• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : أدب الفتوى .
                    • الموضوع : شهداؤنا نجومُ الأرضِ للسماء .
                          • الكاتب : يا مهدي ادركنا .

شهداؤنا نجومُ الأرضِ للسماء


كُنّا صغارًا في باحةِ الدارِ، وأثناءَ الليلِ المُظلمِ نُراقِبُ السماءَ كم هي جميلةٌ بتلك النجومِ اللامعةِ في قلبِها..
كم تمنّيتُ لو كُنتُ كتلك النجومِ بعيدةً عن مُتناولِ اليدِ، ولكنّها تبعثُ السعادةَ في القلوب..
لا أحدَ يستطيعُ أنْ يُنكِرَ جمالَها أو لا ينبهرُ بضيائها...
كبُرتُ وفي قلبي شوقٌ للاقترابِ من تلك النجوم، ولم أكنْ أعلمُ أنّ هناك نجومًا مثلَها بل هي أكثرُ جمالًا منها تمشي على الأرضِ ويعلقُ الطينُ في باطنِ أقدامِها!
هم يأكلون ويشربون وينامون مثلنا، يُشاركوننا الحديثَ والابتسامةَ والدموعَ، لكنَّ لهم عطرَهم الخاصَّ بهم!
عطرُ الشهادةِ الذي يفوحُ من أجسادِهم قبلَ أنْ تُحلِّقَ أرواحُهم لتُعانِقَ السماءَ..
كانَ من بينِ تلك النجومِ نجمٌ تلألأَ في صفحةِ شهداءِ فتوى الجهاد الكفائي ...
حيدر شراد...
قد يبدو للوهلةِ الأولى أنَّ طموحَ البعضِ للحصولِ على وظيفةٍ مرموقةٍ ذات واردٍ مادي ضخمٍ وسيارةٍ فارهةٍ وقصرٍ ينبهرُ برؤيته المارّةُ هو طموحٌ عالٍ، ولكنّهم لا يعلمون أنّهم لم يطلبوا سوى حُطامِ الدُنيا، وفي المُقابلِ هناك من يقبلُ بالقليلِ منها، وتنعكسُ ابتسامتُه الرقيقةُ على وجوهِ مُحِبّيه عندَما يفرحُ بهديةٍ بسيطةٍ من الآخرين، فهؤلاءِ هم أصحابُ الطموحِ العالي، هم من يرغبونَ بأنْ يُعانِقوا السماءَ بأرواحِهم الطاهرة..
وهكذا كانَ أغلبُ الشهداءِ، وهذا ما كانتْ تنقلُه والدةُ الشهيدِ عنه؛ فقد كانَ مُحِبًّا كثيرَ العطاءِ، طفلًا هادئًا ومُراهقًا ذائبًا في عشقِ سيّدِ الشهداء (صلوات الله وسلامه عليه)..
قضى فترةَ المراهقةِ التي هي من أصعبِ مراحلِ عمرِ الإنسانِ بينَ أجواءِ المواكبِ وخدمةِ الزوّارِ، وفي أحضانِ كربلاء العشق، يستقي من قطيعِ الكفّين دروسَ التضحيةِ والفداء.
كانَ عزيزَ النفس، لم يسعَ وراءَ الدُنيا ورُكامِها، لم يطلبْ يومًا من والديه شيئًا، بل كانَ يعملُ في وقتِ إجازتِه ليوفِّرَ مصروفَه، كي لا يُثقِلَ الأمرَ على أبيه، فقد كانَ خفيفَ المؤونة، هادئَ الطبعِ، ذا قلبٍ حنونٍ يُغدِقُ على أخواتِه بالحُبِّ والحنان، بل كانَ ملاذهنّ عند اهتزازِ قلوبهن لأمرٍ ما، يُهدِّئُ من روعِهن ويُضفي على قلوبهن الطُمأنينةَ بابتسامتِه الملائكية.
كانَ مُجتهدًا في دراستِه، حصلَ على مجموعٍ عالٍ يؤهِّلُه لدخولِ أيّ جامعةٍ يرغبُ بها، ولكنّه آثرَ على نفسِه أنْ يتخصّصَ في مجالِ الإدارةِ والاقتصادِ ليخدمَ بلدَه الجريحَ، ويكونَ يدًا تُرمِّمُ ما سقطَ منه وتُسنِدُه لينهضَ من جديد...
وفي سنتِه الأخيرةِ، سمعَ نداءَ المرجعيةِ فهبَّ بروحِه قبل جسدِه ليُلبّي ذلك النداءَ الذي طال ما كانَ يحلمُ به ليفوزَ فوزًا عظيمًا.
كتمَ جهادَه في أولِ الأمر عن ذويه؛ خوفًا على قلوبِهم من أنْ تعيشَ لياليَ باردةً ترتعشُ خوفًا عليه، فقضى عامًا كاملًا بين طالبٍ يُجاهِدُ بقلمه في الحرمِ الجامعي وبطلٍ يُجاهدُ بدمِه في ملاحمِ جرفِ الصخرِ حتى ظفرَ في نهايةِ ذلك العام بتخرُّجِه وحصولِه على شهادتِه الجامعيةِ والنصرِ بتحريرِ تلك المناطقِ المُلتهبةِ ليُعلِنَ عن حقيقةِ جهادِه لأبيه، ويُعلِمه بأنّ ولدَه ليس من أهلِ الأرض..
وهذا ما كانَ قلبُ والدتِه يُخبرها به، بأنّ ولدَها الذي أصبحتْ تصرُّفاتُه أكثرَ هدوءً وورعًا، بل كأنه ملاك يمشي على الأرضِ، وكأنّ عبقَ الشهادةِ التي اختارتْه أفاضتْ عليه من رونقهِا كمالًا آخر.
ذلك الملاكُ الذي كانَ مرارًا يضطرُّ إلى أنْ يرتديَ زي الدواعشِ ليدخلَ بينَ صفوفِهم ويُنفِّذَ بعضَ العملياتِ الجهاديةِ من دونِ أنْ يرتجفَ قلبُه الذي كانَ مليئًا بالإيمانِ باللهِ (تعالى) والذائبَ شوقًا للقاءِ سيّدِ الشهداءِ (صلوات الله وسلامه عليه)، حتى نفّذَ العديدَ من العملياتِ التي كانتْ سببًا في تطهيرِ الأرضِ من أولئك الأرجاس.
كانَ الإيمانُ راسخًا في قلبه، باديًا على ملامحِ وجهِه، فلم يُفرِّطْ أبدًا بصيامِ شهرِ رمضانَ رغمَ حرارةِ الرمالِ وأشعةِ الشمسِ اللاهبةِ ورائحةِ البارودِ التي كانتْ تُحرِقُ القلوبَ وتُضيفُ على حرارةِ الصيفِ لهيبًا يُذيبُ الحديدَ، بل يتأسّى عندَ شعورِه بالعطشِ الشديدِ بعطشِ أطفالِ الحُسين (صلوات الله وسلامه عليهم)..
وقربَ انتهاءِ الشهرِ الشريفِ، ومعَ هلالِ شهرِ شوال كانتِ اللهفةُ لرؤيةِ والديهِ شديدةً، ولكنّ تدهورَ الأوضاعِ الأمنيةِ حالتْ بينه وبينَ طلبِ إجازةٍ ليُكحِّلَ ناظريه برؤيةِ والديه ومُحِبّيه.
كانَ يرى في وجوهِ العوائلِ النازحةِ ظلمَ وجورَ الأعداءِ، وحقدَهم الدفينَ على المذهبِ والدينِ وعلى مُحبّي وموالي أهلِ البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) فكانَ شديدَ الرأفةِ والعطفِ عليهم، يسعى ليُقدِّمَ كُلَّ ما يستطيعُ إليهم من مُساعدةٍ قد ترسُمُ ابتسامةً طفيفةً على وجوهِهم التي أتعبَها الدهرُ ورسمَ عليها قصصًا من البؤس.

ومع اقترابِ هلالِ الحزنِ، هلالِ شهر مُحرّمٍ الحرام كانَ الموكبُ الذي اعتادَ أنْ يخدمَ فيه خاليًا منه لوجوده في ساحةِ المعركة، فكانَ كُلُّ من في الموكبِ يفتقدُه..
وبعدَ صبيحةِ العاشرِ من مُحرّمٍ اشتدَّ شوقُ أبيه إليه فعزمَ على الرحيلِ إليه للقائه في أرضٍ احتضنتْ في قلبِها إمامينِ معصومينِ، وتزيّنتْ سماؤها بقُبّتِهما الذهبيةِ..
كانَ في أروقةِ تلك البقعةِ الطاهرةِ اللقاءُ الأخيرُ بينَ (حيدر الشهيد) ووالده ليؤدّيا حقَّ الزيارةِ والسلامِ على هادي الأُمّةِ والعسكري (صلوات الله وسلامه عليهما)..
وفي تلك الأجواءِ الروحانية التقطا صورةً تذكاريةً، طلبَ حينَها الولدُ من والدِه أن لا ينشرَها إلّا بعدَ أنْ يُزفَّ شهيدًا، وكأنّ قلبَه الطاهرَ كانَ يعلمُ بقُربِ الرحيل!
وبعدَ يومين وفي أرضِ سامراء التي جرى عليها من الظلمِ ما جرى، اشتدّ الخناقُ وضاقتِ الأرضُ وبدأتِ السماءُ وكأنّها تستغيثُ من ظُلمِ الأشرارِ.. وقُربِ فجرِ يومٍ لا يُنسى هرعَ حيدرُ بقلبِه قبلَ جسدِه حاملًا روحَه على كفّيه وسلاحَه على عضديه حافيَ القدمين، فلم يكنْ هناك وقتٌ لتضييعِه في ارتداءِ جوربِه وحذائه، فحاولَ البعضُ إيقافَه فأجابَهم من دونِ أيّ تردُّدٍ:
- لم تبعثْنا المرجعيةُ هُنا لنلعبَ، بل لنُحرِّرَ أرضَنا..
ومضى على يقينٍ من تحريرِ الأرضِ وتحريرِ روحه، لتسقطَ قذيفةٌ هناك حيثُ كانَ يُدافعُ بعقيدةٍ راسخةٍ وترتفعُ حينها روحُه لتكونَ نجمةً من نجومِ الأرضِ التي تُحلِّقُ في سماءِ العشق.
نعم، حانَ وقتُ الرحيلِ في يومِ دفنِ الأجسادِ الطاهرةِ في الثالث عشر من شهر مُحرّمٍ الحرام، فرحلَ سعيدًا بعدَ أنْ نالَ ما كانَ طوالَ عمرِه القصيرِ يتمنّاه ويسعى للحصولِ عليه، الشهادة التي تختارُ أهلَها ومن يستحقُّها.
وعندَ تغسيلِه وجدوا قُصاصةَ ورقٍ في جيبِه خَطّتْ بأناملِه حروفًا:
(طموحُ الفُقراءِ قبرٌ في مقبرةِ الشهداء)..
وفي باطنِ قدميه كانَ الطينُ عالقًا، فنجومُ الأرضِ يعلقُ الطينُ في باطنِ أقدامِهم لأنّ الأرضَ تحنُّ إليهم وتشتاقُ إلى شذاهم.
وهكذا اكتسبتِ السماءُ نجمةً أخرى، ولِدتْ على الأرض عام 1992 واستشهدت يوم 27/10/2015




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=161584
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 11 / 05
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18