-1- عندما غادرني الصمت
ـــــــــــــــــــــــ
كان رأسي الصغير يحاول أن يختبئ في النعاس لكن نوافذ الذكريات المشرقة كالبلور ودقات الأيام ، على أرضي الخصبة. .. طوقتني.. متشحة بعالم بعيد .. بعيد.. فهيأتُ نفسي ، لالتقاط خيوط من الألوان.. الأخضر أولاً، والبنفسج ثانيا
لأقطع درب الليل، وأنسج عطر التأملات (فالأبداع يبدأ بالتأمل).. وأجمع الكلمات المتناثرة على شفاه المد.. والجزر...! لأنّي أمتلك إحساساً ثرّاً .. برئة من الصدق ،ويقظة لن تغيب سأعبر جسور الأعوام مع ظلال القرى النائيات </p>
-حياة كالياسمين
ولد الشاعر محمد علي آل إسماعيل البصري التميمي في قرية الحمزة احدى قرى قضاء أبي الخصيب في عام -1924- القضاء الذي أنجب الكثير من أعلام الفكر والأدب واللغة والتاريخ ، كما أنجب الأطباء والمهندسين والفنانين ولا يخفى ذلك على الجميع ، فأنّ التجديد في الشعر العربي أنطلق من هذه الأرض الخصبة على يد رائد حركة التجديد بدر شاكر السياب ، فالسياب يعدّ وجوداً شعريّاً كبيراً ، ومؤثّراً وشاعرنا محمّد علي هو صديق السياب ، وإذا كان السياب كثير التنقل والسفر، لهذا السبب، أو لسبب آخر، فأنّ محمّد علي إسماعيل قد قضى كل حياته في العراق .
اهتمّ محمّد علي منذ صباه بالأدب ، وحفظ الشعر ، فقد درس على يد والده الذي كان إماماً لمسجد قريته ( الحمزة ) ، كما كان شاعرا وأديبا ، وأرسله ايضا الى الملا(الكتاتيب) لكي يتعلم قراءة القرآن الكريم و يجيد مبادئ الكتابة ، بعد كل هذه المرحل التمهيدية التحق محمد علي بمدرسة (السبيليات الأولية) ، وفجأة وجد مدير المدرسة السيد طعمة الحمداني أنّ محمداً يجيد القراءة فنقله من الصف الاول، الى الصف الثاني ،وبعد أن أنهى دراسته في مدرسة (السبيليات) التحق في المدرسة المحموديّة الابتدائية ، ليكمل دراسة الصفين الخامس والسادس الابتدائي ، وفي المحمودية تعرّف على بدر السياب الذي جاء من مدرسة (باب سليمان الابتدائية الاولية) وقد توطدت العلاقة بينهما بسبب حبهما للأدب وقد استمرت هذه العلاقة الطيبة بينهما حتى آخر عمر السياب.
لقد حصل محمد علي على الشهادة الابتدائية سنة 1939 ، ثمّ التحق بثانوية ( العشار) في مركز مدينة البصرة ، وكان معه بدر شاكر السياب وأسماء لها دور كبير في الثقافة ، ففي هذه المرحلة بدت عليه مخايل تقدمه ومواهبه الشعرية ،و في الثانوية راح يصقل موهبته بتوجيه من أساتذته وأسرته ومحيطه ، فقد فتحت المدرسة له نافذة واسعة ، فشارك مع زملائه في مسابقات ومهرجانات أدبية ، وما إن تخرج في الثانوية سنة 1944،حتى التحق بدار المعلمين العالية ( كليّة التربية حاليا) بجامعة بغداد وحصل على الليسانس ( البكالوريوس حاليا) سنة 1948 ،وبعد تخرجه عين مدرساً للغة العربية في لواء(محافظة) العمارة (ميسان) حيث انتقلت معه عائلته وسكنت هناك ، واستمر بالتدريس في العمارة لمدة سنة ونصف، بعدها تعرض للفصل من وظيفته لأسباب سياسية ، فعاد مع عائلته الى البصرة والى قريته الحمزة وبالوقت نفسه تعرض زميله السياب للفصل من الوظيفة ايضا ، وبعد فصله اشتغل محمد علي بأجور يومية في معسكر الشعيبة في البصرة ، وكان الشاعر خالد عبدالعزيز الشواف صديقا للشاعر محمد علي وكان والد خالد قاضيا في البصرة ، ثم انتقل الى بغداد فسعى بجد هذا القاضي ( والد خالد) لإعادة محمد علي إلى وظيفته ، وتمت إعادته الى الوظيفة مدرسا في ثانوية أبي الخصيب ( ضمن ملاك مديرية معارف البصرة( التربية حاليا) وأعديت اليه حقوقه كلها، ثمَّ عين مديراً لأكثر من ثانوية ، ولم يكتف بشهادة دار المعلمين، فسعى للحصول على شهادة أكثر تخصصاً ، فحصل على شهادة (دبلوم التربية ) من الجامعة الأمريكية في بيروت عام 1955.
من المدارس التي درّس فيها محمد علي متوسطة أبي الخصيب( صارت في ما بعد ثانوية ) وكان معه في تلك الأيام الشاعر سعدي يوسف مدرساَ للغة العربية أيضاً . وقد أصبح الشاعر مشرفاً اختصاصيّاً للغة العربية سنة 1965وكان يجيد اللغتين الفرنسية والإنكليزية ، وقد أحيل على التقاعد سنة 1987
لم يكن بعيداً عن السياسة ، فقد شارك في مظاهرات كثيرة ، ومسيرات ، فكان نشاطه ، سببا لفصله لمدة سنتين مع زميله الشاعر بدر شاكر السيّاب في الحكم الملكي .
محمّد شاعر تكتّم على ما كتب من شعر إلاّ ما أنشده هنا أو هناك في مناسبات دينية ، أو وطنيّة ، ولم ينشر الشاعر قصائده باستثناء قصيدة نشرها في جريدة المرفأ البصرية بالعدد (49) سنة (1978)
ممّا لا شكّ فيه أنّ محمداً يمكن عدّه موسوعة علميّة فمنها ما كان في التاريخ ، والجغرافية والاجتماع والأنساب ، ومنها ما كان في اللغة والشريعة والفقه ،والأدب والشعر وأثر البيئة ، والرياضة والاقتصاد والمعاملات وفن المقام أو في موضوعات شتى ، وكان خاروصا ً مؤتمنا ً على حقوق الناس، وهو فوق كل ذلك مدرس أعطى الدرس حقّه .
أسرته من الأسر العريقة , والده علم في الدين واللغة والأدب، وكان لمحمد أخوة ولعلّ من أبرزهم السيد عبدالعزيز والد الدكتور الطبيب سعود عبدالعزيز وكان عبد العزيز هاوياً للرياضة وهو ضمن فريق قضاء أبي الخصيب للكرة الطائرة ، وأخوه الآخر ملا حسين ( إمام جامع ) في قرية الحمزة ، وهو والد علي وهاشم وابراهيم وأحمد وسامي ورسميّة وأخوا ت رسمية، وقد استشهد هاشم وهو في أداء واجبه العسكري ، وابراهيم تزوّج همسة بنت عمّه محمد علي وهو مهندس معروف ولكنه انتقل إلى جوار ربّه وبقيت (همسة) بحالة صمت بانتظار ابراهيم الذي يأتي طيفاً رحمة الله عليه .
لقد تزوّج محمّد علي من أبنة الحاج عمر وهو يعدّ واحداً من أعلام أبي الخصيب , وكان خطيب مسجد ، شيخاً مجتهدا ً، وفي المسجد مكتبة ضخمة فيها من الكتب ما يثري القارئ ، وقد قرأ في هذه المكتبة الكثير من أهالي أبي الخصيب ، ولعل من أبرز هؤلاء الشاعر سعدي يوسف الذي قرأ فيها (رسائل أخوان الصفا) .
لمحمّد علي أبناء ومن المبرزين منهم الشاعر قاسم محمد علي الذي يعمل حاليا في الصحافة ، وابنه الآخر خالد وهو مهندس ، وعمر دبلوم كهرباء ،وأبنته همسة التي مرّ ذكرها في السطور السابقة ، وهي مدرسة ، وقد كانت لهمسة محاولات أدبية وهي طالبة في الإعدادية . ولكنّها صمتت، زمنا طويلا، ولم أعرف سبب صمتها ،ولكنها فجاءتنا في هذه الأيام بكتابها(حنين) الصادر عن مطبعة البصرة الأهلية ، والكتاب سيرة ذاتية ،عن ذكرياتها في أبي الخصيب ، في مرحلتي الطفولة والشباب, ومن بنات محمد أيضا، خلود وهي مدرسة ،وسوسن وهي ربة بيت.
كتب محمد علي القصيدة العمودية ، وتقلّب بين عديد من الأغراض والمقاصد الشعريّة ، والقرآن الكريم من أكبر الروافد التي جعلت من محمد علي شاعراً ، فقد أعانه القرآن الكريم ، على قول الشعر وإجادته ، والرافد الآخر حفظه للشعر ، ولكن للقرآن عند محمد احتفاء كبير واحتفال، فقد كان كثير التلاوة له عميق النظر فيه ، وهذا الاحتفاء بكتاب الله ، يرجع بدواعيه وأسبابه إلى بيئته وأسرته ففي البيت كان والده أولا ً، فهو رجل فقه ولغة ودين ، وفي شبابه كان للحاج عمر والد زوجته الدور المميّز في استمرارية محمد علي بقراءة القرآن الكريم.
حين يقرأ محمد علي القرآن الكريم يرتّله ترتيلاً منغّماً جميلاً ،لأنّه يتّجه إليه بقلبه وروحه ، ويحسّ له في نفسه وقعاً عجيباً ، وأثرا ً بعيدا ً ، فيهزّه إعجازه هزّا ً، وتفعل بلاغته فعل السحر، وأكثر فيه ، ويستولي عليه خشوع عميق ، يصرفه عن كل ما يحيط به، وقد قرأ محمد ، وأطلع اطلاعا ً واسعا ً على المآثر الأدبية الرفيعة من قديمه وحديثه ، إلى جانب القرآن الكريم والحديث النبويّ الشريف.
إنّ محمداً رجل مؤمن إيمانا عميقا ً صادقا ً بالله جلّ جلاله ، ولقد عبر عن حبّه العميق للنبيّ الأكرم (ص) وآل بيته عليهم السلام وأصحابه البررة ، ونجد بين قصائده قصيدة كتبها الشاعر بمناسبة مولد الإمام الحسن بن علي عليهما السلام وقد ألقاها الشاعر في حفل كبير في البصرة ، ونالت إعجاب السامعين والقارئين معا ً.
إن إيمان محمد علي بالله وبالإسلام بعيد المدى فالإسلام عنده دستور حياة ، لذلك أصبح له مسجد ، ليؤكد إيمانه الواسع ، فالقرآن الكريم شريعة كاملة للاستقلال ، وآياته أصول ثابتة للحريّة ،والكرامة والإباء والعدل .
كان له مصحف صغير لا يخلو منه جيبه تبركا ً ، من جهة ، وليكون في متناول يده من جهة أخرى ، فلّما توفاه الله ، كان ذلك المصحف الشريف تحت وسادته .
للشاعر قصائد .. وقصائد ولكنّه لم ينشرها , وفي أحد الأيام قبيل وفاته صادفته ، وكان صباح يوم جمعة ، مشينا معاً باتجاه شارع الكويت في العشار . لأنّه كان قاصدا ً جامع( الخضيري) ليصلي فيه ، فتحدثنا كثيرا ً، وقبل أن نفترق دار هذا الحوار ٌ
- أين أنت .. ؟
- ما مضى فات - والشعر ..؟
- فات الأوان ، يا عزيزي ، إنّ أغلب قصائدي مرّ عليها الزمن ، وهي قصائد الشباب ، ولم تعد صالحة للنشر في هذا العمر ، وأنا رجل كبير ومؤمن .
صدقت يا أبا القاسم - شكرا لك أنت َ ، أتعرف يا حامد ، كنت ُ أنادي ( ولدي قاسم ) بـ (القاسم ) كما نطقته أنت َ قبل قليل ، وهذه الـ ( أل ) التحلية وليست أل التعريف ، وهي ليست غريبة عليك ، أكيد أنت نطقتُها لأنك تعرفها ، فأنا أعرف علمك وموهبتك ، كما أعرف أسرتك فردا ...فردا.
شكراً لكم هذا من طيبتكم وحسن ظنكم
مرة أخرى أقول للشاعر قصائد .. ومن قصائده المميزة قصيدة ( داليّة ) بـ (39) بيتا في ذكرى صديقه بدر شاكر السياب ، تمجد حضوره الشعري الكبير ، كما له قصيدة عن عمتنا ( النخلة ) تحتشد فيها الصور الموحية الجميلة .
3- الساعة الأخيرة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السكون يخيم على غرفته
كانت غاصة بالأهل.. بالأصدقاء .
لا موضع لقدم .
والمرآة المعلقة على الجدار كسّرت نفسها شيئا ..فشيئا ، وفي أعماقها صدى.. يزدهي بالبكاء.. محمد علي ممّدد على السرير
وقد ضــــاق به الانتظار.. يحاول أن يهرب من هذه الجدران ..وأن يتسّرب من الحياة
فجأة.. إرتجّ.. وفتح فمه :- - ولدي تعال
اقـترب ، منه ولــده قاسم.. احـتوى كـتفيه ، نظر، نظر في عينيه.. و.. .. وداعاً .. وحلقت روحه تعانق الأبدية..! فيh; الخبر
في الطريق الضيق الصغير بقريتنا ،
أصغيت لصوت الريح.. تواريت.. بين أغصان الشجر. وأنا في رحلتي.. جاء الخبر..:- - قد مات محمد علي غصّ حلقي بدموعي.. وارتفعــت عيناي.. تجوبان صفحة السماء وقلبي يدق، ويكتب مرثيـــة للرحيل . الوصية أقسم عليك ، ببراءة الطفولة.. ببريق النجوم وأنت راحل يا محمد تشبث بذكرياتك مع السياب.. وحملق فيها كثيراً، دونما أنْ تحول عينيك عنها فهي التي جعلتك بدراً.. على طريقتك الخاصة
وجعلتك شاعراً.. أقسم عليك- وأعرف حقا
سوف تتّسع عيناك
.وتختلط فيهما تعبيرات متضاربــة ،
ومختلفة تماماً ..
لا بأس يا محمد..
سترى السياب متجذرا هناك
ربّما مصادفة , وعلى غير ما موعد
ولا انتظار.. ستراه منتصبا أمامك ،
وســيرحّب بك كثــيرا ويسألك عن ظلال قصائده..
فتشبث به ثانية.. وردد صداه
.. لكي لا تقبض يدك على الهواء..
.. ولا تنأى غصون الزمان الأليف..
ولتكون يا محمـــد ..موضع القصيدة المتوهجة
أسمعت يا محمد..؟
فالريــح تصفر في ضلوعي..
خذ حنيني..
واليك ..يا نهر العلم الذي نهل منه الكثيرون.. والى السّياب صديقك الشاعر المجدّد ...
مني أنا، ومن أبي الخصيب ، ألف تحية وسلام . ..... ورحمك الله أيّها الأنسان المفضال ..!!!
|