بسم الله الرحمن الرحيم
(أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ)
كلمةٌ ينسبها إنجيلُ يوحنا إلى نبيِّ الله عيسى عليه السلام (يوحنا8: 12)، فهو نورٌ من أنوار الهداية السماوية، يرشد الناس إلى الله تعالى خالق الأولين والآخرين.
لعيسى (نور العالم) هذا وَجهٌ مضيء في شبابه، كما كان في طفولته، فيجمع بين نور المادة ونور النفوس والأرواح.. ففي إنجيل متّى أنه عليه السلام أخذ بعض الحواريين وصعد بهم جبلاً.. وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ (متى17: 2).
لكنَّ عيسى يؤكد (بحسب الإنجيل) أنّه نورُ العالم ما دام في هذه الدنيا، أمّا بعد خروجه منها فإنّ هذه الخصيصة تكون عند غيره، يقول: مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ (يوحنا9: 5).
إذاً ليس عيسى على عظمته هو أعظم نورٍ في هذا العالم، ولا أعظم مخلوقٍ فيه.. يشتركُ معه سائر الأنبياء في كونهم أنوار السماء في الأرض.
لكنّ أعظم الأنوار هو أوَّلُها، نورُ محمدٍ وعليٍّ عليهما السلام، وقد روينا عن الصادق عليه السلام قول الله عزّ وجل:
يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي خَلَقْتُكَ وَعَلِيّاً نُوراً، يَعْنِي رُوحاً بِلَا بَدَنٍ، قَبْلَ أَنْ أَخْلُقَ سَمَاوَاتِي وَأَرْضِي وَعَرْشِي وَبَحْرِي: لقد تقدّم خلقُ محمدٍ وعليٍّ عليهما السلام إذاً على كلِّ خلق، فلا يدانيهم نورُ أحدٍ من أنبياء الله، لا نوح ولا إبراهيم ولا موسى ولا عيسى، مهما كان لعيسى من نورٍ في الكتاب المقدّس، ولغيرهم في غيره.
يقول عليه السلام: ثُمَّ خَلَقَ اللَّهُ فَاطِمَةَ مِنْ نُورٍ ابْتَدَأَهَا رُوحاً بِلَا بَدَنٍ، ثُمَّ مَسَحَنَا بِيَمِينِهِ فَأَفْضَى نُورَهُ فِينَا (الكافي ج1 ص440).
تقدّمت الزهراء وبَنوها إذاً على كل الأنبياء كما تقدّم محمدٌ وعلي صلوات الله عليهما وآلهما.
وليست عظمة هذا التقدُّمُ مألوفةً في أذهاننا.. فقد روينا عن الإمام الجواد عليه السلام:
إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَفَرِّداً بِوَحْدَانِيَّتِهِ، ثُمَّ خَلَقَ مُحَمَّداً وَعَلِيّاً وَفَاطِمَةَ، فَمَكَثُوا أَلْفَ دَهْرٍ، ثُمَّ خَلَقَ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ فَأَشْهَدَهُمْ خَلْقَهَا، وَأَجْرَى طَاعَتَهُمْ عَلَيْهَا (الكافي ج1 ص441).
وقوله عليه السلام: فَمَكَثُوا أَلْفَ دَهْر.. في غاية العظمة.. فالدَّهر يطلق تارة على (الأبد الممدود) وتارة على (الزمان) وتارة على (ألف سنة)..
ومهما يكن ذلك القدر الذي لا ندركه، فإنّهم تقدّموا على كلِّ المخلوقات بألف دهر، وكانوا شهوداً على خَلق مَن سواهم، ثم أجرى الله طاعة كلِّ مخلوقٍ عليهم..
فلا عجب إذاً أن يكون عند عيسى حرفان من اسم الله الأعظم ففعل بها ما فعل، وأن يكون عند محمد وآله اثنان وسبعون حرفاً.. فأين فضل أولي العزم من النبيين والمرسلين من فضل محمد وعلي وفاطمة؟
هكذا يكون رضا فاطمة رضا الله، وغضبها غضبه.. فلو عصاها أيُّ نبيٍّ من الأنبياء كان كمن عصى أباها رسول الله، ومن عصاه كان كمن عصى الله تعالى.
ولكن..
لماذا فَضَّلَها الإلهُ الحكيم مع أبيها وبعلها وبنيها على سائر الخلق؟
لقد رأى آدمُ في عالم الذرِّ تفاضلاً من حيث النور بين الذرّ، فسأل الله تعالى قائلاً: يَا رَبِّ فَلَوْ كُنْتَ خَلَقْتَهُمْ عَلَى مِثَالٍ وَاحِدٍ وَ قَدْرٍ وَاحِدٍ وَ طَبِيعَةٍ وَاحِدَةٍ..؟
قال الله له: بِعِلْمِي خَالَفْتُ بَيْنَ خَلْقِهِمْ، وَبِمَشِيئَتِي يَمْضِي فِيهِمْ أَمْرِي.. وَبِعِلْمِيَ النَّافِذِ فِيهِمْ خَالَفْتُ بَيْنَ صُوَرِهِمْ وَأَجْسَامِهِمْ وَأَلْوَانِهِمْ وَأَعْمَارِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ وَمَعْصِيَتِهِمْ، فَجَعَلْتُ مِنْهُمُ الشَّقِيَّ وَالسَّعِيدَ وَالْبَصِيرَ وَالْأَعْمَى.. (الكافي ج2 ص9).
هيَ قاعدةٌ ترفعُ كلَّ إشكالٍ في باب العدل الإلهي.
لماذا ميَّزَ الله تعالى بين الأنبياء ففضّل بعضهم على بعض؟
وقد قال: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْض)
وقال: (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْض)
لماذا قدّم الزهراء مع محمدٍ وعليٍّ (ع) على كلّ الخلائق؟!
لماذا خَلَقَ المؤمنين من طينة طيِّبَة والكافرين والمنافقين من طينة نتنة؟
لماذا جَعَلَ الشقيَّ شقياً والسعيدَ سعيداً؟
لماذا خالَفَ بين الناس في الدنيا من كلِّ جهةٍ؟
الجواب في كلمة واحدة، وهي قوله تعالى: (بِعِلْمِي).
قال تعالى: بِعِلْمِيَ النَّافِذِ فِيهِمْ خَالَفْتُ بَيْنَ صُوَرِهِمْ.
الله تعالى العالم بما كان قبل أن يكون، عَلِمَ أنّه لو لم يخصّ هذه الصفوة بما خصَّها لكانت أقرب خلقه إليه، وأكثرهم معرفة به وطاعة له وامتثالاً لأمره..
فخصَّهم بما خصَّهم لسبق علمه بذلك، وأعطى مَن أعطى وحرم من حرم لذلك.
وليس لقائل أن يحتجّ على ما لم يعطه الله، لأنّ العطاء عطاؤه، فمن أعطاه الله فقد تفضَّل عليه لحكمةٍ، ومن حرمه حرمه ما لا يستحقه.
قالها الإمام الباقر عليه السلام: فَمَنْ مَنَعَهُ التَّعْمِيرَ، فَإِنَّمَا مَنَعَهُ مَا لَيْسَ لَهُ، وَمَنْ عَمَّرَهُ فَإِنَّمَا أَعْطَاهُ مَا لَيْسَ لَهُ، فَهُوَ الْمُتَفَضِّلُ بِمَا أَعْطَاهُ، وَعَادِلٌ فِيمَا مَنَعَ، وَلا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (التوحيد للصدوق ص397).
كلُّ ما عِندَ محمدٍ وآله بفضلِ الله وكرمه.. بعلمه النافذ فيهم خصّهم بما لم يخصَّ به أحداً من العالمين، فكانوا أول أنوارٍ خلقها الله تعالى..
فلا غروَ أن تستعظم الملائكة أمرهم.. وقد قالوا:
لِأَنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَرْوَاحُنَا، فَأَنْطَقَهَا بِتَوْحِيدِهِ وَتَمْجِيدِهِ، ثُمَّ خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ، فَلَمَّا شَاهَدُوا أَرْوَاحَنَا نُوراً وَاحِداً اسْتَعْظَمَتْ أَمْرَنَا، فَسَبَّحْنَا لِتَعْلَمَ الْمَلَائِكَةُ أَنَّا خَلْقٌ مَخْلُوقُونَ، وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِنَا، فَسَبَّحَتِ الْمَلَائِكَةُ بِتَسْبِيحِنَا، وَنَزَّهَتْهُ عَنْ صِفَاتِنَا (عيون أخبار الرضا ع ج1 ص263).
تستعظم الملائكة أمرَ محمدٍ وآله، ويرقى من الأنبياء من يرقى بمعرفتهم والتسليم لهم وقبول أمرهم..
ثم يستنكر الجُهّال تفضيلهم على مَن عداهم!!
نعم لقد فُضِّلَت الزهراء على كل الأنبياء.. وفاق مجدُها كلَّ مجدٍ لهم وشَرَف..
لا عَجَب، فقد شاركت محمداً وعلياً في نورهم، وأنوارهم جميعاً من نور الله عز وجل.
فسلام الله عليها وعليهم.. رزقنا الله ولايتهم، والبراءة من أعدائهم..
والحمد لله رب العالمين
|