في معرض الردّ على التطرف الفكري الذي ينادي بتكفير كلّ مَن لا يؤمن برؤية الله تعالى بالعين، ذكرنا في العدد السابق الحديث الرابع من كتب السنة المعتبرة عندهم الَّذي يدلّ على عدم إمكان رؤية الله تعالى بالعين، ونذكر هنا المزيد مِن الأحاديث الَّتي تنفي إمكان رؤية الله تعالى:
الحديث الخامس
قال مسلم: ... عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهبِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ: "إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَنَامُ وَلاَ يَنْبَغِى لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجَابُهُ النُّورُ -وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ النَّارُ- لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ"(1).
قال النووي في تفسير هذا الحديث:
وأما الحجاب فأصله في اللغة المنع والستر، وحقيقة الحجاب إنما تكون للأجسام المحدودة، والله تعالى منزّه عن الجسم والحد، والمراد هنا المانع من رؤيته، وسَمَّى ذلك المانع نورًا أو نارًا؛ لأنهما يمنعان مِن الإدراك في العادة لشعاعهما، والمراد بالوجه الذات، والمراد بما انتهى إليه بصره مِن خلقه جميع المخلوقات؛ لأن بصره سبحانه وتعالى محيط بجميع الكائنات، ولفظة مِن لبيان الجنس لا للتبعيض والتقدير: لو أزال المانع مِن رؤيته وهو الحجاب المسمَّى نورًا أو ناراً وتجلى لخلقه، لأحرق جلالُ ذاته جميع مخلوقاته(2).
فهذا الحديث يفيد استحالة رؤية الله تعالى دائماً بسبب تقييده بـ(لو) الشرطية الامتناعية الَّتي تفيد انتفاء شرطها وجوابها، أي: انتفاء كشف الحجاب، فكشف الحجاب ممتنع؛ لأنه إن كشف الله تعالى الحجاب أدَّى إلى إحراق الخلق، كما حصل للجبل مِن الدك عندما تجلى الله له؛ قال الله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا[الأعراف:143]. وحَمْلُ هذا الحديث على الرؤية في الدنيا دون القيامة تعسف لخلوه مِن القرائن الدالة على اختصاصه بالحياة الدنيا دون الآخرة.
الحديث السادس:
جاء في صحيح مسلم: ... عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى قَالَ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ(3). فهذا خير دليل على أن الرؤيا تكون بالقلب لا بالعين لقوله عزّ وجلّ: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأى، أي لم يره بالبصر ولكن رآه بالفؤاد.
الحديث السابع:
يفيد عدم تمكن الملائكة مِن رؤية الله تعالى؛ فقد روي عن ابن عباس قال: قال رسول الله: (إن الله خلق إسرافيل منذ يوم خلقه صافاً قدميه لا يرفع بصره بينه وبين الرب تبارك وتعالى سبعون نورًا ما منها مِن نور يدنو منه إلا احترق). رواه الترمذي وصححه(4).
رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا (سَأَلْتُ جِبْرِيلَ: هَلْ تَرَى رَبَّكَ؟ قَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ سَبْعِينَ حِجَابًا مِنْ نُورٍ، وَلَوْ رَأَيْتُ أَدْنَاهَا لَاحْتَرَقْتُ). وَرَوَاهُ عَنْهُ سَمَّوَيْهِ بِلَفْظِ: (سَبْعِينَ أَلْفَ حِجَابٍ مِنْ نُورٍ وَنَارٍ). وَفِي النِّهَايَةِ لِابْنِ الْأَثِيرِ أَنَّ جِبْرِيلَقَالَ: (لله دُونَ الْعَرْشِ سَبْعُونَ حِجَابًا لَوْ دَنَوْنَا مِنْ أَحَدِهَا لَأَحْرَقَتْنَا سُبُحَاتُ وَجْهِ رَبِّنَا)، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ صَحِيحَةُ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةَ الْإِسْنَادِ لِمَا يُؤَيِّدُهَا مِنَ الصِّحَاحِ(5).
ومن هنا يُفْهَم بأنَّ الله تعالى لو كان يُرَى لرأته الملائكة قبل كلِّ مخلوق؛ لأنها الأقرب مِن الله تعالى، فهي تسمع كلام الرحمن وتتكلَّم معه، وعلى اتصال مستمرٍّ مع الله تعالى، تُنَفِّذُ أوامره، ومنهم حملة العرش، وتَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ[المعارج: 4]، فإذا لن تتمكَّن الملائكة من رؤيته، وهم عباد الله المكرمون المقربون، فكيف يراه الإنسان الَّذي لا يحمل مواصفات الملائكة؟!
الحديث الثامن:
يفيد أنَّ الرؤية غير واقعة يوم القيامة؛ لأنَّ رداء الكبرياء هو الذي يحول دون الرؤية؛ قال البخاري:
عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللهقَالَ: (جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلاَّ رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ في جَنَّةِ عَدْنٍ)(6). فرِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ: هُوَ مَا يَتَّصِفُ بِهِ مِنْ إِرَادَةِ احْتِجَابِ الْأَعْيُنِ عَنْ رُؤْيَتِهِ.
ومن العجيب في تطرفهم، أنهم اعتبروا هذا الحديث دليلاً على رؤية الله تعالى؛ فقد قال الكرماني ما حاصله: إن رداء الكبرياء مانع عن الرؤية، فَكَأَنَّ في الكلام حذفاً تقديره بعد قوله: (إلَّا رداء الكبرياء فإنه يمُنُّ عليهم برفعه فيحصل لهم الفوز بالنظر إليه)(7).
وهذا الحذف لا يجوز لسببين؛ الأوَّل: أنَّ الأصل في الكلام أن يحمل على ظاهره دون تقدير محذوف، والسبب الثاني: هذا الحذف الاعتباطي لا يستند إلى أيِّ قاعدة لغوية أو نحوية، فلا يجوز في مثله في اللغة العربية، فالحديث صريح بعدم جواز الرؤية وحمله على تقدير محذوف مكابرة لإثبات صحة مذهبهم في رؤية الله تعالى.
وقال محمد رشيد –وهو أحد علماء السنة- منكراً على الكرماني تقديره: (وَفِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ مَا لَا يَنْبَغِي لِحُفَّاظِ السُّنَّةِ الِاعْتِدَادُ بِهِ، وَهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ مِثْلَهُ، وَمَا هُوَ أَمْثَلُ مِنْهُ مِنْ تَأْوِيلَاتِهِمْ)(8).
هذا وسنذكر في العدد القادم مزيداً من هذه النصوص النافية لإمكان رؤية الله تعالى.
المراجع:
(1) صحيح مسلم:89 [ ح. 293-(179)- كتاب الإيمان].
(2) شرح صحيح مسلم للإمام النووي:3/17[كتاب الإيمان/باب (79)-ح. 293].
(3) صحيح مسلم:87-88 [ ح. 285-(176)- كتاب الإيمان].
(4) مشكاة المصابيح للتبريزي:3/ 245،[باب صفة النار وأهلها]، تحقيق: تحقيق محمد ناصر الدين الألباني.
(5) تفسير المنار لمحمد رشيد:9/124[سورة الأعراف/آية: 144].
(6) صحيح البخاري: 910[كتاب تفسير القرآن/باب قوله:وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ،ح. 4878].
(7) تحفة الأحوذي للمباركفوري:7/197[باب ما جاء في صفة غرف الجنة].
(8) تفسير المنار لمحمد رشيد:9/124-125[سورة الأعراف/آية: 144].
|