• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : الإغتراض في شعر ابن زيدون الاستاذ الدكتور محمد تقي جون .
                          • الكاتب : د . محمد تقي جون .

الإغتراض في شعر ابن زيدون الاستاذ الدكتور محمد تقي جون

المقدمة

(الإغتراض) مصطلح غير عربي لفظا ومعنى؛ لذا لم يرد في المعجمات اللغوية القديمة أو الكتب التراثية باختلاف مجالاتها واختصاصاتها. وبثقة أقول: أنا أول من افترعه وتناوله ونقله الى الواقع الادبي في هذا البحث. المصطلح منقول من اللغة الانكليزية (Malice) واستعمل في السياسة في مجال الدعايات التي يكون لها غرض مبيّت (malicious propaganda = دعاية مغرضة). فالاغتراض هو تبييت غرض معين. وهو ما يوضحه (معجم المعاني) الحديث: اغتراض: مصدر اغترض يغترض اغتراضا، فهو مغترِض، والمفعول مغتَرَض. اغترض الشيء: اتخذه غرضاً وهدفاً، اغترض الشهرة (قاموس المعاني، نت).

   الشعر صناعة (القلقشندي، 6/ 295) وبضاعة، والشاعر منتج يبحث عن سوق، وبقدر جودة شعره يكون نَفاق شعره. ولم يكن البحث عن الاختصاص في الموضوع الشعري موجودا قبل العصر العباسي، بل يقول الشاعر الشعر حسب المقتضى والظرف، لذا يحقق الشاعر المقتدر التفرد في اغراض عدة؛ فجرير صاحب أهجى وأمدح وأغزل بيت قالته العرب(ابن كثير، 1988، 9/ 288).

في العصر العباسي وفي واقع صعوبة التفرد، وتنامي ظاهرة الشعر الجمعي، صار على الشاعر أن يضيف الى تجويد شعره طريقة او موضوعا شعريا يتميز به. فنحن نجد ابا العتاهية يتغزل بعتبة طلبا للشهرة في الاوساط الادبية، وفشل حين اختبر في حبه، ثم يغترض موضوع الزهد وكان زهده في الظاهر فقط (ضيف، شوقي، العصر العباسي الاول، 1966، 239، 243). واختار الصنوبري وصف الرياض بعد ان قدم قصائد مدح لا قيمة لها، وهذا يصلح على كثير من الشعراء العباسيين. وكانت الاندلس أكثر اغتراضا في الشعر؛ فابن عبد ربه ابتدع (الممحصات)(الحموي، ياقوت، 1400، 4/218) وهي نقض ما كتبه في الغزل بالمواعظ والزهد، وهي اشهر ما كتبه وآصل. واغترض ابن الجَنَّان الشعر الالهي والنبوي، فما يقاس به باقي الاغراض التي لم يحقق بها طائلا.

ينتهج البحث المنهج الاستقرائي الاستنباطي لتوضيح حقيقة خفيت عن الدارسين، وهي إن ابن زيدون وولادة كليهما لم يكونا عاشقين على الحقيقة، وإن تكوينهما وثقافتهما لا يسمحان بهذا الصدق من المحبة، كما ان ابن زيدون اراد الشهرة بمحبوبة لتعظيم شعبيته، ولسد النقص في فنه الشعري، اذ التي يؤكد النقاد كبروكلمان (بروكلمان، كارل، 2005، 5/ 138)، وغرسيه غومس انه لم يبلغ المستوى الرفيع للشعر العربي.

شخصية ابن زيدون وولادة

ابن زيدون

هو أحمد بن عبد الله من بني مخزوم (الزركلي، 1980، 1/ 158) ، ومن أبناء وجوه الفقهاء بقرطبة(ابن خلكان، 1/ 139). شاعر أندلسي رقيق، عده شوقي ضيف اهم شاعر وجداني ظهر في الاندلس(ضيف، شوقي، ابن زيدون، 42). ووصفه غرسيه غومس بأعظم شاعر أنجبته الاندلس (غومس، غارسيا، 1956، 49). لكنه علق على نونيته بأنها اقرب الى الذوق الغربي منها الى الذوق العربي، وتنقصها الالوان الباهرة التي نعرفها في الشعر العربي(غومس، مصدر سابق، 49). وحقا هي رقيقة جدا، ولكنها ليست من الشعر العربي الرصين الذي نجده عند المتنبي والبحتري وابي تمام. وابن زيدون لا يعد من الفحول، ولعل غرسيه غومس حين وضعه في مقدمة شعراء الاندلس استبعد شعراء المشرق من المقارنة، فجعله افضل شاعر محلي. ويلاحظ على ابن زيدون اعجابه الشديد بالمتنبي، ومحاولة تقليده شخصا وشعرا. فنحن نجده وزيرا لدى ابن جهور، ثم متهما بخيانته باعتباره مؤازرا للانقلابيين بني ذكوان اصدقائه(ضيف، ابن زيدون، 27) ، أو انقلابيا لإعادة الحكم الاموي(الزركلي، مصدر سابق، 1/ 158). ثم نجده هاربا الى اشبيلية مقيما فيها ووزيرا لدى بني عباد. وهذا تذبذب في الهدف. او ربما كان يروم الامارة لنفسه كالمتنبي حتى يئس.

ولادة بنت المستكفي

هي أميرة؛ بنت آخر خلفاء الامويين في الاندلس (المستكفي) (غومس، مصدر سابق، 49)، وأديبة؛ كان لها صالون أدبي يتهالك عليه الشعراء والكتاب بسبب "حلاوة عشرتها وسهولة حجابها"(الصفدي، 2000، 27/ 263). لم تكن تقدر الا على البيتين والثلاثة الى الخمسة، وكل ما ذكرته لها الكتب لا يصل الى ثلاثين بيتاً(الموسوعة الشعرية). ومن التساهل وصفها من كتب الادب القديمة والحديثة بالشاعرة، أو من القول جزافا القول: هي إحدى الشاعرات الشهيرات في تاريخ الاندلس (علي، محمود محمد، 6). 

وشعرها يغلب عليه الايروتيكية الماجنة. فقد عرفت بقلة مبالاتها ومجاهرتها بلذاتها(المقري، 1988، 4/ 208)، ولم يكن لها تصاون يطابق شرفها(ابن دحية، 8)، فهي قليلة الحشمة، ظاهرة الاستهتار. وتذكر المصادر انها أقامت علاقات كثيرة، ولا تضع لعلاقاتها حدودا في الشرع والاخلاق. وقد زعمت مهجة بنت التياني القرطبية، وهي صديقة لولادة وصنيعتها وملازمة لها، أن ولادة ولدت وليس لها بعل(المغربي، ابن سعيد، 1964، 143). وكانت تكتب على ثوبها(الحموي،4/ 187):

انا والله اصلح للمعالي
 

 

وامشي مشيتي واتيه تيها
 

وأمكن عاشقي من صحن خدي
 

 

واعطي قبلتي من يشتهيها
 

فقراءة النص توصل الى: أن ولادة كثيرة العشاق، وليس بالضرورة انها تحب أحدهم، فعناية النص متوجهة الى العشاق وليس لها. وهي تعطي قبلاتها لهم كلهم بلا استثناء. وهذا هو الحب والقبلة الافلاطونية، الذي يخفف او يتخلص من عقدة الحب الاوحد والحب المخلص. ويذكر ابن زيدون انه واعدته فالتقيا في ليلة حمراء فصار يجني اقحوان الثغور ويقطف رمان الصدور، حتى انفصلا صباحا(ابن دحية، 9).

اتفاق الشخصيتين على عدمية الحب

من الملاحظ ان الشخصيتين يتفقان في أمور جوهرية يستبعد معها كونهما عاشقين او مرشحين ليكونا عاشقين. ولابد من التسليم بأن الحب سامٍ، وان حالة الحب هي حالة من السمو تعيشها نفوس مجبولة على المشاعر والصفاء النفسي والخلق القويم. وليس للفاجرين والمتهتكين صلة نفسية وحقيقية بالحب. واذا درسنا الشخصيتين نتوصل الى:

  1. لم يكن ابن زيدون وولادة كلاهما على دين. وقد أوردنا انهما وافقا على اللقاء المحرم وباتا معا الى الصبح، ولم يذكر انهما تزوجا. وعرف ابن زيدون بشغفه بشرب الخمر(ضيف، ابن زيدون، مصدر سابق، 27) ، ولا نجد في شعره ذكرا للدين، ولا توبة من الذنوب. وعرفت ولادة باستهتارها وحبها للرجال كما أوردنا من خبرها وشعرها.
  2. كل منهما كان له علاقة جديدة من آخر. فابن زيدون تعلق بجارية ولادة السوداء، وهو سبب الفراق بينهما كما تؤكد المصادر، فكتبت اليه(الكتبي، ابن شاكر، 2000، 2/587):

لو كنتَ تُنصِفُ في الهوى ما بيننا         لم تهوَ جاريتي ولم تتخيَّرِ

وتركتَ غصناً مُثمِراً بجماله         وجَنَحتَ للغصن الذي لم يُثمِر

ولقد علِمتَ بأنني بدرُ السما         لكن ولِعتَ لشقوتي بالمشتري

واعترف لولادة بانه حين تركها احب امرأة جديدة، ثم ترك الجديدة الى جديدة ودواليك، في قوله(ديوان ابن زيدون، 2005، 308):

قَد عَلِقنا سِواكِ عِلقاً نَفيساً       وَصَرَفنا إِلَيهِ عَنكِ النُفوسا

وَلَبِسنا الجَديدَ مِن خِلعِ الحُبِّ وَلَم نَألُ أَن خَلَعنا اللَبيسا

لَيسَ مِنكِ الهَوى وَلا أَنتِ مِنهُ       اِهبِطي مِصرَ أَنتِ مِن قَومِ موسى

وهي اعترفت بمنحها لذة الجسد لمن يشاء منها ذلك، كما انها تركت ابن زيدون "ولم تنتظر طويلا لتجد عاشقا جديداً، فقد كان العشاق كثيرين"(ضيف، ابن زيدون، مصدر سابق، 22)، فاختارت ابن عبدوس.

  1. لم يكن ما بينهما حبا، بل علاقة عابرة، هي تباهت بتعلق وزير وشاعر كبير بها، وهو أراد أن يطرح نفسه عاشقا مغدوراً ليكسب عطف الجمهور في جغرافية مترامية تشمل الاندلس والمغرب والمشرق، وفي تاريخ مفتوح يشمل ابناء زمنه والازمان القادمة الى الخلود، وهو طموح وجده يستحق العناء. وكانت شخصية ولادة ملائمة لجمالها وشهرتها، ولأنها سليلة الحكم الاموي. والدليل على انه لم يكن حبا خلوه من الحفاظ والاحترام والصدق، فسرعان ما تحول الحب الى سباب فاحش، وقذف بما لا يصدر عن عاشقين بل ولا عن محترمين. كتبت اليه ولادة وكانت تلقبه بالمسدس، أي له ست صفات(الصفدي، مصدر سابق، 27/ 264):

ولقّبت المسدّس وهو نعت       تفارقك الحياة ولا يفارق

فَلوطيّ ومأبون وزانٍ       وديّوث وقرنان وسارق

وقالت ايضا(المصدر نفسه):

إنّ ابن زيدون له فقحة       تعشقُ قضبان السراويلِ

لَو أبصرت ..... على نخلة       صارَت منَ الطيرِ الأبابيلِ

وهذا الفحش لا يمكن ان يكون خاتمة حب صادق من محبين صادقي الود والمشاعر والاحاسيس، بل خاتمة حب مجازي. ورد عليها ابن زيدون بما هو أفظع. فقد كتب الى عشيقها الجديد ابن عبدوس يقول له: لا تغتر بما ستعطيه له ولادة من عهد الحب، فهي كالسراب والبرق(ديوان ابن زيدون، 98):

 

 

وَغَرَّكَ مِن عَهدِ وَلّادَةٍ       سَرابٌ تَراءى وَبَرقٌ وَمَض

تَظُنُّ الوَفاءَ بِها وَالظُنونُ       فيها تَقولُ عَلى مَن فَرَض

هِيَ الماءُ يَأبى عَلى قابِضٍ  وَيَمنَعُ زُبدَتَهُ مَن مَخَض

وقال (ديوانه، 308):

قَد عَلِقنا سِواكِ عِلقاً نَفيساً       وَصَرَفنا إِلَيهِ عَنكِ النُفوسا

وَلَبِسنا الجَديدَ مِن خِلعِ الحُبِّ وَلَم نَألُ أَن خَلَعنا اللَبيسا

لَيسَ مِنكِ الهَوى وَلا أَنتِ مِنهُ       اِهبِطي مِصرَ أَنتِ مِن قَومِ موسى

يقصد ابن زيدون الكثرة المفرطة لمن تعشق، وانها لا تصبر على عاشق واحد. اشارة (الكتبي، مصدر سابق، 2/ 588) الى قول أبي نواسٍ:

أتيت فؤادها أشكو إليه         فلم أخلُص إليه من الزّحامِ

فيا مَن ليس يكفيها خليلٌ         ولا ألَفا خليلِ كل عام

أظنك من بقيةِ قوم موسى         فهم لا يصبِرون على طعام

وقال يصف حبه لولادة بأنه كان للمتعة وقضاء الوقت، وقد نال منها ما رغبه وتركها، مثلما يأكل المرء الطعام الطيب ويلقي الفضلات للفأر، وهذا قمة عدمية الحب وسوء العاطفة والكذب الصريح (ديوانه، 311):

أَكرِم بِوَلّادَةٍ ذُخراً لِمُدَّخِرٍ       لَو فَرَّقَت بَينَ بَيطارٍ وَعَطّارِ

قالوا أَبو عامِرٍ أَضحى يُلِمُّ بِها       قُلتُ الفَراشَةُ قَد تَدنو مِنَ النارِ

عَيَّرتُمونا بِأَن قَد صارَ يَخلُفُنا       فيمَن نُحِبُّ وَما في ذاكَ مِن عارِ

أَكلٌ شَهِيٌّ أَصَبنا مِن أَطايِبِهِ       بَعضاً وَبَعضاً صَفَحنا عَنهُ لِلفارِ

  1. وحين نقف على شعره الغزلي الرقيق ينبئنا عن شاعر متمكن من فن الغزل، ابن بيئة الاندلس المفعمة بالحب والرقة والطرب. ولكن القراءة الفاحصة لا تؤكد صدق حبه لولادة. ففي نونيته وهي اشهر شعره في الغزل، وأكثر ما يستدل به على حبها نقرأ(ديوانه، 11- 16):

 

 

 

 

 

أضحى التَنائي بَديلاً مِن تَدانينا    وَنابَ عَن طيبِ لُقيانا تَجافينا

أَلّا وَقَد حانَ صُبحُ البَينِ صَبَّحَنا   حَين فقام بنا للحسن ناعينا

مَن مُبلِغُ المُلبِسينا بِاِنتِزاحِهِمُ     حُزناً مَعَ الدَهرِ لا يَبلى وَيُبلينا

أَنَّ الزَمانَ الَّذي مازالَ يُضحِكُنا           أُنساً بِقُربِهِمُ قَد عادَ يُبكينا

غيظَ العِدا مِن تَساقينا الهَوى فَدَعَوا       بِأَن نَغَصَّ فَقالَ الدَهرُ آمينا

فَاِنحَلَّ ما كانَ مَعقوداً بِأَنفُسِنا             وَاِنبَتَّ ما كانَ مَوصولاً بِأَيدينا

وَقَد نَكونُ وَما يُخشى تَفَرُّقُنا              فَاليَومَ نَحنُ وَما يُرجى تَلاقينا

يا لَيتَ شِعري وَلَم نُعتِب أَعادِيَكُم         هَل نالَ حَظّاً مِنَ العُتبى أَعادينا

لَم نَعتَقِد بَعدَكُم إِلّا الوَفاءَ لَكُم             رَأياً وَلَم نَتَقَلَّد غَيرَهُ دينا

ما حَقَّنا أَن تُقِرّوا عَينَ ذي حَسَدٍ          بِنا وَلا أَن تَسُرّوا كاشِحاً فينا

يا سارِيَ البَرقِ غادِ القَصرَ وَاِسقِ بِهِ      مَن كانَ صِرفَ الهَوى وَالوُدُّ يَسقينا

رَبيبُ مُلكٍ كَأَنَّ اللَهَ أَنشَأَهُ                 مِسكاً وَقَدَّرَ إِنشاءَ الوَرى طينا

ما ضَرَّ أَن لَم نَكُن أَكفاءَهُ شَرَفاً           وَفي المَوَدَّةِ كافٍ مِن تَكافينا

لَسنا نُسَمّيكِ إِجلالاً وَتَكرِمَةً               وَقَدرُكِ المُعتَلي عَن ذاكَ يُغنينا

إِذا اِنفَرَدتِ وَما شورِكتِ في صِفَةٍ                 فَحَسبُنا الوَصفُ إيضاحاًّ وَتَبيينا

فقراءة النص تؤشر حقائق مهمة عن حقيقة ان ابن زيدون لا لم يحب ولادة حقيقة. وهي:

- خلت القصيدة من اسم حبيبته ولادة، وخلا كل شعره المتغزل بها منه. ولم يورد اسمها الا في هجائها الفاحش كما مرَّ. بمعنى ان اسم الحبيب الذي يلذ ذكره في حديث الغرام مفقود في شعره، واسم العدو والمكروه الذي يتشفى به عند السباب والطعن موجود في شعره. وهذا دليل على عدم الحب، وان ابن زيدون اراد ان يشتهر بحب ولادة داعما لشعره دون ان يتضمنه، ولعله حاول فلم تساعفه القريحة، او انه جرى على سليقته ففضحه صدقه الفني، فخلا شعره من اسمها. وكل العشاق خاطبوا حبيباتهم اللواتي عرفوا بهن ومنه قول جميل بثينة في قصيدته الدالية الشهيرة فقد ردد اسم حبيبته بثينة اربع مرات(ديوان جميل، 38، 41):

 

 

 

 

 

 

أَلا لَيتَ رَيعانَ الشَبابِ جَديدُ       وَدَهراً تَوَلّى يا بُثَينَ يَعودُ

إِذا قُلتُ ما بي يا بُثَينَةُ قاتِلي       مِنَ الحُبِّ قالَت ثابِتٌ وَيَزيدُ

فَهَل أَلقَيَن فَرداً بُثَينَةَ لَيلَةً       تَجودُ لَنا مِن وُدِّها وَنَجودُ

وَمَن كانَ في حُبّي بُثَينَةَ يَمتَري       فَبَرقاءُ ذي ضالٍ عَلَيَّ شَهيدُ

- لم يخاطب ابن زيدون ولادة بصيغة المؤنث المفرد، بل خاطبها بصيغة الجمع، وهي لغة لا ارادية كلغة الجسد تكشف ما يخفيه الشخص ويدَّعي غيره. انه يخاطب محبوبة متوهمة منحها كل طاقاته الشعرية التعبيرية فاستجاب له طبع شاعر وقريحة طيّعة بفضل تمكنه الشعري، الا انه انبأ باستعماله صيغة الجمع أنه غير عاشق. وهذا أمر لم يفت حتى غير العاشقين حين يكتبون الغزل كقول الشريف الرضي(ديوان الشريف الرضي، 1890، 334- 335):

يا ظَبيَةَ البانِ تَرعى في خَمائِلِهِ       لِيَهنَكِ اليَومَ أَنَّ القَلبَ مَرعاكِ

الماءُ عِندَكِ مَبذولٌ لِشارِبِهِ       وَلَيسَ يُرويكِ إِلّا مَدمَعي الباكي

هَبَّت لَنا مِن رِياحِ الغَورِ رائِحَةٌ       بَعدَ الرُقادِ عَرَفناها بِرَيّاكِ

ثُمَّ اِنثَنَينا إِذا ما هَزَّنا طَرَبٌ       عَلى الرِحالِ تَعَلَّلنا بِذِكراكِ

سَهمٌ أَصابَ وَراميهِ بِذي سَلَمٍ       مَن بِالعِراقِ لَقَد أَبعَدتِ مَرماكِ

وَعدٌ لِعَينَيكِ عِندي ما وَفَيتِ بِهِ       يا قُربَ ما كَذَبَت عَينيَّ عَيناكِ

أَنتِ النَعيمُ لِقَلبي وَالعَذابُ لَهُ       فَما أَمَرُّكِ في قَلبي وَأَحلاكِ

عِندي رَسائِلُ شَوقٍ لَستُ أَذكُرُها          لَولا الرَقيبُ لَقَد بَلَّغتُها فاكِ

- كان ابن زيدون ماهرا في اختيار المعشوقة التي يشتهر به، وهي ولادة ابنة الخليفة الاموي المستكفي بالله؛ فالمطلوب أن تكون امرأة ذات منزلة وشرف عاليين، بينما يكون هو عاشق من العامة لا يبلغ مستواها، فكانت ولادة المعشوقة المطلوبة الملائمة. فقد وقر في الاذهان أن الامير اذا احب امرأة فقيرة فلا مشكلة في مصير هذا الحب،  فالامير سيتزوج الفقيرة وتلتحق بمستواه ويعيشان سعيدين. بينما اذا احب فقير من الشعب أميرة، فهذا الحب مرهون بالمصائب والالام المبرحة التي تنتهي الى مصير أكثر ايلاما. وهكذا فعل ابن زيدون:

يا سارِيَ البَرقِ غادِ القَصرَ وَاِسقِ بِهِ      مَن كانَ صِرفَ الهَوى وَالوُدُّ يَسقينا

رَبيبُ مُلكٍ كَأَنَّ اللَهَ أَنشَأَهُ                مِسكاً وَقَدَّرَ إِنشاءَ الوَرى طينا

ما ضَرَّ أَن لَم نَكُن أَكفاءَهُ شَرَفاً           وَفي المَوَدَّةِ كافٍ مِن تَكافينا

لَسنا نُسَمّيكِ إِجلالاً وَتَكرِمَةً               وَقَدرُكِ المُعتَلي عَن ذاكَ يُغنينا

إِذا اِنفَرَدتِ وَما شورِكتِ في صِفَةٍ         فَحَسبُنا الوَصفُ إيضاحاًّ وَتَبيينا

فقد استعمل العبارات المبجلة الواصفة لمليكته المنعمة في قصرها: (غادِ القَصرَ) (ربيب ملك) (مخلوق من مسك والناس من طين) (لَم نَكُن أَكفاءَهُ شَرَفاً.. ولكن أليس في المَوَدَّةِ كافٍ مِن تَكافئنا) (قدرك المعتلي يغني عن أن نسميك). لقد زخرت قصص الحب العالمية بهذه المعادلة العصية على الحل، والتي تجعل المتلقي يتفاعل معها ويسكب الدموع لاجلها، ومن ثم ينال هذا العاشق المسكين العطف والشهرة، وهو ما أراده ابن زيدون وحققه. ومن الروايات التي أحرقت القلوب وكوت النفوس لفقر البطل وغنى البطلة ماجدولين ومرتفعات وذرنج وغيرها. وقد استغلتها السياسة في قصة (غيده وحمد) بعد سقوط عبد الكريم قاسم ومحاولة البعثيين الهاء الناس بقصة عاطفية مؤثرة، فكان لهم ذلك. غيدة بنت الشيخ أحبها حمد الفلاح الفقير، فاحرق مشاعر الناس وبكوا لقوله:

لاجل عينچ يغيده

اريد اسكن البيده

واطوي الدرب ورماله

واجيج بعين همّاله

لابيچ ارد اضيفه

واجرّ حسره بمضيفه

ولا اعوفچ وحيده

- الامر الاخر ان الذي تنتابه هزة الحب سينشغل بكلامه فقط، ولا يستعير كلام غيره للتعبير عن حبه هو. وقد وجدنا ابن زيدون يقترض من المتنبي وغيره في غزلياته. مثل قوله:

لَسنا نُسَمّيكِ إِجلالاً وَتَكرِمَةً               وَقَدرُكِ المُعتَلي عَن ذاكَ يُغنينا

إِذا اِنفَرَدتِ وَما شورِكتِ في صِفَةٍ         فَحَسبُنا الوَصفُ إيضاحاًّ وَتَبيينا

فهو لا يذكر اسمها اجلالا لقدرها، ويرى ان وصفها يكفي في ذلك. وهذا منقول نقلا من المتنبي وقد جمع الفكرتين في بيت واحد(ديوان المتنبي، 1986، 1/ 215):

أُجِلُّ قَدرَكِ أَن تُسمى مُؤَبَّنَةً       وَمَن يَصِفكِ فَقَد سَمّاكِ لِلعَرَبِ

وهذه أدلة كافية على ان ابن زيدون كان يغترض فن الحب متخذا من شخصية ولادة بنت المستكفي عاشقة اسطورية، ليصبح وحبه ايقونة الحب العنيف العفيف في الاندلس، كما عرف أدب العرب قصص قيس ليلى، وجميل بثينة، وكثيّر عزّة. وكما عرف الادب الاقليمي والعالمي (شيرين وفرهاد) و(كليوباترا وانطونيو) و(وروميو وجوليت) وغيرها.

النتائج

روج البحث مصطلح (الإغترض) وهو: اتخاذ موضوع ما غرضا شعريا، طارحا ظاهرة (الإغتراض في الشعر). وقد طبق البحث هذه المقولة على اشهر شاعر اندلسي عرف بالغزل والحب، وهو الشاعر ابن زيدون بالمعروف بذي الوزارتين، الذي اشتهر بحبه لولادة بنت المستكفي. فقد أراد ابن زيدون ان يشهر بها، وينطرح في المشهد الشعري المفتوح مكانا وزمانا شاعر الحب المعذب، من اجل ترويج شعره وتحقيق الشهرة اكثر مما يحققه شعره بدون قصة الحب المختلقة.

درس البحث الشخصيتين: ابن زيدون وولادة. وظهر من قراءة سيرتهما وشعرهما انهما بعيدين كل البعد عن نزاهة وبراءة الحب. فكل منهما كان مستعدا ان ينقّل فؤاده ويستبدل آخر بآخر. وكلاهما كان بعيدا عن الدين والاخلاق والقيم وهو ما لا يتفق او يتماهى مع سمو الحب. كما ان كلا منهما جعل خاتمة هذا الحب المزعوم سبابا فاحشا وتشويها قاسيا، وهم لا يتفق مع حرص المحب على سمعة الحبيب وان انتهى الامر بهما الى الهجر.

وقراءة شعر ابن زيدون تؤكد عدم حبه: فهو لم يذكر اسم حبيبته مطلقا في غزلياته، وذكرها عندما هجاها واقذع في سبها وتشويهها، فكان لسانه باسمها اجرى في العبث وليس في الحب. كما نجده في نونيته، التي تعد القمة في غزله. وخاطب الحبيبة بصيغة الجمع وليس المفرد المخاطب، وهو الانسب والالذ للشاعر، وكأنه بصيغة الجمع يخاطبها خطابا رسميا، فالصيغة انسب للاحترام والتبجيل وليس للحب. كما وجدناه يقتبس كلام غيره في التعبير عن حبه، وهو ما لم نجده عند العشاق وان كان شعرهم او تعبيرهم قاصرا، فالادخل في القلب والاقنع للنفس كلام المحب نفسه. وبهذا يكون ابن زيدون شاعرا مغترضاً للحب والغزل.

 

 

 

المصادر والمراجع

* الاعلام، الزركلي، ط5، بيروت، دار العلم للملايين، 1980.

* البداية والنهاية، ابن كثير (ت774هـ)، تحقيق: علي شيري، بيروت، دار احياء التراث العربي، 1988.

* تاريخ الادب العربي بروكلمان، ترجمة: د. عبد الحليم النجار، قم، مطبعة ستار، 2005.

* ديوان جميل بثينة، بيروت، دار صادر.

* ديوان ابن زيدون، تحقيق: عبد الله سندة، بيروت، دار المعرفة، 2005.

* ديوان الشريف الرضي، بيروت، 1890م.

* ديوان المتنبي، تحقيق: عبد الرحمن البرقوقي، بيروت، دار الكتاب العربي، 1986.

* ابن زيدون، شوقي ضيف، ط11، القاهرة، دار المعارف.

* الشعر الاندلسي، غارسيا غومس، ترجمة: د. حسين مؤنس، القاهرة، 1956.

* صبح الاعشى في صناعة الانشا، القلقشندي (ت 821)، احمد بن علي، تحقيق: محمد حسين شمس الدين، بيروت، دار الكتب العلمية.

* العصر العباسي الاول، شوقي ضيف، ط8، القاهرة، دار المعارف، 1966.

* فوات الوفيات، ابن شاكر الكتبي (ت 764هـ)، تحقيق: محمد بن يعوض الله وعادل أحمد، بيروت، دار الكتب العلمية، 2000.

* قاموس المعاني، موقع على الانترنت.

* المطرب في اشعار اهل المغرب، ابن دحية الكلبي (بلا معلومات).

* معجم الادباء، ياقوت الحموي (ت 626هـ)، ط3، بيروت، دار الفكر، 1400هـ.

* المغرب في حلي المغرب، ابن سعيد المغربي، تحقيق: شوقي ضيف، ط2، مصر، دار المعارف، 1964.

* الموسوعة الشعرية، الاصدار الثالث.

* نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب، أحمد بن محمد المقري، تحقيق: احسان عباس، بيروت، دار صادر، 1988.

* الوافي بالوفيات، الصفدي (ت 764هـ)، تحقيق: أحمد ارناؤوط وتركي مصطفى، بيروت، دار احياء التراث، 2000.

* وفيات الاعيان، ابن خلكان (ت 681هـ)، تحقيق: احسان عباس، بيروت، دار الثقافة.

* ولادة بنت المستكفي غادة الامويين في عصر المرابطين، د. محمود محمد علي، أسيوط.

 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=168930
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 05 / 23
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28