حياة هذا الرجل ، تصلح فكرة لعمل درامي ، يؤشر عصامية قلّ نظيرها .. شاب عشريني ، من طبقة معدمة ، يغادر وطنه حاملاً معه شهادته الثانوية المصدقة وما أدخرته عائلته من مال بسيط ، متوجها الى النمسا ، حيث غنت أسمهان ( ليالي الأنس في فينا ) ملتحقا بجامعتها الشهيرة لدراسة " الأدب الألماني " ويكمل سنته الأولى بنجاح ، لكنه يفشل في الحصول على معين مالي لأستكمال دراسته ، فيعود خائباً الى بلده تملؤه الحسرة ، فالعوز المادي كان غولا لم يستطع مجاراته ، وبعد مدة من الزمن يعاود النمر الذي بداخله الى الصراخ ، مناديا بمعاودة الكرّة للدراسة خارج العراق ، وأين ، هذه المرة ؟ الى القاهرة بعد ان جمع له الأهل والخلان مبلغاً من المال توقع ان يكون كافيا لدراسته في مصر ... هدفه الأثير كان الحصول على شهادة عالية من خارج الوطن ، وفي المعهد الازهري ، بدأ اولى خطوات الدراسة ، وما هي إلاّ أشهر حتى يخبره اهله بضروة العودة اليهم ، فلم يبق عندهم ما يبعثون اليه من مال شحيح .. ويعود مرغما ً، لكن الأمل بأكمال دراسته الجامعية ظل يراوده ، فقرر التقديم الى جامعة عراقية ، مبعداًعن نفسه طموحه الشخصي بالحصول على شهادة من جامعة عربية او أجنبية ، اليس الدراسة في الجامعات العراقية ، مجانية وشهادتها محط اعجاب العالم ؟.. ويبدأ بتهيئة اوراقه وبضمنها اوليات دراسته في النمسا ومصر وشهادته الثانوية ، وفي اثناء التقديم ، كانت الحرب العراقية ــ الايرانية قد بدأت لتوها ، في ثمانينيات القرن المنصرم ، ولأن عمره كان ضمن الأعمار المطلوبة للخدمة العسكرية ، فقد سوّق لأداء الخدمة الإلزامية ، وطالت الخدمة ثمان سنوات ، ومعها توقف الزمن عنده ، وضاعت آماله في الدراسة ، وخبت طموحاته ، فشعر بالوهن النفسي وثقل المسؤولية العائلية ، فألتفت الى حبه المخبوء في دهاليز نفسه .. الأدب والصحافة التي كان مارسها لسنوات قليلة سابقة ، بخواطر ومقالات صغيرة وهوامش دللت على موهبة وذكاء ورهافة حس تحت اسم ( أسعد العربي ) بدأها بحوار أجراه مع الدكتورعلي جواد الطاهر ، نشرته مجلة " وعي العمال" لكن النشر كان " مبتوراً " ومشوهاً ، وغفلت المجلة عن نشر اسم الصحفي الناشئ ، وكان هذا الاغفال من صالحه .!
وتتداعى الآن صورته امامي ، حين تعرفتُ عليه لأول مرة ، في موقف غريب ، فما هو ؟
في بدايات التسعينيات ، انتهى تصوير فلم ( الملك غازي ) وبأنتهائه ، هيأت دائرة السينما والمسرح عرضا فخماً حضره السفراء المعتمدون في العراق ونخبة من المثقفين والمهتمين بالسينما ، كنتُ حينها مشرفاً على الصفحة الأخيرة في جريدة " الثورة " فطلبتُ من إحدى الزميلات في الصفحة ( ... ) حضور العرض ، وكتابة مشاهدتها لأصدائه . وفي اليوم التالي جاءت تلك الزميلة بموضوع جميل جداً ، في فحواه وطريقة كتابته وأسلوب عرضه ، وقبل ان أدفع به الى النشر ، أعتراني فرح مهني كبير .. فامامي صحفية كبيرة لم أكن أنتبهتُ اليها ، وبسرعة ، ألوم نفسي عليها الآن سارعتُ الى رئيس التحرير طه البصري وبيدي مذكرة ، أطلب فيها توجيه كتاب شكر ومكافأة للزميلة المبدعة .. ونشرتُ الموضوع ، لأكتشف ان كاتبه الحقيقي ليس الزميلة ( .. .) بل هو احد مصححي الجريدة الجدد ، كانت المحررة أصطحبته معها لمشاهدة ( الملك غازي ) فكتب لها الموضوع الذي أثار أنتباهي .. كان هذا المصحح ( ناظم السعود ) ... لم أعاتبه على كتابة الموضوع ونشره بأسم غيره ، لكني سررتُ لهذه الموهبة ذات الأسلوبية الجميلة في الكتابة ، وهذا عندي أهم من العتاب .. فطلبتُ منه الأستمرار في رفد الجريدة بموضوعاته ، وقد فعل ..
وبدأت رحلة ( ناظم السعود ) في الصحافة ، كاتبا في صفحات ثقافية ، ناقداً ثقافياُ متمكناُ ، فالحرف عنده كان أقوى من الرصاص الذي شهد لعلعته في الخدمة العسكرية ، والرؤية النقدية أقوى من بارود المدافع وهاونات جبهة المعارك التي شارك فيها ... قلمه كان مرحباً به في الصحف والمجلات .
زيارة بلا موعد !
ودار دولاب الهواء بيّ ...
ومع دورانه كنتُ اتابع نشاط " ناظم السعود " بمحبة ، وأتتبع أخباره من الأصدقاء ، حتى صُدمت يوماُ ان " السعود " ضاقت به الدنيا الى الحد الذي أمتهن فيه " الحراسة " في احد مقرات الاتحاد العام لشباب العراق في شارع الكفاح ببغداد ، من اجل الحصول على غرفة في المقر المذكور تؤويه وعياله مجاناً ... ! يا لنكد الحظ الذي رافق " السعود" منذ بداية مشواره الحياتي وما يزال .. وأنني أسأل : كيف ارتبط به لقب "السعود" ، وهو لم يعثر يوماً على السعادة؟
ومرة أخرى تترى صورة السعود .. ففي احد صباحات عام 2000 يدلف الى مكان عملي البعيد عن الصحافة بعد تقاعدي القسري ، صديق عمري القاص " نزار عباس" قائلاً : جلبتً لك زائرا تحبه ، ثم جلس ، وطالت الدقائق ، قبل ان يدخل الزائر ، واخيراُ طل .... كان ناظم السعود ببرنيطته المعروفة ، لكن هذه المرة تسبقه عكازة ، وجسد مشلول ، وصوت مبحوح ، تملؤه التأتأه ، فقمت لأقبله ودموعي تسبقني . ثم صمتُ ، وصمت السعود قبل ان يكمل بعد ذلك الصديق نزار حكاية ما أصاب السعود بالقول إن ناظم تعرض لأكثر من جلطة ، قلبية ودماغية ، وأصاب الشلل نصفه الأيمن ، مع صعوبة النطق، وأصبح قعيد غرفته ، غير ان عزمه واصراره وإيمانه بأن
الانسان يعيش مرة واحدة ، ويموت مرة واحدة ، جعله يثأر لما أصابه ، حاملا ساقاً ثالثة تعينه في السير المتعرج ، فقامت الساق الجديدة وهي عكازة حصل عليها من احد اصدقائه ، بدور في دفع الأمل في ناظم السعود .. ولا زالت تلك العكازة معه منذ 15 عاما ، حيث أنس لها وأنست له ... لقد لمستُ عند زيارة ناظم السعود تلك ، ومضات من التحدي ، وكأن السعود يقول للحياة : ليس كل من حمل قلما كتب، وليس كل من كتب أبدع ، وليس كل من وضع يده على خده فكر، وليس كل من جحظ عينيه رأى ، وها انا أتحداك يادنيا ... وفعلاً انتصر السعود بتحديه ، مواصلاً الكتابه والمتابعة بشكل عجيب .. فهو موجود في الوسط الثقافي ، ولا يعبأ بصعوبة الرواح والمجيء .. إنه يسكن حالياً اطراف مدينة كربلاء ( قضاء الهندية ) لكنه زائر يومي لبغداد ، ولا أدري هل هو يحمل عكازته وكتبه ، ام ان كتبه وعكازته تحملانه ..!
كتابان نتاج اليد المرتعشة..
وقبل مدة ، شاءت الصدف ، ودون ميعاد ، ان التقي ناظم السعود ، كان حاملاًَ كتبا في يده اليسرى ، وفي يمناه عكازته .. فرح بيّ مثلما فرحت به .. وتعانقنا ، لقد لاحظتُ ان الحيوية طرقت بابه لكن على إستيحاء ، وطلب ان نتنحى جانبا ، واضعا رزمة الكتب على الرصيف ليستل منها أثنان من تأليفه ، ماداً يديه الراجفة ليسّطر حروف إهداء ، تحمل وفاءا ومودة وصدق وأصالة ، فارقت الكثيرين..!
الكتابان هما : ( الرائي ) ويضم دراسة عن الشاعر باسم فرات ، وآخر بعنوان ( الآخرون اولا / قطوف من كتابات ساندة ) وبعد أن أفترقنا قلت مع نفسي ان ناظم السعود ربما يردد مع ذاته هذه العبارة ( سأظل ابتسم ليموت الأغبياء والأعداء... قهرا!)
وفي المساء ، طالعتُ " الرائي " ولي قراءة اخرى معه ، وفي اليوم التالي تصفحت ( الآخرون اولاً ) فقررت الكتابة عنه بعد ان قرأت صفحاته الـ..410 من القطع المتوسط ، سوى ان قراري تأخر ، وهاأنا أكتب ..
ضم الكتاب مقدمة أخائية بقلم الشاعر والقاص عيسى حسن الياسري ، فيما كتب خاتمة الكتاب المرحوم الناقد عادل الهاشمي ، وحفلت صفحاته بموضوعات إستذكارية وإستقرائية وأبحاث عن عبد الملك نوري ، السياب ، نازك الملائكة ، فؤاد التكرلي ، يوسف الصائغ ، زهير احمد القيسي ، فهد الأسدي ، محمد الجزائري ، فاضل ثامر ، لطفية الدليمي ، حسين سرمك ، حميد المطبعي ، طه احمد الشبيب ، خضر الولي ، هادي الربيعي ، ناجي التكريتي وغيرهم .
كما ضم الكتاب شهادات بحق السعود ، ادلى بها خزعل الماجدي ، عبد الزهرة زكي ، علي حسن الفواز ، كزار حنتوش ، وجيه عباس ، احمد خلف وغيرهم ..
وكأني أشعر بناظم السعود ، بعد قراءة الكتاب ، أراد القول بأن اللغة الناجزة ليست كاللغةالعاجزة ، واللغة المعزوزة ليست كاللغة المهزوزة ، والحقيقة لا تجرح إلاّ كارهها . ..
وناظم السعود ، كماعرفته ، يحس وجيب قلب عصفور ، وزفرة مكلوم ، ولهيب دمعة حرّى ولايأبه لضجة كبير، وضوضاء قوم ، وجلبة سلطان
وهو يقول ما يقتنع به وجدانه ، وما يؤمن به ، ويعرف كيف يحب لكنه لا يعرف ان يطري من أحب ، يصرف لسانه عن الثناء ، ويترك لقلبه هذه المهمة ..إنه أحد أعمدة الصحافة الثقافية .. يغذيها ويتغذى منها .
تحية للسعود ، ناظم ، الذي لم يكتف بالوقوف أمام المشهد الثقافي العراقي المضطرب في الرؤى والتوجهات ، بل تدفق قلمه بمقالات تنبه النيام وتستحث العزائم ..
zaidalhilly@yahoo.com |