاتخفقي الآن
حنينا  لا لن يرجع الآباء.
 وغالبا ماكانت أحاديثنا تستمر ألى ساعة متأخرة تنهيها نواح الثكالى من الجيران اللواتي فقدن أبناؤهن في الحروب وكان كل واحد منا يتسلل ألى بيته في جنح الظلام بعيدا عن أعين ومراقبة جلاوزة السلطة الصدامية  التي لو ظفرت بنا لقضت علينا جميعا في لحظات.وقد استمرت تلك اللقاءات لأشهروما زلت أتذكر في أحدى لقاآتنا ذلك الكلام الذي وجهه أحد زملائنا لنا  وجعلها على شكل خطبه ولكن بصوت خافت لايسمعه أحد سوانا حيث كانت الحيطان لها آذان كما يقال في الأمثال وكان صاحبنا مغرم باللغة العربية الفصحى ولا يتكلم ألا بها حيث كان متأثرا بأستاذه  (محمد مهدي الخالصي) الذي درسه اللغة العربية قبل  أعوام طويلة قائلا : (أيها المعلمون عليكم أن تشدوا الأحزمة على البطون وأن تفعلوا المستحيل لتجدوا أعمالا تدفعون بها غائلة الجوع عن بطونكم وبطون أطفالكم وعوائلكم ..الله الله في أطفالكم الذين هم أمانة في أعناقكم في هذه الدنيا  وكما قال الشاعر أولادنا أكبادنا تمشي على الأرض فالحالة الأقتصادية تنحدر نحو الهاوية بعد أن سقطت العملة العراقية وأصبحت أكواما من الورق وسيأتيكم يوم لايكفيكم فيه الراتب لسد الرمق لعدة أيام فالأوضاع أكثر من كارثيه وستصبحون كالأيتام في مأدبة اللئام كما قال طارق بن زياد  وقد أعذر من أنذر. ) ققهقهنا بضحكات رغم الألم  وقد تحققت نبوءة ذلك الزميل وصدق كلامه وهو اليوم مصاب بالشلل شافاه الله وأنقذه من محنته لقد كان صاحب نكتة وبديهة في أحلك الظروف . وقد زرته قبل أشهر في بيته وذكرته بتلك الكلمات  وسالت دموعنا رغما عنا على العراق وما حل به  في ماضيه وحاضره الذي تسلط  عليه  ثعابين الفساد والأجرام والنهب والسلب ولكن اليوم بطرق  مشروعة ظاهريا تحت المظلة الأمريكية التي منحتنا الديمقراطية بأبهى صورها وعلينا أن نشكر ولية أمرنا أمريكا على صنيعها الجميل حتى ولو مازلنا  فقراء مشرد ين عن وطننا لم نل  حق المواطنة ولم نحصل عليه لحد الآن وأفاعي البعث والمخابرات الصدامية والعقارب الشوفينية الفاسدة تصول وتجول في المؤسسات الأمنية  ودوائر الجنسية  وهي تعيش في لذيذ العيش كما في السابق بل أكثر  .!!!
في اليوم السابع من شهر تشرين الثاني عام 1994 توجهت قوة عسكرية أمريكية قوامها 54 ألف جندي أمريكي  وحاملة طائرات تضم أعدادا  من الطائرات المقاتلة الحديثة ألى الخليج بعد أن رصدت  الأقمار الصناعية  الأمريكية أن هناك عدة ألوية من الحرس الجمهوري الذي سمحت
له القوات الأمريكية  بالعودة ألى بغداد  وحماية النظام الذي أوشك على السقوط أثر الأنتفاضة الشعبانية العارمة عام 1991م وقد تمركزت على مقربة من الحدود العراقية الكويتية وكاد الهجوم يقع من جديد على تلك القوات من قبل القوات الأمريكية بعد أن منحتها أنذارا لمدة 48 ساعه لكن النظام العراقي سرعان ماسحب تلك القوات ألى الداخل وكانت تلك اللعبه هي جزء من لعبة القط والفأر بين النظام العراقي والقوات الأمريكية وكان رد القوات الأمريكية هو تشديد الحظر الجوي وتوسيعه حتى شمل  أجواء العاصمة بغداد.

لقد رآني جاري المرحوم تاجر الحبوب  (أبو حسن ) في أحد الأيام راجعا ألى بيتي وطلب مني أن أصحبه في سيارته  وكان يحمل في سيارته كيسا من الرز وصفيحة من  الدهن وبعض المواد الغذائية الأخرى فبادرني قائلا هل ترى هذه المواد الغذائيه؟ قلت نعم. قال لقد أشتريت
بثمن هذه المواد قبل خمسة عشر عاما عمارة في بغداد العاصمه مكونة من خمسة طوابق فهل تصدق كلامي؟ أجبته نعم أصدقك تماما لقد قال الله في محكم كتابه العزيز

 بسم الله الرحمن الرحيم : (وتلك الأيام نداولها بين الناس . ) فماالذي باستطاعتنا فعله والأيام القادمة تنذر بسوء وكوارث  أمر وأدهى ؟ أجابني
 (نعم الله اليستر من الجايات .  سكتنه على الظلم سنين وهاي هي النتيجه وصلت للعظم ) أجبته (ياأبا حسن نحن لن نسكت على الظلم ولكن الطاغية بيده كل شيئ وقد سخر كل مقومات العراق لصالح بقائه في السلطه ألم تسمع بهذه الضحايا التي لم تسكت أبدا على الظلم ؟ ألم تر كيف حاصرت عشرات  السيارات العسكرية بيت جارنا بيت (راضي شاوي القصاب )وكيف رموا على بيته القنابل الكاشفة وقتلوا أبنه الشاب الصغير  ( مؤيد) الذي لم يكن مسلحا والذي اتهموه بأنه في حزب الدعوه وغيبوا الأب والأم والأبناء ولم يعرف مصيرهم لحد الآن رغم مرض الأب  في عملية رعب لم يقم بها حتى الصهاينة بالفلسطينيين؟  أجابني  : (كلامك صحيح والله مئة بالمئه  هذا الظالم مايرحم أحد  يقضي على  العائله كلها بس يحس بواحد منها يعارض حكمه. ) قلت له (والله ياأبو حسن هذا الرئيس بس  علينه سبع لكن على غيرنه يصير مثل الجريذي ماشفت شلون وقع بالعشره بخيمة صفوان . حتى يخلوه الأمريكان حاكم علينه؟ )فأجاب : (متكلي منين أجانه هالطركاعه  لطام وشلون  ستمكن   وصار علينه أسد من جديد بعد هالكسره الكشره؟ ) أجبته : (الأمريكان والسعوديه يردونه يظل يكصب ويذبح بالعراقيين بالداخل . )المهم كسروا
الجيش ودمروا الأسلحه ويظلون يراقبوه بس يشيل راسه عليهم يكفخوه ويكلوله  ظل على شعبك لاتفكر بالخارج .  بعد مانخليك تعتدي على  جيرانك اللي راح يبقون بحماية الأمريكان لمئات السنين . ) فأجابني : (والله يخوي هذا صدام مثل حيه أم سبع روس يطب بزاغور ويطلع من زاغور ولا يهتم بكل شي يجرى على شعبه خلانه ناكل تراب حنطه واليحجي يروح بليله ظلمه  صار  البشر بالعراق  مثل الحشره جلك الله  ما أله كل اعتبار جنه مو أنسان حتى الحيوان صار أحسن منه شنو هاي ألله كاتبها علينا ليوم القيامه انظل تحكمنه العفاريت متكلي أحنه  اشسوينه  ؟ البارحه شفت البعثيين يكرفون جيش شعبي شنو أكو حرب جديده ؟ دير بالك لاياخذوك )
 قلت له : (لاماكو حرب أبو حسن بس صدام همه الوحيد يرعب الشعب بالداخل حتى يبقى بالحكم لكطع النفس . ) فأجابني (الله يكطع نفسه اليوم كبل باجرمثل ماكطع أنفاسنه وذبن هبها الهبيه السوده اللي مأله منفذ والله ياجاري الناس كظت والمصايب جنها ماتخلص ماطول صدام
بالحكم طلع مثل الشعره من العجين هو وولده وكرايبه وعشيرته ولا واحد منهم انكتل بالحرب الطايح بيها بس أولاد  الخايبه راحوا بالآلاف هسه أحنه مانخاف على  أنفسنه بعد ماوصلنه الهلعمر أحنه نخاف على أولادنا اللي خلفناهم بها الدوله نكبرهم وياخذهم صدام للحرب ويموتون بالجوال.  ) قلت له (الله  فوق كل ظالم . توكل على ربك ماأتضيك ألله تفرج أبو حسن ) وافترقنا وتوفي الرجل قبل سنوات وقد زرت عائلته وواسيتها وقد رددت كلماته الطيبة أمام زوجته وأولاده وتذكرت ذلك الجار الطيب وقرأت الفاتحة على روحه الطاهرة.
أصدر وزير التجارة (محمد مهدي صالح) أمرا يقضي بقطع الحصة التموينية عن كل عائلة هرب أحد أبنائها من الحرب أو  أعدم  من قبل فرق الأعدام في الخطوط الخلفية التي كان يترأسها العريف  حسين كامل حسن صهرالرئيس الذي أصبح فريق ركن بالتهمة المعروفة ( خائن جبان.
)وكان ذلك بتوجيه مباشر من رئيس النظام وقد شملني ذلك القرار بعد فترة السجن التي قضيتها عقابا لهروب أبني من العراق لكن فترة السجن لم تشفع لي عند جلاوزة النظام  وقد شمل ذلك القرار الآلاف من العوائل في تلك الظروف القاسية الشديدة  الوطئة نتيجة الحصار
وكانت المواد الغذائية الرئيسية في ارتفاع جنوني مستمر وقد أصبح الدولار الواحد يعادل 3500 دينار عراقي . وراتب الموظف القديم لايساوي ذلك المبلغ وكان  ذلك القرار بمثابة  الموت البطيئ لكل تلك العوائل التي كان معظمها بلا معيل حيث كانت قيمة تلك المواد الأساسية لعائلة مكونة من خمسة أشخاص تكلف أكثر من ربع مليون دينار عراقي لكي تستمر على قيد الحياة ولم يكن أمام  كل مشمول بذلك القرار سوى  خيارين هما أما الموت البطيئ من الجوع  أو الهروب من العراق حتى لو كان ذلك ألى الجحيم والنوم على الأرصفة في المدن الغريبه.  وهي من أصعب الأمور على  مواطن  يعيش في بلد يسبح على بحار من البترول ولا يجد فيه كسرة من الخبز يدفع فيها غائلة  الجوع عن نفسه ونفس عائلته ويتهم بأن عائلته غير موالية للرئيس والحزب القائد.أضافة ألى أن ذلك البلد الذي  تغرقه اليوم العواصف الترابية ويهاجمه غول الجفاف  كان من الممكن أن يتحول  ألى جنة خضراء لو صرف عشر معشار تلك المليارات الطائلة التي صرفت على الحروب على بيئته الملوثة اليوموالتي لم تلق أي اهتمام من دهاقنة الحكم الحاليين المشغولين جدا بالصراع على المناصب والمكاسب وقد بدأ يخون بعضهم بعضا في الفضائيات وهم من مذهب واحد والآتي أعظم لأن الباطل الذي ذهب جاء بباطل آخر لايختلف عنه في المضمون ولكن يختلف عنه بالمظهر فقط تحت شعار الديمقراطية الزائف المتهرئ تحت الخيمة الأمريكية المضللة . هذا هو جزء  من نتاج ما فعله بطل العروبة والأسلام  صدام    الذي يتباكى عليه أيتامه الذين أتخمهم بالمال الحرام حين كان  فقراء شعبه يموتون   وما يزالون  .


جعفر المهاجر/السويد
في 20/7/2010 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=159
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2010 / 07 / 20
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19