اهتم الباحثون بسيرة أهل البيت)ع(، وكتبوا حولهم الكثير من الجوانب التاريخية والعقديية والسياسية، ولكنهم لم يتطرّقوا للرؤية الكونية وهدفية الخلقة من حديث الكساء. وهنا نتوقف على هدف الخلقة ومعرفة الإنسان الحقيقي الذي أراده الله ليكون خليفة له من خلال ما جاء في الآيات والروايات. يقول تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ). وفي حديث الكساء نرى أنّ هدفيّة الوجود بتمامها قد تلّخصت في محبّة محمد وآله(ع) كما في قوله: (..ماخلقتُ سماءً مبنية ولاأرضاً مدحية...إلاّ لأجلكم ومحبتكم).
عُرّف مصطلح الرؤية الكونيّة باسم بديهيّات العالم، بمعنى تأمّل العالم الراجع إلى الإحساسات. لٰكنّ ذهب (شيلنغ) إلى أن هٰذا الاصطلاح يرجع إلى الوعي والمعرفة غير الحسّيّة . فكلّ مدرسة فكريّة أو عقيدة يتبنّاها الفرد تقوم على أساس نظرته وتفسيره للكون والعالم من مبدئه إلى منتهاه. وهذا الأساس يُصطلح عليه ب"الرؤية الكونيّة". فالرؤية الكونية هي: مجموعة من المعتقدات والنظرات الكونية المتناسقة وحول الكون والإنسان والوجود بصورة عامة. وعلى ضوء هذا المعنى، يمكن أن يعتبر النظام العقائدي والاصولي لكل دين هو رؤيته الشاملة . ومن أقسام الرؤية الكونية عند الشيخ مصباح اليزدي: (الرؤية الكونيّة الدينيّة)؛ ويقصد بالدين مجموعة العقائد والمسائل الأخلاقية والأحكام والقوانين الفردية والإجتماعية، والتي تمثل المسائل الموحى بها من المساء ومنزلة بواسطة (السبيل) على الأنبياء، وهو مايقصد به الرؤية الكونيّة الدينيّة المنتهية إلى الوحي الإلهي . وحياة الإنسان لا يمكن أن تتّسم بالطابع الإنسانيّ ما لم تكن مستندةً على رؤية كونيّة واقعية وإيديولوجيا سليمة.
إذن ما الغرض من الخلقة في القرآن وحديث الكساء؛ لتتّضح لنا الرؤية الكلية الشاملة لفلسفة الحياة؟ يعتقد الإمامية أنّ الله خلق الأشياء كلها من أجل الإنسان، بدليل ما جاء في قوله: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ)، وخُلق الإنسان من أجل تكامله، فخُلقنا من الرحمة الإلهية ونشأنا بالرحمة، ونرجع بالعلم والعبادة إلى رحمته تعالى، وبالتالي تكون فلسفة الحياة هي التكامل. ولمّا كان الله هو الكمال المطلق فمقتضى ذلك أن يتجلّى في صفاته وجماله وجلاله، ويظهر في علمه وقدرته، فورد في الحديث القدسى: (كنتُ كنزا مخفيا فاحببت أن أُعرف...) ، فخلق الخلق ليظهر قدرته، والخلق مظهر لأسماء الله وصفاته. وإنّما يقف على كُنه هذه الحقيقة وسّرها الأنبياء والأوصياء. فأهل البيت هم حملة الأسرار وأعرف بالله تعالى. والله خلق الكائنات وما في الطبيعة من أجل الإنسان، وخلق الإنسان من أجل الله، فهو خليفة الله في الأرض (...جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً). يقول العلامة في تفسيره: والخلافة لاتتم إلّا بكون الخليفة حاكيا للمستخلف في جميع شئونه الوجودية وآثاره وأحكامه وتدابيره بما هو مستخلف.
والقرآن يُلخّص فلسفة الحياة في قوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) ومن خلال الرجوع للتفاسير والنصوص الدينيّة نتعرّف على هدف الخلقة ومعرفة الإنسان الحقيقي. عن الصادق(ع) في قوله: (إلاّ ليعبدون) أي إلا ليعرفون، أي أنّ العبادة لا تتم ولا تصح إلاّ بعد المعرفة. وجاء في تفسير الميزان «إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» فالعبادة غرض لخلقة الإنسان وكمال عائد إليه، هي وما يتبعها من الآثار كالرحمة والمغفرة وغيرها . ولا تتم العبادة والخضوع لله إلّا بامتثال أوامره.
وعند التامل في مضامين حديث الكساء ندرك غاية الكون وهدفية الوجود قد تلخّصت في محبة محمد وآله(ع)، عندما قال(ص): (اللهم إنَّ هؤلاء أهلُ بيتي وخاصتي... لحمهم لحمي وَدمهم دَمي يؤلمني ما يؤلمهم ويحزنني ما يحزنهم... وهبوط جبرائيل بقوله: العليّ الأعلىٰ يقول لك: وعزتي وجلالي إني ما خلقتُ سماءً مبنية ولا أرضاً مدحية ولا قمراً منيراً ولا شمساً مضيئةً ولا فلكاً يدور ولا بحراً يجري ولا فلكاً يسري إلاّ لأجلكم ومحبتكم...) .
هنا قد يظن البعض أنّ مضامين هذا الحديث لاتتطابق مع القرآن في الوهلة الأولى، ولكن بالتأمّل في الآيات والروايات في حق أهل البيت ومكانتهم لا يوجد أي تعارض. فالحديث يقول: «ما خلقت... إلاّ لأجلكم ومحبّتكم»، وهنا لا نشعر بوجوب عبادتهم، بل معناه أن اللّه لما خلق الناس أراد الإنسان الكامل منهم، ولو لم يرجى من الخلقة الإنسان الكامل المتمثل بأصحاب الكساء لما خلق العالم؛ فهم وعاء مشيئة الله ومظهر إرادته والهدف الذي من أجله قام الوجود، ولولاهم لم تكتمل أهداف النبوة والإمامة.
هناك دليل آخر على انّ الأرض خُلقت لأصحاب الكساء؛ وهو أن الآيات تشير إلى أنّ الغرض من الخلقة هو وصول الإنسان الى أعلى مراحل الكمال والسعادة بسبب معرفة الله وعبادته وإطاعة أوامره، وهذه المعرفة إنّما تحصل بمعرفة أصحاب الكساء ومحبتهم واتباعهم؛ لأنّهم الطريق الوحيد لمعرفة الله معرفةً تليق بجلاله.
وهنا أيضا قد ينقدح إشكال حول كلمة (إلّا) الواردة في قوله (إلّا ليعبدون) التي تدلُّ على الحصر و(إلّا) الواردة في الحديث (إلاّ لأجلكم) التي تدل على الحصر أيضا. فكيف يكون الجمع بينهما؟
أولاّ الآية تتحدث عن العلّة من خلقة الجن والإنس وهي العبادة، وفُسّرتها الأخبار بالمعرفة. والحديث يتحدث عن العلّة التي من أجلها خلق الله السماوات والأرض وما بينهما؛ وهي أصحاب الكساء. إذن علّة خلق الجنّ والإنس مُترتّبة على علّة خلق السموات والأرض وهي في طولها لا في عرضها حتى تتعارضان أو تتقاطعان. وبعبارة أخرى: هنالك علتان غائيتان تندرج احداهما تحت الأخرى: الأولى هي محمد وآله، والثانية هي العبادة أوالمعرفة، فعالم التكوين مخلوق بسبب العلّة الأولى وعالم التشريع مخلوق بسبب العلّة الثانية، فوجود عالم التشريع فرع وجود عالم التكوين، فلا تعارض بينهما. فإذا أردنا أن نفهم قضية خلق الكون والغاية منه على واقعها وحقيقتها كما أراد الله تعالى ودور أصحاب الكساء في تحقيق ذلك؛ علينا أولاً أن تكون تصوراتنا منسجمة مع الفطرة الواقعية والبراهين العقلية التي تؤكد عليها النصوص الدينية.
المصادر:
1. العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج ٨٤، ص ١٩٩.
2. تفسير الميزان، للعلامة الطباطبائي، ذيل تفسير الآية.
3. سمير أبو زيد، العلم والنظرة العربية إلى العالم، ص81.
4. طهارة آل محمد، السيد علي عاشور، ص ١٦٤.
5. مصباح اليزدي، الإيديولوجية المقارنة، ص10.
6. مصباح اليزدي، دروس في العقيدة الاسلامية، ص35.
|