القرآن كتاب الله العظيم الذي تجلّت آياته بسمو التوحيد وبروح الايمان المشع، وبالشجن الوحياني المثخن بالعبر .للقرآن دويٌّ هائل في نفوس المؤمنين تكاد تتصدع له الجبال الأشم، وتتفجر له الأنهار وكل الموجودات تجليلاً لمعانيه السامية .للقرآن هتاف يخرق السموات السبع ويمتد لسقف العرش الموقر مشعاً بتلك الآيات الكبرى لتسجد زبر الملائكة أمام حروفه المنيرة . للقرآن جروح طويلة ممتدة بقدر حسرات الأنبياء، وفواجع الرسالات الخالدة، وبكل بكاءات الأولياء الصديقين المضمخة بالانكسار والمحن .
للقرآن حزن مثقل من عهد نوح والخليل وكل الرعيل الأول من الطلائع النبوية المبجلة .أن لغة إعجاز القرآن تنطوي في طياتها آيات الآفاق والأنفس بأعلى درجات الايجاز والبلاغة .هتافات القرآن عالية المضمون والاحكام لا يدرك غورها إلا من فتح عين قلبه ليتلقى ذلك الفيض الالهي الأجل .ومهما كانت بوادر الايضاح والتبيين حول نجومه، سيظل الشفر الوحياني للقرآن غير متاح للجميع وبحسب شرط السماء المقرر .سيظل القرآن ينعى ملحمة الصراع البشري بتراتيل مفعمة بالتأسف والانحسار، معبرة أن الخاسر فيها من صد فطرته عن سماع نداء الله الأعظم . سيتلو آياته الشامخة للعالمين سيد الرسل الأول، بكل إجلال وفخامة يخشع لتلاوته النبوية العالم العلوي والسفلي معاً، ينصت إليه بحيرة وذهول ليهرع رجال من الجن لقومهم يخبروهم: إنّا سمعنا قرآناً عجبا فآمنوا به، وأن كل البشر لن يأتوا بمثله آية، ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيرا، .ومن جانب آخر قذفت شهب السماء الشياطين، ثم ليتصدر نداء العزيز بحجبهم للأبد. فليس من صلاحياتهم استراق السمع للملأ الأعلى، ولا مجال للتفاوض في خبر السماء المحكم . وخلال تراتيله المجيدة يشهد القرآن حدثاً مدوياً سقوط امبراطورية الروم وسقوط قيصرها المتزعم، وبوقت قريب سينهار جدار كسرى وتفتح بلاد فارس لأول مرة في التاريخ . للقرآن إخبارات صدقها الوجدان والعقل وصدقتها التجارب البشرية المتظافرة، ومن حيث الأنسنة والألسنة فالنصوص القرآنية أرقى وأجمل ما تضمنتها اللغة العربية في قاموسها الفريد .
لم تكن قضية حرق القرآن مسألة تنطلق من دافع فردي مرتجل كما يتصور، إنما هي قضية منطلقة من دوافع سياسية مدروسة بدقة، وهذه السياسات مبنية بالأصل على دوافع فلسفية ثابتة ومتحكمة بها .فالسياسات الغربية نتيجة لقراءات مشوهة ومبتورة ترى الاسلام خطراً عليها، وعلى مصالحها بل أن الفلسفة اللبرالية الغربية متقاطعة ومتضادة مع عموم الأديان والتشريعات السماوية وليس فقط الاسلام، وأن تظاهرت بغير ذلك، لأن شعارها ومبدأها بالأساس الذي يتحكم في نطاق تفكيرها منطلق من مبدئية الانسجام مع الذات، وقضية التوافق مع انسنة الذات يعني تحقيق مبدأ الالتذاذ الحسي وبالتالي فتح المجال لكل الرغبات والممارسات الغرائزية، وشرعنتها بالشكل الذي يحقق اللذة كيف ما كان، التي هي الغاية المنشودة لدى أصحاب هذه الاتجاه . وعلى ضوء هذا الأصل شرعنة القوانين والحقوق مستمدة وجودها من هذه الرؤية. فالمدارس اللبرالية الغربية أحد منابعها التفكيرية هي الجانب النفعي واللذة الحسية، وعلى حد تعبير عالم النفس الأمريكي كارل روجرز: أن الحياة الأصلية هي التي يتوافق فيها الانسان مع ذاته وأما غير ذلك فهو كبت ومجاز - أما الاسلام فيرى أن الأصل الأصيل هو التوافق مع الحقيقة التي حددتها معطيات الأدلة برتبة سابقة، فالحقيقة قالت أن لهذا الكون خالق ورب فآمنت به، وقالت لي الحقيقة أن وراء هذا العالم حساب وثواب وعقاب فآمنت به وهكذا ... أما الرؤية اللبرالية اللادينية فترى لا شيء ما دام لم يتوافق مع الذات، ومقتضى لوازم ذلك أنها لا تعترف بشيء اسمه الأديان والتشريعات السماوية، وبالتالي لها فلسفتها الخاصة في النظرة للحياة والانسان .
وهذه لم تكن جديدة وإنما كانت جذورها ممتدة ما قبل عصر الميلاد فقد ذهب بعض فلاسفة اليونان مثل (ارستبوس) ( إبيقور) أن الخير والجمال والسعادة يكمن في تحقيق اللذة الحسية، وأنها المحرك الأول للأفعال والتصرفات البشرية .
. مفهوم اللذة يعرّف من خلال اشباع الرغبات الشخصية أو الابتهاج الداخلي الذي يحصل جرّاء بلوغ الانسان الهدف الذي يحسبه خيراً ومفيداً أو كمالاً .نعم أن تاريخ المذهب النفعي- الذي يرى الأفعال قائمة على المنفعة- مر بتحولات وتطورات فكرية وفلسفية ولكن ذلك لم يغير من جوهريته شيئاً - بناءً على تفسير المنفعة باللذة فكما قال ( جيرمي بنثام) صاحب المدرسة الأنجليزية لمذهب المنفعة: أن المبدأ النفعي هو تحري الانسان دائماً لأكبر سعادة يستطيع التمتع بها، فهي كل لذة أو سبب لايجاد اللذة، ثم هو بعد ذلك يدخلها في الجانب السياسي العام، كما تابعه خليفته جون ستيوارت ميل - وملخص هذه التغيرات هو التحول من المنفعة الفردية (الأنانية) إلى المنفعة العامة ( الجماعية) فعلى سبيل المثال: أن (إبيقور341-270 ق.م)- يرى أن قوام السعادة والخير يدور مدار اللذة والمتعة والانغماس في الملذات الحسية، ثم قسم اللذة إلى حسية وعقلية ومن ثم هو يميل للمنفعة الفردية أكثر من الجماعية، وبالتالي إبيقور وأنصاره يرون أن الدين يشكل مصدر قلق ومنغص لهذه اللذة التي هي هدف الأنسان الأسمى! . فيما يميل (بنثام) للمنفعة الجماعية وبهذا يدخل الدين والمنظمات السياسية كمنفعة بهذا المعنى، وعلى حد تعبيره تحقيق أكبر سعادة ممكنة لأكبر عدد ممكن . وخلاصة القول في المذاهب الأخلاقية، منهم من عرّف المنفعة باللذة بدءاً من (إبيقور) ووصولاً إلى (توماس هوبز) (جان لوك) و(دايفيد هيوم) ومنهم من يرى المنفعة هو الزيادة القصوى لعدد أكبر من الناس .لست في وارد البحث والقييم والنقد المعرفي للفلسفة النفعية، إنما هذه لها مجالها الخاص بقدر الاشارة هنا أن السياسات الغربية تقبع ورائها جذور نفعية عميقة تتحكم في مسارها وحركتها بقدر ما تحقق المتع والرغبات الذاتية، حتى لو تطلب ذلك سحق القيم والشرائع السماوية ونشر الجرائم الأخلاقية كالمثلية وتفكيك الأسرة والأفعال الاباحية المتهتكة كما يحصل حالياً في دول الغرب، ومن ثم المدافعة عنها تحت شماعة حقوق الانسان وغير ذلك من المصطلحات المائعة، ومن ثم تصديرها للبلدان الاسلامية أو العالم الثالث المتخلّف كما يسمونه . وأن عداء الغرب الفضيع للإسلام والقرآن هو بسبب تقاطاعته مع تشريعاتهم الشذوذية والمريضة .وهذا الشيء ليس بخافي لمن قرأ بعض مذكرات زعمائهم ورؤساهم سيلاحظ نبرة العداء الكريهة للإسلام والمسلمين .
وكما يقول الدكتور يحيى أبو زكريا الجزائري في صفحته الشخصية" قرأت مذكرات معظم قادة الإستعمار الغربي لبلادنا العربية و الإسلامية، و يجمعون على أن الإسلام هو الذي هزمهم و عقيدة المسلمين هي من هزمهم، بل يعترف جنرال فرنسي " لاكوست " أن القرآن الكريم هو سبب هزيمة فرنسا في الجزائر و لذلك إنتقلوا إلى مرحلة تصفية الإسلام و هو ما نشاهده اليوم !"
الأمر الآخر العنصرية الممزوجة بالهيمنة الاستعمارية، لا يخفى أن العنصرية هي أردأ صفات البشر وأبشعها حكماً وسلوكاً وأخلاقاً، التي تميز الناس على أساس الطبقية، والتمايز فيما بينهم من خلال اللون والنسب والعرق واللغة والانتماء وغير من الصفات، فتاريخ الدول الغربية بما فيها أوروبا مرت بحروب عنصرية داخلية لمئات السنين، ومرت بعصور مظلمة في الانقسامات والاقتتال . كما أن العنصرية لا تزال لليوم موجودة وبأبشع صورة سواء كان في أمريكا أو الدول الأوروبية، وقد رأينا كيف الغرب يتعامل مع شعب أوكرانيا بمنتهى العطف والانسانية والطيبة، وكيف يتعاملون مع شعوبنا العربية والاسلامية بمنتهى الوحشية والفظاظة والمواقف اللانسانية، على سبيل المثال الشعب الفلسطيني منذ سنين وسنين لا يزال يئن من فضاعة الاحتلال الاسرائيلي، والشعب اليمني يواجه أقسى حالات الموت والامراض والمجاعة التي راح ضحيتها مئات آلاف من الأطفال جرّاء هذه الحرب الظالمة والمتعسفة . وهم في حالة سكوت وابتهاج، لا حقوق انسان ولا حقوق حيوان ولا هم يحزنون والسبب لأنهم ببساطة ينظرون لهذه الشعوب هم أدنى من ذلك بكثير .
المعروف بين الباحثين المتخصصين من ذوي اليقظة والتحليل: أن الدول الغربية بما فيها أمريكا تكمن ورائها الدولة العميقة ألا وهي الماسونية العالمية، التي واحدة من أهدافها الخبيثة هي محاربة الاسلام بكافة أشكاله وتمزيق المسلمين، وجعلهم يتقاتلون فيما بعضهم البعض، ثم إنشاء مجاميع إرهابية متطرفة تحت غطاء الاسلام كي تسقط الاسلام بنفس أدوات الاسلام، ومن ثم استغلال ثرواتهم وخيرات بلدانهم، التي تتم من خلال زرع الرؤساء والحكّام العملاء والخونة في هذه البلدان، وهولاء الرؤساء بالأصل هم عبارة عن شخصيات فاسدة ودكتاتورية عميلة، يسلطونها على الشعوب المسكينة كي تمارس عليهم مختلف ألوان الاستبداد والفساد والجور، وإذا انقضت مهمتهم المحددة أو استشعروا أن وجودهم لا يخدم مصالحهم، اسقطوهم وجاء وا بغيرهم . حتى رؤساء دول الغرب فهم بالحقيقة عبارة عن دمية بيد الدولة العميقة الخفية التي تسيطر على العالم، وهذه الدولة ورائها شخصيات مليارديراتية ممولة لكل المنظمات والدول والزعماء في العالم الذين يخدمون مصالحها وسياستها وأهدافها، وكما قلت آنفاً الغاية هي الاطاحة بالاسلام والسيطرة على ثروات الشعوب، من خلال نشر الالحاد والاباحية والفساد الذي يخدم مصالحهم .
ولذا يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري وهو الخبير المتخصص في هذا الشأن:
"ببساطة شديدة أدركت أن "التقدم الغربي" هو ثمرة نهب العالم الثالث، وأن الحداثة لا يمكن فصلها عن عملية النهب هذه ، وأن نهضة الغرب تمت على حساب العالم بأسره .."[رحلتي الفكرية ص١٧٥]
ولذا ليس بغريب على دولة السويد الأوروبية أن تقوم بحماية هذا الرجل المنحط والمتهتك الذي قام بتمزيق مصحف القرآن وسب النبي يوم عيد الأضحى المبارك .العتب ليس على هولاء، فهولاء لا يستحقون الخطاب أصلا،ً إنما العتب على الشعوب الاسلامية كيف لا تقطع علاقتها مع هذه الدولة المنتهكة لمقدسات الاسلام بوقاحة، ومن ثم القيام بإغلاق سفاراتها في كل مكان، احتجاجاً وغضباً لحرمة القرآن والنبي صلى الله عليه وآله وهي تنتهك بيد من هم اتعس وأشر من البهائم والحيوانات. وهذا ما يحسب لشعبنا العراقي الأبي إذ قام بطرد سفيرهم والاحتجاج أمام السفارة السويدية، والتنديد بهذا الفعل الاجرامي الشنيع الذي بكل تأكيد يعكس صرامة الموقف المشرف، والغيرة المنتفضة للدفاع عن حرمة القرآن والاسلام .
|