بسم الله الرحمن الرحيم
عاشوراء..
هو يومٌ أبكى العيون.. قبلَ حُلُولِه!
لسنا نتحدَّث هنا عن بكاء الأنبياء والأولياء.. وملائكة الله المقرَّبين.. على الحسين عليه
السلام، وإن بكوه قبل ولادته!
بل نعني ساعة ولادة سيد الشهداء عليه السلام..
ساعةٌ يدخلُ فيها النبيُّ صلى الله عليه وآله على بضعته الطاهرة ليهنئها به.. فلا يكتفي
بالتهنئة.. بل يعقبها بالتَّعزية!
تقول الرواية: فَبَكَتْ فَاطِمَةُ (ع) (كمال الدين ج1 ص284).
مُذ ذاك.. صارت أفراحُ آل محمدٍ ممزوجةً بالبُكاء والدُّموع! مقرونةً بالحُزن والألم!
مُذ نزل جبرائيل يهنئ النبي صلى الله عليه وآله عن الله تعالى، ثم يعزِّيه! ومعه الملائكة
الروحانيون!
مُذ ذاك.. لم يعد بمقدورنا أن نحصي المرات التي هطلت فيها الدموع على الحسين عليه
السلام.. قبل عاشوراء.. ويومها.. وبعدها!
لطالما بكاه النبيُّ وأبكى من حوله.. طيلة حياته.. وبكاه الآل الأطهار..
ثمَّ جاء دورُه عليه السلام بالبكاء! في يوم عاشوراء!
فبكى أهلَه وأصحابَه..
يكفي بكاؤه على الرضيع.. عندما كان يتلظّى عطشاً.. فقال للقوم: يا قوم، إن لم ترحموني
فارحموا هذا الطّفل! فرماه رجلٌ منهم بسهمٍ فذبحه، فجعل الحسين يبكي ويقول: «اللّهمّ
احكم بيننا وبين قومٍ دعونا لينصرونا فقتلونا» (تذكرة الخواص ج2 ص164).
لكنَّ بكاءه على الأكبر كان أعجب.. فلئن كان بكى الرضيعَ بعد ذبحه، فقد بكى على عليٍّ
الأكبر قبل شهادته.. مُذ بَرَزَ للقوم!
لَمَّا بَرَزَ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنَ إِلَيْهِمْ أَرْخَى الحُسَيْنُ صلوات الله عليه وسلامه عَيْنَيْهِ فَبَكَى، ثُمَّ قَالَ:
اللَّهُمَّ كُنْ أَنْتَ الشَّهِيدَ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ بَرَزَ إِلَيْهِمْ غُلَامٌ أَشْبَهُ الخَلْقِ بِرَسُولِ الله صلى الله عليه
وآله (مقاتل الطالبيين ص77).
هل بكى الحسينُ ولده عليّاً لحبِّه إياه فقط؟! أم لشباهته بالنبيِّ أيضاً؟ أم أنَّ الحسينَ كان يبكي
النبيَّ صلى الله عليه وآله؟! وما فعلت أمته بعترته من بعده.. أم يبكي لكلَّ ذلك وغيره؟! هذا
ما يعلمه الله تعالى.
لقد كان الحسينُ يبكي أولاده.. وكان الأولاد يبكون حُسيناً!
فها هما الفَتَيان الجابِرِيَّان قد أتيا حسيناً وهما يبكيان.. ولما سألهما عن بكائهما قالا:
جَعَلَنَا الله فِدَاكَ! لاَ وَالله مَا عَلَى أَنْفُسِنَا نَبْكِي، وَلَكِنَّا نَبْكِي عَلَيْكَ!! نَرَاكَ قَدْ أُحِيطَ بِكَ وَلاَ
نَقْدِرُ عَلَى أَنْ نَمْنَعَكَ! (وقعة الطف ص234).
أيُّ فِتيانٍ هؤلاء الذين لا يبكون على أنفسهم.. بل على إمامهم!
فتيانٌ يصيبهم الوَجدُ على سيد الشهداء قبل شهادته! ويفدونه بأنفسهم، فيُجَزِّيهم خيراً.
ثمَّ يبكي الحسين مراراً وتكراراً..
لقد بكى بكاءً شديداً.. لمّا: اقْتَطَعُوا الْعَبَّاسَ عَنْهُ، وَأَحَاطُوا بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى قَتَلُوهُ قَدَّسَ
الله رُوحَهُ، فَبَكَى الحُسَيْنُ (ع) لِقَتْلِهِ بُكَاءً شَدِيداً (اللهوف ص118).
كانت دموع الحسين أطهرَ دُمُوعٍ تعرفُها أرضُ كربلاء يوم عاشوراء..
قابَلَتهَا دموعٌ خَبيثَةٌ قذرةٌ.. إن صَحَّ نزولها!
تلكُ دموعُ أعدائه! وقَتَلَتِهِ!
فقد روي أنَّ زينب خاطبت ابن سعدٍ قائلةً: يا عمر، أيُقتَلُ أبو عبد الله وأنت تنظر؟! فبكى!
وانصرف بوجهه عنها! (جمل من أنساب الأشراف ج3 ص409).
كانت هذه الدُّموع الرخيصة دموع مَن شَرِكَ في قَتلِ الحسين! وقد نزلت قبل قتله!
كان هذا الباكي اللَّعين قادراً على الذَّبِّ عن الإمام عليه السلام! لكنَّه كان شريكاً ومُشارِكاً
في قتله!
يا لها من دموعٍ خبيثةٍ قَذِرَةٍ.. لا يدانيها في السُّوء والقبح إلا دموع يزيدٍ عليه لعائن الله.. إن
صحَّ نزولها أيضاً..
دموعٌ أراد منها يزيدُ أن يبرئ نفسه..
أو أراد مَن نسبها له تبرئته.. وهو أخبث خلق الله..
فلقد رووا أنَّ قائلهم أخبر يزيد بما فعلوا في كربلاء.. قائلاً عن شهداء العترة الطاهرة: فأتينا
على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مطرحةً مجردة! وخدودهم معفّرة! ومناخرهم مرمّلة! تسفي
عليهم الريح ذيولها! ..
قال: فدمعت عينا يزيد. وقال: كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين!! وقال: كذلك
عاقبة البغي والعقوق! (الطبقات الكبرى ج1 ص486).
لقد أراد هؤلاء الخبثاء تبرئة يزيد.. لكنَّهم نقلوا في النصِّ نفسه أنَّه نسب للحسين عليه
السلام البغي والعقوق! ثم نقلوا بأنفسهم أنَّه: قال بالخيزرانة بين شفتي الحسين!! وأنشأ يقول:
يفلقن هاماً من رجالٍ أعزّة * علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما!
ما كان يزيدُ بريئاً كما زعموا.. فهو الذي أرسل إلى الوليد بن عتبة: أمّا بعد، فخذ الحسين بن
علي و... أخذاً عنيفاً ليست فيه رخصة، فمن أبي عليك منهم فاضرب عنقه وابعث إليّ
برأسه! (الفتوح لابن اعثم ج5 ص10).
ثمَّ أرسل إليه كتاباً آخر.. قال فيه: وليكن مع جوابك إليّ رأس الحسين بن علي! فإن فعلت
ذلك فقد جعلتُ لك أعنّة الخيل، ولك عندي الجائزة والحظّ الأوفر (الفتوح لابن اعثم ج5
ص18).
لذلك يميِّزُ المؤمنُ الكَيِّسُ:
1. بين دموعٍ إن سالت فعلاً كانت دموعاً خبيثة شيطانية قَذِرَة..
2. وبين دموعٍ يُسيلُها الله تعالى من عيون أحباب الحسين عليه السلام..
نعم.. الله تعالى هو الذي يُسيلها..
ألا يقول المؤمن عند وداع سيد الشهداء: وَأَسْأَلُ الله الَّذِي أَبْكَى عَلَيْكَ عَيْنِي أَنْ يَجْعَلَهُ سَنَداً
لِي (كامل الزيارات ص254).
فإبكاء العين كان بتوفيقٍ من الله تعالى.. فهو الذي خلق المؤمنين من فاضل طينة الأطهار..
لعلمه بِحُبِّهِم لهم.. وطاعتهم لربهم.. وهو الذي وفَّقهم لهذه الدمعة..
فليس بكاء المؤمن كبكاء الخبثاء.. بل هو بكاء الرَّحمة والمودة، الذي يكشف عن عميق
معرفةٍ بالإمام، واستعدادٍ لوقايته بالنفس..
يقول المؤمن في زيارة سيد الشهداء:
السَّلَامُ عَلَيْكَ، سَلَامَ الْعَارِفِ بِحُرْمَتِكَ، المُخْلِصِ فِي وَلَايَتِكَ، المُتَقَرِّبِ إِلَى الله بِمَحَبَّتِكَ،
الْبَرِيءِ مِنْ أَعْدَائِكَ، سَلَامَ مَنْ قَلْبُهُ بِمُصَابِكَ مَقْرُوحٌ، وَدَمْعُهُ عِنْدَ ذِكْرِكَ مَسْفُوحٌ، سَلَامَ
المَفْجُوعِ المَحْزُونِ، الْوَالِهِ المُسْتَكِينِ.
سَلَامَ مَنْ لَوْ كَانَ مَعَكَ بِالطُّفُوفِ لَوَقَاكَ بِنَفْسِهِ حَدَّ السُّيُوفِ، وَبَذَلَ حُشَاشَتَهُ دُونَكَ
لِلْحُتُوف..
وهكذا يتقرَّح قلبُ المؤمن، وتسيلُ دموعُه في كلِّ عامٍ على الحسين.. كما سالت دموع
الأئمة الأطهار دهراً طويلاً..
فهذا السجاد عليه السلام: بَكَى عَلَى أَبِيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، صَائِماً نَهَارَهُ وَقَائِماً لَيْلَهُ! فَإِذَا حَضَرَ
الإِفْطَارُ جَاءَ غُلَامُهُ بِطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ..
لكنَّه ما كان يتهنَّأ بالطعام والشَّراب، بل كان:
يَبْكِي حَتَّى يَبْتَلَّ طَعَامُهُ مِنْ دُمُوعِهِ! ثُمَّ يُمْزَجُ شَرَابُهُ بِدُمُوعِهِ! فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى لَحِقَ بِالله
عَزَّ وَجَلَ (اللهوف ص209).
ما أعجب حال السَّجاد.. وبكاءه العجيب..
بكاءٌ سمعه مَوَاليه مراراً.. وهذا أحدهم.. الذي لطالما رأى: لِحْيَتَهُ وَوَجْهَهُ قَدْ غُمِرَا بِالمَاءِ مِنْ
دُمُوعِ عَيْنَيْهِ!
أشفق هذا المولى على إمامه.. فخاطبه قائلاً: أَ مَا آنَ لِحُزْنِكَ أَنْ يَنْقَضِيَ؟! وَلِبُكَائِكَ أَنْ يَقِلَّ؟!
قال عليه السلام:
وَيْحَكَ، إِنَّ يَعْقُوبَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ كَانَ نَبِيّاً ابْنَ نَبِيٍّ، لَهُ اثْنَا عَشَرَ ابْناً، فَغَيَّبَ الله
وَاحِداً مِنْهُمْ فَشَابَ رَأْسُهُ مِنَ الحُزْنِ! وَاحْدَوْدَبَ ظَهْرُهُ مِنَ الغَمِّ، وَذَهَبَ بَصَرُهُ مِنَ البُكَاءِ!
وَابْنُهُ حَيٌّ فِي دَارِ الدُّنْيَا.
وَأَنَا رَأَيْتُ أَبِي وَأَخِي وَسَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي صَرْعَى مَقْتُولِينَ!
فَكَيْفَ يَنْقَضِي حُزْنِي وَيَقِلُّ بُكَائِي؟! (اللهوف ص210).
ما انقضى حُزنُ السجّاد أبداً، وهو الذي عايَنَ الواقعة، ورأى ما لم نرَ..
ما انقضى كذلك حزن الأئمة حتى آخر حياتهم.. إذ كان أحدهم كلَّما ذَكَرَ الحسين بكى..
وكلَّما شَمّ تربته بكى.. وكلَّما أنشدوه شعراً فيه بكى..
وما انقضى حُزن الشيعة، ولا جفَّت دموعهم على يوم الحسين..
وكيف ينقضي الحُزنُ على يومٍ مات فيه الحسين.. وماتت معه فيه أمُّه! وأبوه وأخوه..
وجدُّه! فهو البقية الباقية منهم..
أما قالت زينب عليها السلام للحسين عليه السلام ليلة عاشوراء:
اليَوْمَ مَاتَتْ أُمِّي فَاطِمَةُ! وَأَبِي عَلِيٌّ وَأَخِي الحَسَنُ! يَا خَلِيفَةَ المَاضِي وَثِمَال البَاقِي (الإرشاد
ج2 ص93).
إنَّها أيام الدموع الغزيرة.. والبكاء الطويل.. يشتركُ فيه المؤمنون مع ملائكة السماء..
يقول الصادق عليه السلام:
قَدْ طَال بُكَاءُ النِّسَاءِ، وَبُكَاءُ الأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ، وَمَلَائِكَةِ السَّمَاءِ! (كامل الزيارات
ص82).
لقد كان إمامُنا الصادق إذا ذكر الحسين عليه السلام، وبكاء أمّه فاطمة عليه، لا يقدر على
الكلام من البكاء! (كامل الزيارات ص83).
ولقد كان الملائكة ينشغلون عن التسبيح عند بكائهم على الحسين!
فلقد كان بكاء فاطمة يبكي أهل السماوات! كما عن النبيِّ صلى الله عليه وآله:
يَا بُنَيَّةِ قَدْ أَبْكَيْتِ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَشَغَلْتِهِمْ عَنِ التَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ! (كامل الزيارات
ص87).
فلا عجبَ أن يشتغل المؤمنون بالبكاء في عاشوراء!
لا عجب أن يُخَصِّصُوا وقتاً كلَّ يومٍ تُستَدَرُّ فيه الدُّموع..
لا عجب أن تطول أيام البكاء والنَّحيب..
إنَّما العجبُ كلُّ العجب أن لا يُبكَى الحُسينُ في أيامه.. وأن لا تُذكر ظلامته.. وأن لا يُحيا
ذكره..
العجبُ كلُّ العجب من الإعراض عن ظلامته.. ونهجه.. وهدايته..
العجبُ كلُّ العجب ممَّن يزعم أنَّ قلبه مع الحسين.. ويده ليست معه!
أجارنا الله منهم.. وجعلنا من أهل البكاء والعزاء عليه.. وعجل في فرج وليه المنتقم له.
وإنا لله وإنا إليه راجعون
ليلة الأحد، الليلة الرابعة من محرم 1445 هـ، الموافق 22 – 7 – 2023 م
|