• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : خَفقُ النِّعَال.. خَلفَ الرِّجَال! .
                          • الكاتب : شعيب العاملي .

خَفقُ النِّعَال.. خَلفَ الرِّجَال!

بسم الله الرحمن الرحيم
 
خلقَ اللهُ تعالى الأرواحَ في أرفَعِ محلٍّ من الملكوت الأعلى، وأرادَ عزَّ وجلَّ أن لا تُجاوِزَ حدَّها بعد أن تجهَلَ قَدرَها، فأودَعَها في الأبدان التي كان بَدؤها طِيناً، وتَوالَدَت مِن نطفةٍ، رعايةً لهذه الأرواح، وحفظاً لها من الشموخ!
 
قال الصادق عليه السلام:
إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلِمَ أَنَّ الْأَرْوَاحَ فِي شَرَفِهَا وَعُلُوِّهَا، مَتَى تُرِكَتْ عَلَى حَالِهَا، نَزَعَ أَكْثَرُهَا إِلَى دَعْوَى الرُّبُوبِيَّةِ دُونَهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَجَعَلَهَا بِقُدْرَتِهِ فِي الْأَبْدَانِ.. نَظَراً لَهَا وَرَحْمَةً بِهَا، وَأَحْوَجَ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ، وَرَفَعَ بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ، وَكَفَى بَعْضَهَا بِبَعْضٍ (التوحيد للصدوق ص402).
 
وهذا معنىً عظيم، يتلمَّسُ بعضَ جهاته أكثرُ العباد، حينما تشمخُ نفسُ امرئٍ فلا يرى لها في الوجود نِدَّاً! ولا يرى لأحدٍ عليه فضلاً! من إلهٍ أو نبيٍّ أو وليّ! بل يرى لنفسه الفضل على مَن عداه كأنَّه إلهٌ أو نبيّ!
 
لقد أحوَجَ الله تعالى بعضَ النّاس إلى بعضٍ، وامتحنَ الجميع بذلك، حيث صارَ المفتقِرُ مُمتَحَنَاً بالصَّبر على فقره، والغنيُّ والقادرُ على قضاء حوائج إخوانه مُمتَحَنَاً بقضائها.
 
قال الصادق عليه السلام:
إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَحْسَنُ نَظَراً لِعِبَادِهِ مِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ: أي أنَّه تعالى يختارُ لعباده خيراً مما يختارون لأنفسهم. كيف ذلك؟
 
أَ لَا تَرَى أَنَّكَ لَا تَرَى فِيهِمْ إِلَّا مُحِبّاً لِلْعُلُوِّ عَلَى غَيْرِهِ؟
حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ لَمَنْ قَدْ نَزَعَ إِلَى دَعْوَى الرُّبُوبِيَّةِ!
وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ نَزَعَ إِلَى دَعْوَى النُّبُوَّةِ بِغَيْرِ حَقِّهَا!
وَمِنْهُمْ مَنْ قَدْ نَزَعَ إِلَى دَعْوَى الْإِمَامَةِ بِغَيْرِ حَقِّهَا!
 
مَعَ مَا يَرَوْنَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ النَّقْصِ وَالْعَجْزِ وَالضَّعْفِ وَالمَهَانَةِ وَالحَاجَةِ وَالْفَقْرِ (التوحيد للصدوق ص403).
 
حُبُّ العلوِّ هذا أورثَ إبليس تكبُّراً على مَن أمَرَهُ الله بالتواضع له.
وحبُّ العلوِّ اليومَ مصيبةٌ كثيرة الانتشار، شديدة البلوى، عظيمة الخطر، يخشى منها المؤمن، سِيَّما مَن كان رفيعَ القَدرِ بين الناس، فيخاطبُ ربَّه كما عَلَّمَهُ إمامُ التواضع، زينُ العابدين عليه السلام، فيقول:
 
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، ولَا تَرْفَعْنِي فِي النَّاسِ دَرَجَةً إِلَّا حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا، وَلَا تُحْدِثْ لِي عِزّاً ظَاهِراً إِلَّا أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً بَاطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِهَا.
هذا التذلُّلُ بين يدي الله، وطلبُ الحِطَّةِ الباطنة منه تعالى، لا ينسجم مع حُبِّ الرِّفعة والدعاوى الكبيرة! لذا ينفردُ به المؤمن الصادق، ويخالفُه أصحابُ المطامع والشهوات.
 
إنَّ مما ابتُلينا به اليوم هو الغفلةُ عن قانون الله في التواضُع والتكبُّر، فإنَّ: مَنْ تَوَاضَعَ لله رَفَعَهُ الله، وَمَنْ تَكَبَّرَ خَفَضَهُ الله‏ (الزهد ص55).
 
ولقد كان ذَوو الشأن والوجاهة أكثرَ ابتلاءً ممَّن سواهم، فضرَبَ لهم أميرُ المؤمنين عليه السلام مثلاً عظيماً في التواضع، حينما ركبَ مرَّةً فمشى معه أصحابُه لغير حاجةٍ، فأمرهم بالإنصراف لأنَّ (مَشيَ المَاشِي مَعَ الرَّاكِبِ مَفْسَدَةٌ لِلرَّاكِبِ، وَمَذَلَّةٌ لِلْمَاشِي).
 
ثمَّ مشوا خلفه مرة أخرى فقال:
انْصَرِفُوا، فَإِنَّ خَفْقَ النِّعَالِ خَلْفَ أَعْقَابِ الرِّجَالِ مَفْسَدَةٌ لِقُلُوبِ النَّوْكَى (المحاسن ج‏2 ص629).
وقال مرَّةً أخرى: إِنَّهُ لَمْ يَهْلِكْ هَؤُلَاءِ الْحَمْقَى إِلَّا بِخَفْقِ النِّعَالِ خَلْفَهُمْ (الكافي ج8 ص241).
 
إنَّ مَشيَ الرِّجال خَلفَ رجلٍ أمرٌ في غاية الخطورة، ولو لم ينبِسوا ببِنتِ شَفَةٍ، ذاك أنَّ مَشيَهُم خلفَهُ يُحرِّكُ فيه الإحساس بالعَظَمَة، كأنَّه شخصٌ جليلُ القدر رفيع المنزلة، فيتفاعل هذا الإحساسُ مع حبِّه للعلوّ والرِّفعة، ويورثُ عنده فَخراً وعُجُباً وكِبَراً، ويجرُّهُ إلى الطُّغيان والهلاك!
 
فِعلٌ بسيطٌ ظاهرُه، يودي بالعبدِ إلى فسادِ القلب، وفسادُهُ يساوقُ الظلمةَ التي تَعمُّه، والغفلةَ عن الحقِّ والهدى، ويورثُ بعد ذلك صاحبَهُ الأحمقَ جحيماً وغضباً من الله تعالى.
 
وهكذا يكونُ أصحابُ الشأنِّ على خَطَرٍ عَظيم، فإنَّ عليهم التنبُّه والحذر من أمرين خطيرين:
 
الأمر الأول: الوقوع في فَخِّ العلوِّ والتكبُّر
 
وهو ما يقع به جُلُّهُم اليوم، فيستحقر أحدُهُم عبادَ الله، ويتجبَّرُ عليهم، ويلبسُ ردياء الكبرياء وهو رداء الله تعالى، ومَنْ نَازَعَ الله عَزَّ وَجَلَّ رِدَاءَهُ لَمْ يَزِدْهُ الله إِلَّا سَفَالاً!
 
إنَّ مَن يُحَقِّر عباد الله تعالى يكون جبّاراً ملعوناً من الله تعالى، فلا يستحقُّ من المؤمنين الاحترام والتقدير وقد لعنه الله تعالى.
إنَّ هؤلاء من أصحاب النفوس المريضة، فما: مِنْ رَجُلٍ تَكَبَّرَ أَوْ تَجَبَّرَ إِلَّا لِذِلَّةٍ وَجَدَهَا فِي نَفْسِه‏!
 
الأمر الثاني: عدم قضاء حاجات المؤمنين
 
وهو من أخطر ابتلاءات أصحاب الشأن اليوم، فإنَّ الله تعالى قد أقدَرَهم وابتلاهم بالاهتمام بعباده، فمَن قامَ بذلك كافأه الله، ومن أعرض عن قضائها كانت نعمةُ الله وبالاً عليه.
 
إنَّ مَن قضى حاجةً لأخيه المؤمن قضى الله له مائة ألف حاجة يوم القيامة، أوَّلُها الجنة، ثم الشفاعة لقرابته ومعارفه وإخوانه!
 
حتى صار قضاء حوائج المؤمنين أحبّ إلى الله تعالى من الصوم والحجّ والصدقة وغيرها من الطاعات.. وصارَ باباً لرحمةٍ يسوقها الله لعبده.. وأدخله الجنَّةَ من باب (المعروف) وهو بابٌ يختصُّ بأصحاب المعروف في الدُّنيا.. وأدخل السرورَ بفعله على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله.
 
ومَن ردَّ أخاه المؤمن ولم يقض له حاجته وهو يقدرُ على إمضائها: سَلَّطَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِ شُجَاعاً (حيَّةً) مِنْ نَارٍ يَنْهَشُهُ فِي قَبْرِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة!
 
وهكذا يكون أصحابُ الشأن والرِّفعة بين الناس على خَطَرٍ عظيم، فعليهم الحذر من التكبُّر على المؤمنين، ومن ردِّ حوائجهم مع قدرتهم عليها، أو مِن قضائها مع الاستخفاف بإخوانهم، أو التضجُّر منهم، أو إتباع ذلك بالمَنِّ والأذى، فإنَّه من شرار الفِعال.
 
ثمَّ إنَّ مَن لَم يختر منهم طريق رحمة الله، وآثر العاجلة على الآجلة، وكان من أهل التكبُّر والتجبُّر، صارَ بنفسه محلَّ اختبار قومه وأمَّته، حيث وجبَ عليهم اجتنابه، وتركُ طاعته، لأنَّ في طاعة هؤلاء معصية الله تعالى.
 
لا يقفُ خطرُهم هنا، يُحذِّرُ أميرُ المؤمنين عليه السلام في نهجه الشريف منهم تحذيراً عجيباً، فيقول عليه السلام:
أَلَا فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَكُبَرَائِكُمْ الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ، وَتَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ.. فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ، وَدَعَائِمُ أَرْكَانِ الْفِتْنَةِ.. وَهُمْ أَسَاسُ الْفُسُوقِ، وَأَحْلَاسُ الْعُقُوقِ.
 
لمّا كان النّاسُ على دين ملوكهم، فإنَّ للسادة والكُبراء دوراً خطيراً في تحديد مصير المُجتمع، بسَوقِهِ نَحو الهداية والرشاد، أو أخذه نحو الهاوية والضلال، ولمّا كان أكثرُهم مِن أصحاب القلوب الفاسدة، كان على المؤمن الحذر منهم، والامتناع عن طاعتهم، لأنَّهُم أساسُ الفسوق.. كيف ذلك؟ يقول عليه السلام:
 
اتَّخَذَهُمْ إِبْلِيسُ مَطَايَا ضَلَالٍ، وَجُنْداً بِهِمْ يَصُولُ عَلَى النَّاسِ، وَتَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، اسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ، وَدُخُولًا فِي عُيُونِكُمْ، وَنَفْثاً فِي أَسْمَاعِكُمْ، فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ، وَمَوْطِئَ قَدَمِهِ وَمَأْخَذَ يَدِه‏ (الخطبة192).
 
هكذا يكون استماعُ المؤمن لهؤلاء استماعاً لإبليس، فهو الناطقُ على ألسنتهم، واتِّباعُهُم اتِّباعاً له، فهو السارقُ للعقول، فمَن سَلَّمَ فِكرَه وعقلَه لهؤلاء الكُبراء صارَ عقلُه ألعوبةً بيد إبليس.
 
بل صارَ النَّظَرُ إلى هؤلاء نَظَرَ مَحَبَّةٍ وشَفَقَةٍ واتِّباعٍ نَظَرَاً بعيون إبليس، بعد أن دَخَلَ فيها..
بل صارت كلُّ حركةٍ وسكنةٍ للعبدِ راجعةً إلى إبليس اللَّعين.
 
أمَا روينا أنَّ مَن أصغى إلى ناطقٍ فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان؟!
وهؤلاء قد نَطَقَ الشيطان بلسانهم، بل نطقَ بلسان أتباعهم!
 
هكذا يكونُ المؤمنُ على خَطَرٍ عظيم، كما كان السادة والكبراء، فإنَّهم إن سقطوا وتَبِعَهُمُ المؤمن سَقَطَ معهم في المهاوي السحيقة، بعدما أصابَه إبليس بنباله، وحطَّ عندَه رحالَه، وكان الآخذ بيده!
 
عصمنا الله تعالى من اتِّبَاع هؤلاء الكُبَراء، وأجارنا من خبائث إبليس.
 
والحمد لله رب العالمين
 
الأربعاء 9 شوال 1443 هـ الموافق 11-5-2022 م




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=168355
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 05 / 11
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29