• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : العراقيون والعثمانيون والتجديد .
                          • الكاتب : صالح الطائي .

العراقيون والعثمانيون والتجديد

قبل أكثر من ستين عاما تساءل الدكتور علي الوردي في واحد من كتبه المتخصصة بدراسة طبيعة المجتمع العراقي فيما إذا كان العراقيون يختلفون عن غيرهم من البشر أم لا، وأجاب على سؤاله بالإيجاب. ويجد من يتابع حراك العراقيين في كل حين بأنهم حقا يختلفون عن غيرهم في كل شيء، واختلافهم في أبسط أنواعه أن غيرهم يتبدلون ويتطورون ويتلونون أفرادا وجماعات تبعا للظروف والمناسبات، أما هم فمتحجرون لا يكادون يتبدلون ولاسيما في بعض المواقف والشؤون، ولذا تقدم الآخر وتجاوز الدكتاتورية إلى الديمقراطية والقومية إلى اللاقومية والقطرية إلى العولمة، أما نحن فكنا ولا زلنا وسنبقى عالقين في نفس خلافاتنا التاريخية الموروثة، متشبثين بنفس أساليبنا القديمة المتهرئة، وكأن الزمن توقف عندنا وليس في الكون من جديد.
تذكرت قول الدكتور الوردي وأنا أقرأ مذكرات رئيس الوزراء العراقي الأسبق ناجي شوكت باشا بن الحاج رفعت بك بن الحاج أحمد آغا (ينيجري آغا سي  بغداد) فعند وصولي إلى  الصفحة 254 وجدته يقول: "جرت العادة في العرف الدبلوماسي أن يحدد موعدا يزور فيه وزير خارجية أية دولة وزير خارجية الدولة التي يمر بأراضيها أثناء سفره" 
وصادف أن كان ناجي شوكت برفقة نوري السعيد عند مروره بأنقرة في طريقه إلى جنيف، وطبقا لهذا البروتوكول حدد لهم موعدا لزيارة وزير الخارجية التركي "رشدي آراس" الذي أخبرهم أن الرئيس التركي "مصطفى كمال" يرغب باللقاء بهم على حفل عشاء. في هذا الحفل الذي ضم فضلا عن الضيوف العراقيين مجموعة من أصدقاء الرئيس غير الرسميين، طلب الرئيس التركي من العراقيين إجراء حوار صريح كأصدقاء لا كسياسيين، وابتدأ كلامه بالقول: "وأما أنتم يا ساسة العراق فأحدكم ضد الآخر، وواحدكم يسعى للإيقاع بالثاني، فلماذا لا تجتمعون وتضعون منهجا تتفقون على مواده وتملون على تنفيذ بنوده بكل إخلاص وتجرد من الأنانية، وتختارون واحدا من بينكم يتولى رئاسة الوزارة فيكون قائدكم؟"
استوقفتني هذه الجملة طويلا عندما قرأتها ولاسيما وأني شممت منها ضوع الحاضر مضمخا بعطر الماضي. حيث الكبر والاستعلاء والصلف التركي (العثماني) الذي يبدو واضحا من خلال حديث رئيسهم مع الوزراء العراقيين، يقابله حديث الكبر والاستعلاء والصلف الذي نسمعه من الساسة الأتراك المعاصرين في حديثهم عما يجري في العراق وسوريا اليوم.
وحيث صورة التشتت التي رسمتها كلمات الرئيس للساسة العراقيين القدماء 
والتي يبدو فيها أحدهم ضد الآخر /أحدهم يسعى للإيقاع بالثاني/غير مجتمعين/لا يوجد عندهم منهجا يتفقون على بنوده/فشلهم في اختيار واحد للزعامة يرضون به كلهم.
هي الصورة ذاتها المعلقة في خيال الناس عن الساسة العراقيين المعاصرين الذين دفعهم الجشع والطمع وتمجيد الذات وحب السلطة والطائفية والعصبية القبلية والتبعية والتشدد وأشياء كثيرة أخرى إلى النزاع والتخاصم بما جر الويلات على العراقيين وأضاع ثروة العراق وطأطأ هامته حتى استضعفته ثعالب الكهوف وباتت تتعملق عليه وتهدده بالويل والثبور.
وعجيب كيف لشعب علم شعوب العالم معنى التحضر والتطور والتمدن أن يبقى جامدا على حراك يجره إلى الهاوية ويرغمه ذليلا للخنوع أمام المستكبرين والأقزام الذين كانوا يخدمونه بالأمس ويفرون من أمامه متى ما لوح من بعيد بعصاه في وجوههم. عجيب أن لا تتغير سياساتنا ومواقفنا ورؤانا وعلاقاتنا ببعضنا رغم المحن والإحن، ورغم المآسي التي طالت كل جميل في حياتنا حتى المقدس منها فشوهت أجمل ما نملك وهو الوطنية والإخلاص للعراق وأهله. عجيب أن نكون في 2012 صورة طبق الأصل  بالأبيض والأسود عنا في 1925
 إن حياة البلدان تحسب بالدقائق والثواني، فهل من المعقول أن لا يلتفت العراقيون إلى 87 عاما عجافا مرت بهم وهم جامدون سادرون تائهون ضائعون؟ 
وماذا يعني التصلب على المواقف التعجيزية التي تقاذف الشر بسببها العراق وأهل العراق كالكرة؟
ومتى يجلس الساسة جلسة وفاق يتباحثون بشأن العراق وكل منهم يحمل في قلبه حب العراق ولا حب غيره؟
بالأمس بعد أن سلبنا العسف حتى كرامتنا صرنا نتمنى أن يأتي سكان الواق واق ليحكمونا بدل جور حاكمنا، واليوم نتمنى أن نهرب جميعنا إلى الواق واق لكي نتخلص من حكمانا، فماذا تبدل إذن؟ 



  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=17778
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 05 / 27
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28