ومن هنا يتضح ان هناك عوامل سياسية وتاريخية وفكرية وثقافية واجتماعية كان لها الاثر في رسم الاحداث والوقائع التي انتهت بتمكين معاوية من فرض ايقاف الحرب بين الكوفة والشام وسلب الخلافة من سبط رسول الله (صلى الله عليه واله) كما اسهم هو وقريش قبل 30 سنة من سلب الخلافة من امير المؤمنين (عليه السلام)، ويمكن اجمال العوامل التاريخية والاجتماعية في النقاط الاتية:
1. سعت قريش منذ فتح مكة الى السيطرة على مقاليد الحكم وعزل اهل البيت (عليه السلام) عن السلطة، وجرت بين القرشيين اتفاقات على تداول السطلة كشف عنها طريقة تولي كل واحد من الحكام الثلاثة للسلطة قبل الثورة الجماهيرية العارمة ضد ولاة عثمان، وان الصراع على السطلة بين بطون قريش كان قائماً الامر الذي استدعى الاستعانة بقبيلة اسلم البدوية لمعادلة القوى السياسية في المدينة لحين استتباب الامر، فكانت اسلم المرجح لكفة قريش في مواجهة الانصار من جهة، وبطون قريش الضعيفة ضد بطون قريش القوية من جهة اخرى.
2. لجأت السلطة القرشية الى اسلوب القمع والتصفية الجسدية ضد الخصوم السياسيين، كما حصل مع امير المؤمنين (عليه السلام) والسيدة الزهراء (صلوات الله عليها) ومع مالك بن نويرة وبني يربوع وبني حنيفة، واغتيال سعد بن عبادة الخزرجي.
3. انقسام المجتمع المسلم في غير بلاد الشام سياسياً الى عدة اتجاهات سياسية القطاع الاعظم منها يؤمن بحاكمية السلطة وتؤثر القيادات الفرعية في تحديد ولائه، الاتجاه الموالي لبني امية، الاتجاه الموالي لامير المؤمنين (عليه السلام)، اما في بلاد الشام فالاتجاه العام هو الاتجاه الموالي لشخص معاوية بن ابي سفيان.
4. فكرياً سعى القرشيون الى الحفاظ على الجانب الشكلي للاسلام وتكريس الالتزام بالطقوس، ومحاصرة التعمق في مباني الاسلام المدلول عليها في القران الكريم والسنة المطهرة، بحيث اصدرت قريش قراراً بمنع تدوين حديث النبي (صلى الله عليه واله) بل المنع من رواية حديثه، وجذور ذلك تمتد الى حياة النبي (صلى الله عليه واله) حيث عارضت قريش محاولة عبد الله بن عمر كتابة الحديث النبوي بدعوى ان النبي (صلى الله عليه واله) بشر يخطئ ويصيب، والسبب الحقيقي الكامن وراء ذلك ان الامة اذا التفتت الى المباني الاسلامية الحقة فانها سترفض سلطة قريش وتعود الى القران واهل البيت (عليه السلام) وهذا يتعارض مع سعي قريش للسيطرة على السلطة.
5. حصرت السلطة مسالة تعلم القران الكريم بالقراءة فقط ومنعت التدبر في ايات الذكر الحكيم، ولملأ الفراغ الثقافي تم تكليف مسلمة اهل الكتاب بسرد احاديث التوراة والانجيل على المجتمع المسلم، ونتيجة ذلك ظهر في اوساط الامة ديناً مركباً من النقص والتحريف، فحرف الدين عن المسار الذي جاء به النبي (صلى الله عليه واله) الى المسار الذي ارادته قريش له.
6. مثل امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) وخلص اتباعه حالة الضد الحضاري للحالة التي قامت بعد النبي (صلى الله عليه واله) وعملوا ما وسعهم الى اعادة بناء المجتمع المسلم على الاسس التي جاء بها القرآن الكريم والنبي محمد (صلى الله عليه واله).
7. كانت ثورة الامة ضد ظلم ولاة عثمان عاملا اساسياً في ظهور حركة سياسية فقهية فكرية في الامة ترفض الظلم والطغيان والبعد عن الحكم بكتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه واله)، لتكون اول حركة ثورية تسقط تسلط قريش على قرار الامة، وتبدأ بالايذان بمرحلة جديدة من الحياة السياسية والفكرية للمجتمع المسلم انتهت ببيعة امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام).
8. كانت حركة الناكثين المسمار الاخير في نعش الحركة القرشية حيث كان انتصار امير المؤمنين (عليه السلام) في يوم الجمل ايذاناً بانتهاء قريش ومشروعها الى الابد، وكان انهيار قريش بعد عشرين سنة من وفاة النبي (صلى الله عليه واله) مصداقاً حياً لحتميتين اجتماعيتين نص عليهما القران الكريم، الاولى ان المجتمع المسلم شانه شأن مجتمع بني اسرائيل في التعاطي السلبي مع القيادة الالهية، والثانية ان حركة الانحراف لن يكتب لها الدوام بل سيكون عمرها قصيراً ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ .
9. كان صلح الامام الحسن (عليه السلام) حتمية اجتماعية نص عليها القران الكريم ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ فان الله تعالى قد من على المجتمع البشري ان بعث فيهم محمداً (صلى الله عليه واله) بالهدى ودين الحق ليبني سعادة الانسان فرداً ومجتمعاً ودولة، الا ان انحراف الامة ادى الى تسلط قريش على رقاب المسلمين فلما وجد الله فيهم الصدق من عليهم بان اعاد عليهم حكم
رسول الله (صلى الله عليه واله) متجسداً بامير المؤمنين والامام الحسن (عليهما السلام) ولكنهم نكصوا على اعقابهم، فسلب الله تعالى منهم تلك النعمة العظيمة، كما جرى الحال في بني اسرائيل اذ بعث فيهم موسى (عليه السلام) ليخرجهم من الظلمات الى النور فلما عصوا احتوشتهم الامم فلما وجد الله فيهم صدق النوايا اعاد لهم الحكم على يد داود وسليمان (عليهما السلام) فلما بغوا سلط عليهم شرار البشر، فهدم كيانهم ومجدهم وسلطانهم على يد نبوخذ نصر، وهو ما حصل في المجتمع المسلم على يد معاوية ومن جاء بعده.
|