• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : في معنى التمكين في الأرض .
                          • الكاتب : كاظم الحسيني الذبحاوي .

في معنى التمكين في الأرض

 الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ{الحج: 41} .

 
تحدث القرآنُ عن التمكين في الأرض في بعض آياته بنحو يغني الباحث من أن يتصفح معاجم اللغة للوقوف على معنى مادة (مَكَنَ) وتصريفاتها المتنوعة ،على النحو الذي دأب عليه الشُّراح والمفسرون .
فعند إقامة الآيات التي ضمت مادة التمكين بمختلف استعمالاتها، كونها قرائن داخلية معتبرة، للوصول إلى معنى التمكين، نجد أنّ لازم التمكين هو القوة على فعل أشياء والإتيان بها بنحو يحقق الغاية المبتغاة من ورائه، على اعتبار أن الإتيان بأشياء ثقيلة يستلزم وجود قوة تساعد على النهوض بهذه الأعباء. فإذا انفصمت عرى هذه القوة فإنه لم يعد للتمكين من معنى، ولهذا نجد أن قوله تعالى يؤشر بوضوح مورداً من موارد هذه القوة :( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحديد : 25] . فإنزال الحديد في هذه الآية كناية عن القوة اللازمة لإقامة القسط بين الناس،وهي في المقام لا تعني غير السلطة الزمنية التي هي مورد رئيس من موارد التمكين في الأرض ؛إذْ لا تكفي الرغبة لوحدها لإرساء دعائم القسط في الأرض ،ما لم تكنْ ثمة سلطة زمنية تبذل الوسع اللازم لإقامته ،وهو المعبّر عنه في المقام بالتمكين . فالتمكين في الأرض إذن هو وسيلة توصل إلى إقامة القسط عليها ،صدّاً لإرادات المشركين الذين يعملون السيّئات،وهو ما يستلزم وجود قوة منظّمة وغير مبعثرة . ولذا نجد أن القرآن يشير إلى هذه القوة عند قوله : (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:247]. وفيه إشارة واضحة إلى قوّة منظّمة[بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ] لإدارة وقيادة دفة الصراع مع الطاغية جالوت .
وفي حالة نبي الله يوسف عليه السلام نجد ظهور معنى السلطة الزمنية بنحو من الوضوح الذي لم يقبل اللبس،وهي القوة التي وهبها الله له من بعد ضعف وخوف وضياع . قال تعالى :( وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف : 56] .فحركة يوسف عليه السلام نحو بسط القسط في مصر وما جاورها كانت من ثمار التمكين الإلهي الذي منَّ اللهُ به عليه لعلمه أنّ عبده يوسف مؤهلٌ لتلقي هذا الفيض ، وقد بيّن يوسف عليه السلام هذه الحقيقة بقوله:( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف : 101] . اقتفاءاً منه ـ عليه السلام ـ بأبيه إبراهيم صلى الله عليه وآله الذي كان يدعو ربّه بهذا الدعاء : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [الشعراء : 83] . فالإلحاق بالصالحين تكون مقدمته وهب الحكم الذي من أفراده التمكن من السلطة الزمنية([1]) .
وكذلك بالنسبة لذي القرنين عليه السلام على ما حكته سورة الكهف من قيامه بأعباء السلطة الزمنية في الأرض ،بقولها :( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) [ الكهف:84] . فلولا هذا التمكين ما كان ينبغي له أن يفعل شيئاً مما فعله من أعمال عظيمة .انظر إلى قوله تعالى في الآية اللاحقة : (فَأَتْبَعَ سَبَباً) [الكهف : 85] .
على هذا فإنّ القوى السياسية التي تقيم الجور تحت مسمى التمكين الإلهي تخرج عن هذه القاعدة القرآنية .
وبشكل عام فإنّ غاية التمكين الإلهي هو إقامة القسط على الأرض ويجيءُ رداً حاسماً على أطروحات المشركين ،وهو المعنى الذي تكفـّلت بعرضه الآيات المباركات ،كمثل قوله تعالى :( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [البقرة : 213] .
فغاية الحكم بين الناس بسبب اختلافهم،هي إقامة القسط في الأرض .وتتحقق هذه الغاية بإرسال الرسل عليهم السلام متلقين التمكين الإلهي .
ومن طريف ما يُذكر هنا هو أنّ فرعون توَجّس كثيراً من موسى عليه السلام حينما عرف منه أنه ينشد الحكم بين الناس في مصر وما جاورها ،كما تعرضه سورة الشعراء بقولها:(فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : 21]([2]) .
وعند التدقيق في آية سورة الحج هذه نجد أن ضمير الجمع الغائب (هم) عند قوله (مكّناهم) هو صلة الموصول في الجملة ،بمعنى أنّ التمكين الإلهي تناله فئة من العباد أشير إليهم في هذا المقام بضمير الجمع الغائب و قد ذكر السياق بعض صفاتهم .
وللوصول إلى معرفة الملامح العامة لأولئك العباد والتوصيف الظاهر من خلال الإشارات التي حملها سياق الآيات التي سبقت هذه الآية([3]) ،فإنه يحسن بنا أنْ نلاحظ أنّ السورة تتحدث عن طائفتين يدور عليهما الكلام فيها، طائفة الذين آمنوا وعملوا الصالحات الذين أطلقت عليهم السورة مسميات متعددة بحسب ما يقتضيه الحال ،وطائفة الذين كفروا ، الذين أسمتهم السورة في بعض آياتها بـ (الناس) توهيناً لهم.وقد حظيت الطائفة الأولى بمديح ظاهر وعريض حملته لنا بعض آيات السورة على سبيل المثال لا الحصر :
ـ (َلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) [الحج : 34] .
ـ (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) [الحج : 35] .
ـ (َالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الحج : 50] .
بينما تلقت الطائفة الأخرى ذماً عريضاً وتنكيلاً بما كسبت أيديهم ، كما جاء في بعض آخر من الآيات على سبيل المثال لا الحصر أيضاً :
ـ (َمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ) [الحج : 3] .
ـ (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) [الحج : 4] .
 ـ (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ) [الحج : 19] .
وقد ذكر جمعٌ من المفسرين أنّ الذين يمكنهم الله في الأرض هم الذين تذكرهم الآية الأربعون من السورة:(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج : 40]. فهؤلاء هم الذين يتلقون هذا التمكين في الأرض ،ولذا تجد أن الآية تمتدحهم بقولها :( أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ). وقد حصر هذا الجمع من المفسرين،الإخراج من الديار بغير الحق بالمهاجرين الأوليين ،وهو عجيب !
وهنا يحسن بنا النظر إلى النقاط الآتية : ـ
النقطة الأولى: أنّ قوله تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) [الحج : 39] .  إنما هو قيدٌ متقدمٌ يقيّد هذا المطلق الوارد في الآية 40من السورة :(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)،باعتبار أنّ الهجرة المقصودة لم تكن باختيار المهاجرين ؛بل تقع نتيجة للقتال والأذى الذي يتلقاه المهجّرون من لدن الكفار، وقد تحدث القرآن في بعض آياته عن الهجرة بمعناها الواسع الاستغراقي ، كما جاء في قوله تعالى : (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) [آل عمران : 195].
فالآية، وبحسب هذه النقطة، تقدم مفهوماً عاماً يمتد إلى مستقبل الدهر تعرضه بنحو الحدث التاريخي ،وهذا هو ديدن القرآن في العديد من آياته التي تقدم مفاهيم عامة لإرشاد العباد وحملهم على سلوك الطريق الصحيح وبأساليب متنوعة منها أسلوب التعريض بواقعة تاريخية ،فيتوهم البعض أنها كذلك ،كما دلت عليه الشواهد القرآنية التي تقدم بعضها، وهذا يعني أن الهجرة في المقام لا تؤخذ بمعناها المجرّد الذي يقتصر على انتقال المسلمين من مكان إلى آخر ؛بل لابد من ملاحظة ألفاظ الآيات التي ذكرت الأذى في سبيل الله ومقاتلة الكافرين لهم ، ممّا يكون باعثاً حقيقياً على الانتقال من ديارهم . 
فكانت الهجرة من مكة إلى المدينة ،أومن مكة إلى الحبشة نتيجة طبيعية للقتال الذي فرضه كفار قريش على النبي صلى الله عليه وآله، وصحابته الذين كانوا معه ، فهي لم تكن هجرة طوعية ؛بل كانت رداً على ما تعرض له النبيّ صلى الله عليه وآله من أذى من قومه قريش .
أضف إلى ذلك أنّ التاريخ لم يحدثنا أن جميع الذين هاجروا كانوا هدفاً لقتال كفار مكة ؛بل كان لبعضهم صلات معهم، فهجرتهم كانت طوعية. كذلك فإنه لم يثبت أنّ جميع المهاجرين قاموا بالأعمال الأربعة التي تذكرها الآية وبنحو جمعي يدعو إليه القرآن في مواضع عدة .
النقطة الثانية: يجب التنبّه إلى أنّ السياق وحده ليس بحجة تامّة ودائمة يتقرر بموجبه المعنى المراد ،كما لا يمكن الاطمئنان التام بروايات أسباب النزول للاقتراب من هذا المعنى،لتدخل السلطات بصناعتها وإشاعتها في كتب التراث. فإنه يمكننا القول بأنّ الآية تقدم مفهوماً عاماً للإخراج من الديار بغير حق ،فمصداقه هو ما يتحقق على أرض الواقع .
 النقطة الثالثة: لو اعتبرنا أن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله والذين معه هم المقصودون مكافأة لهم أو امتحاناً لهم باعتبار أنّ التمكين كان جزاءاً تشريعياً لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وللأمر بالمعروف وللنهي عن المنكر ،فعند ذلك تكون مهمة الآية أنها تؤرخ للبشرية هذه الحادثة ، ويستحيل القرآن بسببها إلى كتاب قصص، فتموت الآية بموت أهلها ،وهو مما لا يجوز تصوره بحال من الأحوال ، ذلك أنّ خطابات القرآن تجري في الناس مجرى الشمس والقمر إلى يوم القيامة ،وأنّ اعتبار تاريخية الحدث لا محل له بعد انقضاء زمن التنزيل والإنذار،ودخول الأمة مرحلة التأويل والضلال الموجب للهداية .قال تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [الرعد : 7][4] وعند ذلك تتأكد مهمة القرآن أنها هداية للعباد إلى الصراط المستقيم . قال تعالى : (إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) [الإسراء : 9] .
النقطة الرابعة : عند التأمل في أداة الشرط (إنْ) في صدر الآية، فإنّ زمن الأفعال الأربعة يكون الزمن المضارع ،وهو شائعٌ في كلام العرب ،ليكون المشروط هو إقامة الأفعال الأربعة ،والشرط هو التمكين ،فتكون الآية من آيات الملاحم . لأنّ الإخراج من الديار بغير حق لا يتحيّز للزمان و لا للمكان و لا للأشخاص ،فكم من مسلم تعرّض للتهجير القسري من دون وجه حق؛ إلاّ أن يكون مخالفاً لرأي القوى الغاشمة التي تمسك بمفاصل السلطة ؟
فالآية تقدم مفهوماً عاماً يبحث عن مصاديق تقع وقائعها في أزمان لاحقة على زمن النزول الشريف ،فيكون قيامهم بهذه الأعمال الأربعة، وبشكلٍ جمعي وعلى نحو العلن، نتيجة لهذا التمكين باعتباره الضمانة الأساسية لديمومته .
وعند التأمل بقضية السورة وغرضها العام الظاهر من مقدمتها([5])، نجدها تتحدث عن مستقبل البشرية في هذا العالم من خلال التحذير الشديد الذي أتتنا به الآيات الثلاث الأولى،التي تحذّر الناسَ من مغبة حدث عظيم نتيجة مجادلتهم في الله بغير علم وإتباعهم الرؤساء المفسدين المعبّر عنهم بتعبير الشيطان المريد: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ {1} يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ {2} وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ {3}).فإنه تحذير من حدث أرضي يكون نتيجة لأفعال يقترفها الناس . ويجهد أصحاب الأٌقلام الممولة بأموال السلاطين أنفسهم بصرف هذه الآيات عن بعدها الدنيوي،وذلك بقصر مصاديقها على يوم القيامة الكبرى، إبعاداً للقرآن من أن يكون كتاب هداية للبشرية في زمن تكليفها.
فإنْ تم هذا فإنّ فيه إشارة إلى حدوث التمكين الذي بشّرت به سورة النور عند قوله تعالى:(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور : 55] .
وبعبارة أخرى فأن مناسبة ذكر الآية لهذه الأعمال الأربعة هو الذي يوجه معناها بحسب وجهتين ذكر أحدهما المفسرون :ـ
الوجهة الأولى : إنّ التمكين الإلهي جاء بمنزلة الجزاء التشريعي لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بوصفها فعل الشرط في الجملة ،فزمن الأفعال الأربعة هو الزمن الماضي . وقد عرفتَ ما فيه .
الوجهة الثانية : إنّ الآية تحثّ أجيال المسلمين، الذين يقع عليهم التمكين الإلهي ،على وجوب إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نظير قوله تعالى:(وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس : 87] .فإنّ إقامة الصلاة في ظل أجواء آمنة تأتي من بعد التمكين .
ففعل الشرط هو التمكين الإلهي ،وجزاؤه هو القيام بهذه الأعمال الأربعة وبشكل جمعي كما يظهر، فكأنّ الآية تتحدث عن وعد إلهي يقع في مستقبل الدهر أيضاً . ويمكن تصور هذا المعنى عند التأمل في قوله تعالى :( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : 105] .فالصالحون لابد أنهم يتلقون التمكين الإلهي لأنهم يتوقون لإقامة هذه الأعمال الأربعة بشكل جمعي ومعلن من غير خوف أو وجل يعتريهم .
هذا ويمكن أن تكون وظيفة الآية تهيئة البشرية لتلقي التمكين الإلهي ،من خلال خلق الاستعداد لديها لأن تتقبل هذه الأمانة الثقيلة .
وهنا تتأكد حقيقة أنّ على الكيانات المسلمة التي تحكم المسلمين اليوم أن تسعى جاهدة لحمل الناس على إقامة الأعمال الأربعة التي تذكرها الآية ،بدلاً من الحديث عن فصل الدين عن الدولة ، فالذي يظهر من هذه الآية التلازم الواضح بين التمكين وديمومته من جهة، وبين هذه الأعمال الأربعة من الجهة الأخرى، حيث لا يمنع أن يقوم المسلمون اليوم بتهيئة أنفسهم لتلقي التمكين المنشود من خلال العمل على إعداد الأرضية اللازمة لولادة المشروع الإلهي في الأرض . قال تعالى : (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ● وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص : 5،6]
وبخلاف ذلك فإنه لا يسوغ لأحد من الحكام المسلمين اليوم لم يُقمْ هذه الأعمال، الادعاء بأنّ حكمه إسلامياً .
ويبدو أنّ مفهوم التمكين الذي تعرضه هذه الآية يمتد ليشمل جميع مَن يصدق عليهم قيادة الجماعات، كرؤساء القبائل والمرجعيات الدينية والسياسية ومنظمات المجتمع المدني .
ولو تم هذا الفرض فإنّ في المقام تلويحاً بوجوب قيام الكيانات التي تدعي أنها كيانات إسلامية ،إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أجواء آمنة لا يشوبها تعسف، حتى يصدق عليها الادعاء بالتمكين الإلهي لها ،فتستحق بذلك المديح العريض الطافح من بعض آيات السورة المتوجه إلى طائفة الذين آمنوا .وتتجنب الذم العريض والتنكيل الطافح من بعض آيات السورة ،ثم التحذير الظاهر من مقدمة السورة .
ويستقيم هذا التصور عند قيام أجيال المسلمين اقتفاء أثر الرسول صلى الله عليه وآله الذي تعرض للتهجير القسري من بلده مكة ،ذلك المعنى الذي تحث عليه آيات كثيرات ، لعلّ أوضحها قوله تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) [الأحزاب : 21] .وهنا يلتقي هذا التصور مع الرسالة التي جاءتنا بها الآية ،وخلاصتها : إنّ التمكين في الأرض وبالنحو المتقدم آتٍ لا محالة . قال تعالى : (مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [العنكبوت : 5] . وهذا يوجب بذل الوسع للتهيؤ النفسي والعملي وبشكل جمعي ،فإن في قوله (وللهِ عاقبة الأمور) تأكيدٌ لهذا المعنى .
كاظم السيد مهدي الحسيني الذبحاوي
النجف الأشرف 2/5/2012
 
[1]ـ معاً إلى القرآن (منهج تدبري لكتاب الله من خلال قراءة واعية في سورة الشعراء) للكاتب / الطبعة الأولى / نشر مؤسسة ذلك الكتاب ـ  الصفحة136 وما بعدها  .
[2]ـ معاً إلى القرآن ـ المصدر السابق ـ الصفحة  75 وما بعدها .
[3]ـ نتعامل مع القرآن بحسب منهجنا (البناء الغـَرَضي) الذي يقوم على فرضية عدم الوصول إلى معنى متكامل لآيةٍ عند فصلها عن الغرض العام للسورة ، حيث إنّ لكلّ سورة من سور القرآن غرضها الذي يميّزها عن غيرها .
[4]ـ القضيّة القرآنية في سورة الرعد للكاتب ـ الطبعة الثانية /الصفحة 77وما بعدها .
[5]ـ راجع الهامش رقم 3 .



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=16807
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 05 / 02
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28