ها هو يوم عاشوراء يلوح في الأفق ليرسم لنا ملامح العزّة والإباء، عاشوراء نهضة متجددة ضد الظلم والفساد لا تحدّها قيود الزمكان، مفاهيمها، ومعطياتها، ونتائجها، منهج متكامل للحياة يغترف من نبع حياتها التوّاقون إلى الحرية والمساواة والإصلاح، عاشوراء سرّ البقاء لا الفناء، عاشوراء وعي قبل البكاء، عاشوراء منظومة قيمية و أخلاقية متكاملة الجوانب، مستقاة من شريعة الهادي ص ومنطلقة من تلك الشريعة المحمدية التي حرّفها بنو أمية واتخذوا من مسلّماتها وأحكامها هزواً، فكان لزاماً على أبي الأحرار ع أن يقوم بثورة تصحيحية شاملة، تصحيح الدساتير والمبادئ الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية الدخيلة التي وضعها الحزب الأموي تحت مسمّى الشريعة والدِّين، تصحيح مسار الأمة الخانعة للحاكم الظالم والراكنة إلى الدعة والفتور والمستسلمة لأهوائها.
عاشوراء مشروع النهضة الشاملة للأمة، عاشوراء لم تكن مجرد معركة استمرّت لسويعات من يوم العاشر من محرّم عام 61 للهجرة, عاشوراء صرخة لا تزال تتردد في كلّ عام منذ مئات السنين على أسماع الأجيال
وبنفس الحرارة والوهج، و سرّ خلودها أنها لم تأتِ من منطلقات شخصية ضيقة انحصرت في زمن أحداث وقوعها بل لأنَّ أحداثها تمّت على أيدي أشخاص خلّدوا مبادئها وأهدافها، فعاشوراء انطلقت بأشخاصها من بناء الذات إلى بناء المجتمع والأمة لقرون عديدة، )..فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى.. )الكهف: 13, نيف و سبعون رجلاً أعطوا أبلغ درسٍ في تاريخ البشرية بمواقفهم المشرّفة ونفوسهم الأبية وصلابة إيمانهم وعقيدتهم في نصرة الدِّين والحق، عن طريق زرع الوعي في الأمة التي تخاذلت عن أداء واجبها الرسالي ومهامها تجاه دينها ونبيها وإمامها، ولم يكن زرع الوعي في هذه الأمة الخاملة والخانعة سهلاً؛ لأنَّ الأمة في حينها كانت تغطّ في سبات عميق، ولهذا كانت تحتاج إلى هزّة عنيفة لتستفيق من سباتها وترى بعين البصيرة والبصر واقعها المزري، ولم تكن تلك الهزّة إلّا تلك الدماء الزاكية التي كانت تعي جيداً حجم تضحياتها ولم تتوانَ عن التضحيات حتّى آخر قطرة دم في سبيل إحقاق الحق، وهي ليست دعوة للانتحار أو السلبية بل بالعكس إنّها شجاعة وإقدام وبناء أمّة وأجيال للمستقبل عن طريق إعلاء كلمة الله ونصرة دينه.
عاشوراء تعيها تلك الدماء الواعية لمعطياتها ومنطلقاتها وأهدافها ونتائجها، هذه الدماء الواعية متجددة أيضاً عِبر الزمكان، فكما أنّ عاشوراء النظرية متجددة المفاهيم عِبر الزمن فكذلك عاشوراء العملية تتجدد بوعي تلك الدماء لتحدّيات ومتطلّبات المرحلة والمقطع الزمني الذي تمرّ به تلك الأمة، إذا توافرت الملامح العملية لعاشوراء النظرية التي أقصد بها تلك الدماء الواعية التي ستصنع مجد الأمة وتأخذ بيدها لتنهض مجدداً.
وتمرّ الأعوام والقرون ولا يزال وعي الدماء هو الفيصل في إعادة عاشوراء جديدة في معركة الحق والباطل الأزلية، فعاشوراء هي القبس
الذي لا يخبو وهي الدليل نحو النصر والخلود كخلود معركة الطف وشخوصها، وها هو حشدنا المقدّس خير مثال ودليل على وعي الدماء،
فشهداؤنا و أبطالنا هم أبناء الإمام الحسين وفي معسكره مع أبي الفضل العباس والأكبر والقاسم و أصحاب الحسين والنساء مع السيّدة زينب وأم كلثوم وسكينة ورقية , هم مَنْ وعوا عاشوراء بكلّ مفاهيمها وصورها،
هم مَنْ عاشوها لحظة بلحظة وإن بَعُدَ الزمان بينهم، عاشوها فكراً وروحاً ومنطقاً وسلوكاً وهدفاً في الحياة الدنيوية والأخروية، فكان الحشد هو النور على الأرض المستمد من وعي عاشوراء، وهم النور الزاهر في السماوات مع الأنبياء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
|