• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : صاحِبُ النَّوادِر...الأديبُ الظَّريفُ، أبو العَيْناءِ البَصْرِيّ .
                          • الكاتب : ياسين يوسف اليوسف .

صاحِبُ النَّوادِر...الأديبُ الظَّريفُ، أبو العَيْناءِ البَصْرِيّ

 نحاوِل في مقالنا هذا أن نسلِّط الضوءَ على شخصيّةٍ أَدَبيَّة بصريَّةٍ قد تخفى على الكثيرين، ونرسِمُ لها صورةً واضحةَ المعالمِ  ، شخصيَّةٌ عُرِفت بالظَّرافةِ، والأدبِ، وسرعة البديهيةِ، تحمل سماتِ البصرةِ وثقافتَها بطابع السَّماحة، والبساطة، والمرح، لها من المساجلات الأدبيَّة واللغوية الشيءُ الكثيرُ، إنَّها شخصيَّة الأديب الظَّريف، أبو العَيْناءِ البَصْرِيّ.
إسمُه ونسبُه
هو محمّد بن القاسم بن خلاَّد بن ياسر، المُكنّى بأبي العَيْناءِ، والحقُّ إنَّ أبا العَيْناءِ لقبُه، وأمّا كنيتُه، فهي أبو عبد الله البَصْرِيُّ اليَماميُّ ، وقال  بعضُهم ـ ومنهم النمازيُّ ـ : >أبو العَيْناءِ الهاشميُّ< ، وترجم له القمّيُّ بقوله: >أبو عبد الله، محمّد بن القاسم بن خلاّد، الأهوازيُّ، البصريُّ< .
وأما تكنيته بأبي العيناء، ففي تاريخ بغداد: >حدَّثنا أبو الحسين، محمّد بن سليمان، الجوهريُّ، البصريُّ، المعروف بجَوذاب . قال : قدم أبو العيناء ـ واسمُه محمد بن القاسم بن خلّاد، أبو عبد الله، اليماميُّ ـ بالبصرة، في سنة ثمانين ومائة، فنزل دارَ الحريثيِّ في سِكَّةِ ابن سُمْرَةَ، فكنّا نصير إليه، نجالسُه، ونسمعُ كلامَه ، ونكتبُ ما يجري في المجلس من أخباره : فسأله رجلٌ، فقال : يا أبا عبد الله، كيف كُنّيتَ أبا العَيناء ؟ قالَ: قلت لأبي زيدٍ، سعيدِ بنِ أوسٍ، الأنصاريِّ: يا أبا زيد، كيف تصغِّرُ عينا؟ فقال:عيينا، يا أبا العيناء، فلحقت بي منذ ذاك<  . 
 جانبٌ من سيرتِه 
وُلد في الأهواز سنة (191هـ) ، ونشأ  بالبصرة، موطنِ العلمِ، واللغةِ، والحديثِ، والفقهِ، والأدبِ، وغيرها ، كاتبٌ، وأديبٌ، وشاعِرٌ، من أعلام القرن الثالث الهجريِّ، الحافل بأعلامِ الأدبِ، قيل: إنَّه سمع من : الأَصْمَعيّ ، وأبي زَيد الأنصاريّ، وأبي عبيدةَ، مُعمَّرِ بن المثنّى، والعُتْبِيّ  .
عاش في البصرةِ إلى أن فَقدَ بصرَه في سِنِّ الأربعين من عمره، بعدها، سافرَ إلى بغدادَ، وأصبح يترددُّ بينها وبين سامرّاء والبَصرة ، وقيل: إنَّ سببَ انتقالهِ إلى بغدادَ حكايةٌ ظريفةٌ نقلها الخطيبُ البغداديُّ في تاريخه المشهور، تاريخ بغداد، سننقلها في ما يأتي من نوادره.
ساعدت الثقافةُ التي تلقّاها في البصرة أبا العيناء على أن يكون قريباً من الحكومة العباسيّة آنذاك، وله الكثير من المواقف مع المتوكّل العبّاسيّ، وكانت مواقفه تمتاز بالطّرافة والجُرأة في الوقت نفسه؛ لما تتمتّع به شخصيّتُه من صفات، كالفصاحة، والبلاغة، والشِّعر، وحضور الجواب، وغير ذلك من مميّزاتٍ يجدها المتابعُ في التّراثِ المحكيّ عنه بوضوحٍ، وفي كلماتِ كلّ مَن ترجم له أيضاً.
ترجمَ له الكثير من الأعلامِ؛ فقد ذكر الكلينيُّ (رحمه الله) في الكافي: >إِسْحَاقُ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ، أَبُو الْعَيْنَاءِ، الْهَاشِمِيُّ، مَوْلَى عَبْدِ الصَّمَدِ ابْنِ عَلِيٍّ عَتَاقَةً، قَالَ: كُنْتُ أَدْخُلُ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ ×، فَأَعْطَشُ وأَنَا عِنْدَه، فَأُجِلُّه أَنْ أَدْعُوَ بِالْمَاءِ، فَيَقُولُ: يَا غُلَامُ، اسْقِه. ورُبَّمَا حَدَّثْتُ نَفْسِي بِالنُّهُوضِ، فَأُفَكِّرُ فِي ذَلِكَ، فَيَقُولُ: يَا غُلَامُ، دَابَّتَه< .
وقد اتُّهم بأنَّه مَن وَضَعَ حديث فَدَك، إلا أنَّ البحث الموضوعيَّ ينفي تلك التهمة المغرضة عن الرجل؛ قال أحمد بن أبي طاهر  (ابن طيفور ـ 204 ـ 280 هـ)، في كتاب (بلاغات النساء): >ذكرت لأبي الحسين، زيدِ بنِ عليِّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب (صلوات الله عليهم) كلامَ فاطمة (عليها السلام) عند منع أبي بكر إيّاها فَدَك، وقلت له: إنّ هؤلاء يزعمون أنّه مصنوعٌ، وأنّه من كلام أبي العيناء ....
فقال لي : رأيتُ مشايخَ آلِ أبي طالبٍ يروونه عن آبائِهم، ويعلّمونه أبناءَهم، وقد حدَّثَنيه أبي عن جدّي يبلغ به فاطمةَ (عليها السلام) على هذه الحِكاية، ورواه مشايخُ الشِّيعة، وتدارسوه بينهم قبل أن يولد جدُّ أبي العيناء ، وقد حدّث به الحسنُ بنُ علوان عن عَطيّة العوفيِّ، أنّه سمِع عبدَ الله بن الحسن يذكره عن أبيه .. ثمّ ذكر الحديث ...< . 
كان أبو العيناء لا يهاب أحداً؛ وربما كان ذلك من جهة إدراكه أنَّ كونَه ضريراً لن يُجرئ أحدا على إلحاق الأذى به، وهو الأمر الذي استغلّه لصالحه، فقد >دخل أبو العيناء على إسماعيل القاضي، وأخذ يردُّ عليه إذا غلط في اسم رجل وكُنية آخر، فقال له بعضُ مَن حضر: أتردُّ على القاضي أعزه الله؟ قال: نعم! لِمَ لا أردُّ على القاضي وقد ردَّ الهُدهُد على سليمانَ، وقال: أحطتُ بما لم تُحط به؟ وأنا أعلم من الهدهد، وسليمانُ أعلمُ من القاضي<. 
تعلُّق أبي العيناء بالبَصرة
يبدو أنَّ أبا العيناء بقي متعلِّقا بمدينته التي نهل منها الأدبَ والفصاحةَ والشِّعرَ،  حتّى بعد أن تركها وذهب إلى بغداد؛ فقد بقي متردّداً عليها، يزورها بين الحين والآخر، وقد ذكر خيرَها وجمالهَا وعطاءَها، ووصفَها عندما سُئل عنها بالقول : >لا يُعرَف بلدٌ أقربُ برّاً من بحرٍ، وحَضَراً من بدوٍ، وقانصَ وحشٍ، وصائدَ سَمَكٍ، ونجداً من غور من البصرة، واسطةُ الأرض، وفُرضةُ التجّار، ومَغيضُ الأمطار، ومَسكنُ الأَحرار، عَجَبٌ، أوّلهُا رُطَبٌ ، وأوسطُها قَصَب، وآخِرُها العُطُب- والعُطُب: القُطن- ، لهم الرَّاسِخاتُ في الوَحْل، المُطعِمات في المَحْل  ، المُلقَّحات بالفَحل، تَعِلّةُ الصَّبيِّ والشَّيخ، وتحفةُ مريمَ عليها السلام< .
من أحاديثِ أبي العَيناء عن أميرِ المؤمنينَ عليٍّ ×
 ذكرَ الشَّيخ المفيدُ في الأمالي :قال : >عَنِ اَلْمَرْزُبَانِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ اَلْمَكِّيِّ، عَنْ أَبِي اَلْعَيْنَاءِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ اَلْحَكَمِ، عَنْ لُوطِ بْنِ يَحْيَى، عَنِ اَلْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ  عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ×:
 اِزْهَدُوا فِي هَذِهِ اَلدُّنْيَا، اَلَّتِي لَمْ يَتَمَتَّعْ بِهَا أَحَدٌ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَ لاَ تَبْقَى لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِكُمْ، سَبِيلُكُمْ فِيهَا سَبِيلُ اَلْمَاضِينَ، قَدْ تَصَرَّمَتْ وَ آذَنَتْ بِانْقِضَاءٍ، وَ تَنَكَّرَ مَعْرُوفُهَا، فَهِيَ تُخْبِرُ أَهْلَهَا بِالْفَنَاءِ، وَسُكَّانَهَا بِالْمَوْتِ، وَقَدْ أَمَرَّ مِنْهَا مَا كَانَ حُلْواً، وَ كَدِرَ مِنْهَا مَا كَانَ صَفْواً، فَلَمْ تَبْقَ مِنْهَا إِلاَّ سَمَلَةٌ كَسَمَلَةِ اَلْإِدَاوَةِ، أَوْ جُرْعَةٌ كَجُرْعَةِ اَلْإِنَاءِ، لَوْ تَمَزَّزَهَا اَلْعَطْشَانُ، لَمْ يَنْقَعْ بِهَا، فَأَذِّنُوا بِالرَّحِيلِ مِنْ هَذِهِ اَلدَّارِ، اَلْمُقَدَّرِ عَلَى أَهْلِهَا اَلزَّوَالُ، اَلْمَمْنُوعِ أَهْلُهَا مِنَ اَلْحَيَاةِ، اَلْمُذَلَّلَةِ فِيهَا أَنْفُسُهُمْ بِالْمَوْتِ، فَلاَ حَيٌّ يَطْمَعُ فِي اَلْبَقَاءِ، وَلاَ نَفْسٌ إِلاَّ مُذْعِنَةٌ بِالْمَنُونِ، فَلاَ يُعَلِّلُكُمُ اَلْأَمَلُ، وَلاَ يَطُولُ عَلَيْكُمُ اَلْأَمَدُ، وَلاَ تَغْتَرُّوا مِنْهَا بِالْآمَالِ، وَ لَوْ حَنَنْتُمْ حَنِينَ اَلْوُلَّهِ اَلْعِجَالِ، وَ دَعَوْتُمْ مِثْلَ حَنِينِ اَلْحَمَامِ، وَجَأَرْتُمْ جَأْرَ مُتَبَتِّلِي اَلرُّهْبَانِ، وَخَرَجْتُمْ إِلَى اَللَّهِ تَعَالَى مِنَ اَلْأَمْوَالِ وَاَلْأَوْلاَدِ؛ اِلْتِمَاسَ اَلْقُرْبَةِ إِلَيْهِ فِي اِرْتِفَاعِ اَلدَّرَجَةِ عِنْدَهُ، أَوْ غُفْرَانِ سَيِّئَةٍ أَحْصَتْهَا كَتَبَتُهُ، وَحَفِظَتْهَا مَلاَئِكَتُهُ، لَكَانَ قَلِيلاً فِيمَا أَرْجُو لَكُمْ مِنْ ثَوَابِهِ، وَأَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ مِنْ عِقَابِهِ. جَعَلَنَا اَللَّهُ وَ إِيَّاكُمْ مِنَ اَلتَّائِبِينَ اَلْعَابِدِينَ< .
شعرُه
أبو العيناء شاعر مُقِلٌّ، ومع قلّة شعره، فهو جيِّد، وامتازت قصائدُه بوضوح المعنى، والبساطة، ومالَ فيها إلى الفُكاهة، وتناول في شعره الحكمةَ، والفخرَ، والهجاءَ، ومن شِعرِه :
إِن يَأخُذِ اللَهُ مِن عَينَيَّ نورَهُما.... فَفي لِساني وَقَلبي مِنهُما نورُ
قَلبٌ ذَكِيٌّ وَعَقلٌ غَرُّ ذي دَخَلٍ.... وَفي فَمي صارِمٌ كَالسَيفِ مَأثورُ 
وقال: 
الحَمْدُ للهِ لَيْسَ لِي فَرَسُ                                            وَلا عَلى بَابِ مَنْزِلي حَرَسُ
وَلا غُلامٌ إِذا هَتَفْتُ بِهِ                                             بَادَرَ نَحْوي كأَنَّهُ قَبَسُ
إِبْني غُلامي وَزَوْجَتي أَمَتي                                    مَلَّكَنيها المُلاَّكُ وَالعُرُسُ
غَنيتُ بِالْيأْسِ واعْتَصَمْتُ بِهِ                                عَنْ كُلِّ فَرْدٍ بِوَجْهِهِ عَبَسُ
فَما يَراني بِبِابِهِ أَبَداً                                                  طَلْقَ المُحَيَّا سَمْحٌ وَلا شَرِسُ.
 وله أيضاً:
أَلَمْ تَعْلمي يا عَمْرَكِ اللهُ أَنَّني............ كَريمٌ عَلى حِينِ الكِرامُ قَليلُ
وَإِنِّيَ لا أَخْزى إِذا قيلَ مُقْتِرٌ ............جَوادٌ وَأَخْزى أَنْ يُقالَ بَخيلُ
وإِلاَّ يَكُنْ عَظْمي طويلاً فَإِنَّني............. لَهُ بِالخِصالِ الصَّالِحاتِ وَصولُ
إِذَا كُنْتُ في القَوْمِ الطِّوالِ فَضَلْتُهُمْ.............. بِطَوْلي لَهُمْ حَتَّى يُقالَ طَويلُ
ولا خَيْرَ في حُسْنِ الجُسُومِ وَطولِها.............. إِذا لَمْ يَزِنْ طُولَ الجُسُومِ عُقولُ
وَكم قد  رأَيْنا من جُسُومٍ طَويلةٍ.............. تَموتُ إِذَا لَمْ تُحْيِهِنَّ أُصُولُ
ولم أَرَ كَالْمَعْروفِ أَمَّا مَذَاقُهُ............. فَحُلْوٌ وَأَمَّا وَجْهُهُ فَجَمِيلُ
من نوادر أبي العيناء
نُقل عن أبي العَيناء نوادرُ كثيرة، منها:
أنّه حضر مجلسَ بعض الوزراء، فتعارضوا حديثَ بعض البرامكة، وكرمِهم، وما كانوا عليه من الجود، فقال الوزيرُ لأبي العيناء، وقد كان أمعنَ في وصفهم وما كانوا عليه من البذل والإفضال: قد أكثرْتَ من ذكرِهم ووصفِك إيّاهم، وإنّما هذا من تصنيف الوَرَّاقين، وتأليف المُحَسِّنين، فقال له أبو العيناء: فلمَ لا يكذبُ الوَرَّاقونَ عليكَ ـ أيها الوزير ـ بالبذل والجود؟! فأمسَكَ عنه الوزير، وتعجّب الناس من إقدامه عليه.
واستأذن يوماً على الوزير صاعد بن مخلَّد، فقال له الحاجب: الوزيرُ مشغولٌ، فانتظر، فلمّا أبطأ إذنُه، قال للحاجب: ما صُنعُ الوَزير؟ قال: يصلِّي، قال: صَدَقتَ، لكلِّ جديدٍ لذّةٌ. يعيِّره بأنّه حديثُ عهد بالإسلام.  
ومن نوادره ما نقله البغدادي في تاريخه: 
>أخبرنا أبو بكر الصّوليُّ، عن أبي العيناء، قَالَ: كانَ سبب خروجي من البصرة وانتقالي عنها، أنّي مررتُ بسوق النخّاسين يوما، فرأيتُ غلاماً يُنادى عليه، وقد بلغَ ثلاثينَ ديناراً، وهو يساوي ثلاثمائةِ دينارٍ، فاشتريتُه، وكنت أبني داراً، فدفعتُ إليه عشرين ديناراً على أن يُنفقَها على الصُّنّاع، فجاءني بعد أيّام يسيرة، فقال: قد نفدَت النفقة، فقلتُ: هاتِ حسابَك، فرفعَ حساباً بعشرة دنانير، قلتُ: فأين الباقي؟ قَالَ: اشتريتُ به ثوباً مصمَتاً وقطّعتُه. قلتُ: ومن أمرك بهذا؟ فقال: يا مولايَ، لا تَعجَل، فإنَّ أهلَ المروءاتِ والأقدارِ لا يعيبون على غُلمانِهم إذا فَعَلوا فعلاً يعود بالدين على مواليهم.
فقلتُ في نفسي: أنا اشتريتُ الأصمعيَّ ولم أعلم.
قَالَ: وكانت في نفسي امرأةٌ أردتُ أن أتزوَّجها سرّاً من ابنة عمّي، فقلتُ له يوما: أفيكَ خَير؟ قَالَ: إي، لعمري، فأطلعتُه على الخبر، فقال: أنا نعم العَون لَك.
فتزوَّجتُ المرأةَ، ودفعت إليه ديناراً، فقلتُ له: إشتر لنا كذا وكذا، ويكون فيما تشريه سمكٌ هازبيٌّ، فمضى، ورجع وقد اشترى ما أردتُ، إلّا أنّه اشترى سمكا ًمارَ ماهيٍّ، فغاظني، فقلت له: أليسَ أمرتُك أن تشتري هازبيّ؟ قَالَ: بلى، ولكنّي رأيتُ بقراطَ يقول: إن الهازبيَّ يولِّدُ السَّوداءَ، ويصفُ المارماهيَّ ويقول: إنّه أقلُّ غائلةً.
فقلتُ له: ... أنا لم أعلم أنّي اشتريتُ جالينوسَ، وقمتُ إليهِ، فضربتُه عشرَ مَقارع، فلمّا فرغتُ من ضربه، أخذَني، وأخذَ المقرعةَ فضربَني سبعَ مَقارع، وَقَالَ: يا مولايَ، الأدبُ ثلاثٌ، والسبعُ فضلٌ، ولذلك قِصاص، فضربتُك هذه السبعَ المَقارع خوفاً عليكَ من القِصاص يوم القيامة.
قَالَ: فغاظني جدّاً، فرميتُه، فشَجَجْتُه، فمضى من وقته إلى ابنةِ عمّي، فقال لها: يا مولاتي، إنَّ الدينَ النصيحةَ، وقد قَالَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ: من غَشَّنا، فليسَ منّا، وأنا أعلمُك ـ يا مولاتي ـ أنَّ مولايَ قد تزوَّجَ، واسْتَكْتَمَني، فلما قلتُ له: لا بدَّ من تعريف مولاتي الخبرَ، ضربني بالمَقارع، وشجَّني.
فمنعتنى بنتُ عمي من دخول الدار، وحالت بيني وبين ما فيها، ووقَعنا في تخليط، فلم أرَ الأمرَ يصلحُ إلّا بتطليق المرأة التي تزوَّجتُها، وصَلحَ أمري مع ابنة عمّي، وسِمتُ الغلامَ الناصحَ، فلم يكن يتهيّأ لي أن أكلِّمه، فقلتُ: أعتقُه، وأستريحُ؛ فلعلّه أن يمضيَ عنّي إلى النار.
فلمّا أعتقتُه، لزمَني، وَقَالَ: الآن وجبَ حقُّكَ عليَّ.
ثمّ إنَّه أرادَ الحجَّ، فجهَّزتُه، وزوّدتُه، وخرج، فغاب عنّي عشرينَ يوماً، ورجع.
فقلت له: لمَ رجعتَ؟ قَالَ: قُطعَ الطريقُ، وفكّرتُ، فإذا الله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا}، فكنتُ غيرَ مُستطيع، وفكَّرتُ، فإذا حقُّكَ أوجبُ، فرجعتُ.
ثم أراد الغزوَ، فجهَّزتُه أيضاً لذلك، وَشَخَصَ.
فلمّا غابَ عنّي، بعتُ كلَّ ما أملكُه بالبصرة من عقارٍ وغيرِه، وخرجتُ عنها؛ خوفاً من أن يرجع<. .
وفاة أبي العيناء
كانت وفاةُ أبي العيناء سنة اثنتين وثمانين ومائتين بالبصرة، في جمادى الآخرة ، وكان قد انحدر من مدينة السَّلام (بغداد) إلى البصرة في زورقٍ فيه ثمانون نفساً في هذه السنة فغرق الزورق ، ولم يتخلص مما كان فيه إلا (أبو العيناء)، وكان ضريراً ، تعلَّقَ بأطراف الزورق، فأُخرج حيّاً ، وتَلَف كلُّ من كان معه ، فبعدَ أن سَلِم ودخلَ البصرةَ، مات.  
إلا أن البغدادي ذكر أمرا آخر، فقال: > قرأتُ على الحسن بن أبي بكر، عن أحمد بن كامل القاضي، قَالَ: ماتَ أبو عبد الله، محمّدُ بن القاسم بن خلّاد بن ياسر بن سليمان، المعروفُ بأبي العَيناء، في جمادى الآخرة، سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وحُمل في تابوت إلى البَصرة<. .
..................
 1 - تاريخ بغداد: 3/391
2  - مستدرك علم الرجال : النمازي:7/290.
3  - الكنى والألقاب :1/129.
 4 - تاريخ بغداد: 3/391.
5  - نور القبس:322.
6 - ينظر: معجم الأدباء :9/129.
7 -  الكافي :1/512.
8-  بلاغات النساء لابن طيفور: 16.
9  - البصائر والذخائر :5/134.
10-  الراسخات في الوَحل، أي: النخيل التي نشبت عروقُها في الطين، وثبتت فيه، وهي تُطعم ـ أي: تثمر في المَحْل، وهو بالفتح: الجَدب وانقطاع المطر، والتخصيص بها لأنَّها تحمل العطش أكثر من سائر الأشجار.
  11- نور القبس شرح اليغموري: 173.
12- الأمالي للمفيد: ص161
13-  راجع: معجم الأدباء: 9/129.
14 -  راجع: مروج الذّهب: 4/147.
15 - تاريخ بغداد: 4/ ص284.
16 -  راجع: مروج الذّهب: 4/146ـ 147.
17 - تاريخ بغداد: 4/ ص284.
 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=169605
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 06 / 14
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19