ان طبيعة الهداية التكوينية هي الايصال إلى المطلوب، بمعنى أنها تأخذ بيد العبد وتوصله إلى كماله المنشود الذي يريد الوصول إليه، وهذه الهداية لها خصائص أربعة نشير إليها بإختصار:
١ - الإنسان لا يتمتع بالهداية التكوينية إلّا بعد قبوله للهداية التشريعية
ان العبد الذي يريد أن يوفق إلى الهداية التكوينية لا بد أن يمر من خلال الهداية التشريعة قال تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} التغابن:١١، والهداية التكوينية هي جزاء القبول بالهداية التشريعية، قال تعالى: { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} محمد:١٧، وفي آية أخرى قال تعالى: {إِنَّهمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} الكهف: ١٣،
إذن العبد السالك الذي يرغب في الوصول إلى لقاء الله يحتاج إلى صراط لا عوج فيه ولا انحراف وفي امان من كيد الشيطان, ويحتاج إلى نور هداية يُريه الطريق ويقوده حتّى يبلغ الهدف الأخير.
وفي هذه الآية: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} الفاتحة: ٦، يطلب العبد السالك من الله أن يهديه الى الصراط المستقيم، وهذه الهداية هي الهداية التكوينية، لأن القائل (المصلّي أو قارئ القرآن) بعد معرفة الله والإيمان به يطلب نور الهداية كي يميز بأشعته بين الطريق والمهوى (حافة السقوط)، وحيث انّ الإنسان في سعي وحركة دائمة، وطريق الحقّ له مراتب ومنازل كثيرة, لذلك فان على العبد السالك أن يطلب دائماً من الله الهداية الى الصراط المستقيم. جوادي املي، تفسير تسنيم، ج١، ص٥١٧.
ومن باب التذكير فإن الهدف النهائي والأساسي من إرسال الرسل هو أخراج الناس من الظلمات إلى النور قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} ابراهيم:١، وأما القسط الذي جاء في الآية الكريمة {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} الحديد: ٢٥. فهو هدف متوسط وليس هدفاً نهائياً، وأما النور الذي هو الهدف النهائي للرسالة في بدايته هو نور للهداية التشريعية ثم يتحول إلى نور الهداية التكوينية.
وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} التغابن: ١١، وبمعنى ان الهداية التكوينية هي الجزاء على الهداية التشريعية قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} محمد: ١٧. وقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} الكهف: ١٣.
٢ - أن التمتع بالهداية التكوينية لا يتم إلّا بعد طي مراحل هذا السبيل.
٣ - لا ينال الهداية التكوينية الا من طلب رضوان الله
ان السالك لهذا الطريق لا بد له أن يرتقي بسلم الكمال من خلال طوي المنازل التي توصله إلى تلك الهداية العظمى، وهي رضوان الله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} العنكبوت: ٦٩، وقال تعالى {يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ المائدة: ١٥.
4 – الهداية التكوينية تحصل من طريق الهداية القلبية
ثم لا شك ولا ريب أن كل ما تقدم ان لم ينتقش في القلب، فلا انشراح قال تعالى: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ الله الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} الأنعام: ١٢٥، فكل من يريد الله هدايته يفتح قلبه لأدراك المعارف العالية.
فالهداية التكوينية، ونور البصيرة الباطينة هي التي تحفظ العبد السالك وتزوده بالحصانه, والمصلي في هذا الفعل من سورة الحمد ومن خلال سؤاله من الله التوفيق لصيانته وحفظه, وما حصّل عليه سابقاً, فأنه يطلب من الله الوصول إلى المراتب الأعلى التي من جملتها شهود باطن العالم وحقيقتة, وباطن الذنب, وهذه الهداية والبصيرة في مقابل (العمى) الباطني, فالهداية ليست فقط (علم القلب)، بل (بصيرة القلب), والمهتدي ليس فقط من (يعلم) الحقّ بل هو (يرى) الحقّ, والقرآن الكريم يعتبر العلم هداية تؤدي إلى البصيرة وأثمار العمل, وفي غير ذلك فإن العالم الفاقد للبصيرة مبتلىٰ بنحو من العمى.
لذلك جاء في قوم ثمود في قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} فصلت: ١٧. وعليه فان من يعرف الحقّ ولا يبصره ولا يسلك طريقه فهو اعمى, وهذا العمى هو عمى القلب وعين السر والباطن وليس عمى العين الظاهرية التي هي في الرأس قال تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} الحج: ٤٦. واولئك الذين استحبوا العمى على الهدى أصيبوا بعذاب الذل والهوان {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} فصلت: ١٧. وعذاب الذل عذاب معنوي يحرق الروح والقلب وهو أسوء من العذاب الجسماني الذي يتعلق بالبدن {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ} النساء: ٥٦.
فتحصل: إن الهداية نور الباطن، والضلالة عمى الباطن، وقوله تعالى: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} الفاتحة: ٦ ، يعني طلب المشاهدة والبصيرة من الله سبحانه.
كما جاء عن حمدان بن سليمان النيسابوري عن الرضا عليه السلام في معنى الآية: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام}.
قال عليه السلام : (ومن يرد ان يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً قال: من يرد الله ان يهديه بايمانه في الدنيا إلى جنته ودار كرامته في الآخرة يشرح صدره للتسليم لله والثقة به والسكون إلى ما وعده من ثوابه حتى يطمئن إليه (ومن يرد ان يضله) عن جنته ودار كرامته في الآخرة لكفره به وعصيانه له في الدنيا (يجعل صدره ضيقاً) حرجاً حتى يشك في كفره ويضطرب من اعتقاد قلبه حتى يصير (كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) عيون أخبار الرضا، ج٢، ص١٢٠.
|