ولكن ارادة الله ومشيئته اعظم من كيد الظالمين واقوى من بغي الجاحدين فشاءت ارادته ان تفضح واقع كهنة المعبد وتظهر حقائقهم الظالمة وتبين لعموم بني اسرائيل ان المتلبسين بلباس الدين هم ابعد الناس عن الله وهم احد الاسباب المهمة في انحراف مجتمع بني اسرائيل عن جادة الحق رعاية لمصالحهم الدنيوية واتباعا لاهوائهم ومشتهياتهم.
ويحدثنا القران الكريم عن اللحظات العصيبة التي مر بها مجتمع بني اسرائيل الذي تاه بين طهر مريم (عليها السلام) ونقاءها وقدسيتها وبين اتهام الكهنة لها، وكيف ان الله تعالى برء ساحة مريم (عليها السلام) وفضح الظالمين العتاة المردة
(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ۖ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ، يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ، قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ، وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ، وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)
وغدا الصراع على اشده بين السلطة الزمنية وكهنة المعبد من جهة وزكريا (عليه السلام) من جهة اخرى حتى دفع زكريا ويحيى (عليهما السلام) حياتهما ثمنا للدفاع عن دين الله واحكام شرعه، فراح زكريا (عليه السلام) ضحية مؤامرات كهنة المعبد وجهل العامة ويحيى (عليه السلام) ضحية طغيان الملوك وفسقهم وفجورهم
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ۖ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ، وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ)
ولم يقف طغيان بني اسرائيل عند هذا الحد بل استمر صراعهم طويلا مع عيسى (عليه السلام) حتى حاولوا قتله وصلبه فرفعه الله اليه وتركهم في ظلالهم
(وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ۚ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ، بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)
ويقرر القران الكريم ان سبب عداء بني اسرائيل لعيسى (عليه السلام) هو اتباع الهوى وعبادة النزوات والرغبات والحرص على المنافع الدنيوية والمكاسب الزائلة
(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَىٰ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ)
وفي هذه المرحلة من حياة بني اسرائيل ظهر تطور جديد في مرحلة الصراع والابتلاء، ففي مرحلة ما قبل نبوة عيسى (عليه السلام) كان الصراع تارة بينهم وقوى الكفر المحيطة بهم سواء الامبراطوريات العظمى او المجتمعات القبلية، او يكون الصراع بنيهم على الرئاسة والزعامة والملك والمنافع الدنيوية، وهذه الفترة امتدت منذ خروجهم من مصر وحتى بعثة عيسى (عليه السلام)، اما بعد بعثة عيسى (عليه السلام) فاضيفت جهة صراع جديدة وهم اتباع عيسى (عليه السلام) الذين انسلخوا عن مجتمع بني اسرائيل واسسوا لانتشار تعاليم المسيح (عليه السلام) ما عرف بالديانة النصرانية
(وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ ۖ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ۚ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ، إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۗ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ، فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)
واستمر الصراع بعد عيسى (عليه السلام) بين اتباع انصاره وبين بني اسرائيل حتى اعتنق احد اباطرة الرومان النصرانية فانتشرت تعاليمها في بلاد الشام ومصر واوربا واصبح لها اتباع في جزيرة العرب واليمن وبلاد فارس وروسيا والهند والصين.
ولم ينج اتباع الصليب من الاختلاف، فاختلفوا كما اختلف الذين من قبلهم حتى تعددت مذاهبهم واراؤهم واختلفت كنائسهم وكفر بعضهم بعضا وكل ذلك نتيجة الصراع على الدنيا الفانية والبعد عن احكام الله تعالى وتعاليم انبياءه (عليهم السلام).
|