بسم الله الرحمن الرحيم
ذَكَرَ الله تعالى في كتابه الكريم قولَ أعدائه في نَبِيِّه المصطفى صلى الله عليه وآله: ﴿وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾.
ثمَّ عَقَّبَه تعالى بآية حفظ القرآن الكريم: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ (الحجر6و9).
إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله هو سَيِّدُ العقلاء، لكنَّ القومَ اتَّهموه بالجنون كي يرفضوا دعوته، ويسقطوا شخصه ورسالته، وينكروا الذِّكر الذي نزل عليه.. لقد أرادوا إسقاط القرآن أو تبديله أو تحريفه، فَتَعَهَّدَ الله بحفظه.
وقد صرَّحوا بغاياتهم في محلٍّ آخر حين قالوا: ﴿قالَ الَّذينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْه﴾ (يونس15).
هذا حالُ من لا يرجو لقاء الله مع كتابيه: الصامت والناطق..
فالصامت يُرادُ تَحريفُه، أو تغييره وتبديله.
والناطق يُراد قَتلُه، أو إسقاطه وإبطال رسالته..
لذا تعرَّضَ النبيُّ صلى الله عليه وآله لمحاولات اغتيالٍ كثيرةٍ.. فحفظه الله تعالى حتى يؤدي الرسالة كاملةً.
وبعدما أكمل الله الدين للأمّة في يوم الغدير، وأدى النبيُّ صلى الله عليه وآله دوره في ذلك، سُمَّ النبيُّ مُجدَّداً، وانتقل إلى جوار ربه شهيداً..
وكما حَفِظَ الله تعالى القرآن الكريم، ليكون باباً للهداية، وإن ضَيَّعَت الأمَّة حدوده.
كذلك حَفِظَ الله تعالى ذِكرَ النبيِّ صلى الله عليه وآله، وأهلَ بيته، وصانَ لنا من تُراثِهم ما يكفينا حتى ظهور إمامنا، وتتمّ الحجة به لنا وعلينا.
لكن..
كما شاء الله تعالى أن يؤثِّر السُّمُّ في بدن النبيِّ صلى الله عليه وآله.
شاء تعالى أن يُحبَسَ النَّصرُ عن الحسين عليه السلام.
فقُتِلَ سلام الله عليه مظلوماً شهيداً.
ههنا بدأَ صراعٌ من نوعٍ آخر..
فكما حرَّفوا حدود القرآن الكريم، الثِّقل الأكبر الصامت، أرادوا الطَّعن بالقرآن الناطق، بالحسين بن عليٍّ عليه السلام، وبما جرى معه في يوم عاشوراء، وأرادوا إخفاء تلك الجريمة، وطمسَ معالمها، كي يُمحَى ذكرُ الحسين وآل الحسين عليهم السلام.
فَحَفِظَ الله ذِكرَ الحسين عليه السلام بحفظ عاشورائه، مع سعي أعدائه لإطفاء نورها.. فكان ذلك معجزةً سماويَّةً جَليَّة!
لقد قالتها السيدة الجليلة العظيمة، العالمة غير المعلَّمة، زينب بنت علي عليهما السلام، لشرِّ خلق الله، ليزيد بن معاوية.. قالتها كلمةً لا يزالُ التاريخ والحاضرُ يشهدُ بصدقها، وبصدورها عن حَمَلَة علوم السماء..
قالت عندما رأت يزيد ينكت ثغر الحسين الطاهر بقضيبه.. ويُنكِرُ وَحيَ السَّماء على جَدِّها الصادق الأمين صلى الله عليه وآله:
كِدْ كَيْدَكَ، وَاسْعَ سَعْيَكَ، وَنَاصِبْ جُهْدَكَ، فَوَ الله لَا تَمْحُو ذِكْرَنَا! وَلَا تُمِيتُ وَحْيَنَا! وَلَا تُدْرِكُ أَمَدَنَا! (اللهوف ص185).
وفي نصٍّ آخر: كِدْ كَيْدَكَ، وَاجْهَدْ جُهْدَكَ، فَوَ الله الَّذِي شَرَّفَنَا بِالْوَحْيِ وَالْكِتَابِ، وَالنُّبُوَّةِ وَالِانْتِخَابِ، لَا تُدْرِكُ أَمَدَنَا، وَلَا تَبْلُغُ غَايَتَنَا، وَلَا تَمْحُو ذِكْرَنَا (الاحتجاج ج2 ص309).
الصِّراعُ إذاً صراعٌ على الوحي والكتاب، والنبوَّة والإنتخاب.. لقد أعرضوا عن انتخاب الله لهم، فصار الصِّراع على أصول الدين قبل فروعه، صراعٌ على بقاء الكتاب والوحي وأمر الله.. الذي لا يبقى إلا ببقاء الإمام.
ولئن قُتِلَ الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء، وفي أرض كربلاء، فإنَّ الله تعالى قد أخذ ميثاق: أنَاسٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، لَا تَعْرِفُهُمْ فَرَاعِنَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهُمْ مَعْرُوفُونَ فِي أَهْلِ السَّمَاوَات!
يواري هؤلاء أعضاء الشُّهداء المقطَّعة المتفرِّقة! فلقد أراد يزيدُ أن تبقى أعضاء الحسين وأهله وصحبه على أرض كربلاء! وأن تَظَلَّ جُسوُمُهُم مُضَرَّجة بدمائهم دون أن تُدفَن!
لكنَّ الله أخذ العهد من هؤلاء على دفنهم أولاً، وعلى أن ينصبوا لهذا الطفِّ عَلَمَاً لقبر سيد الشهداء..
كان لهذا العَلَم وهذا القبر صفات.. قال عنها الصادق الأمين صلى الله عليه وآله أنَّه: لَا يَدْرُسُ أَثَرُهُ! وَلَا يَعْفُو رَسْمُهُ! عَلَى كُرُورِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ!
ها هي الليالي والأيام تتوالى: ما اندرس الأثر، ولن يندرس، بعهدٍ معهودٍ من رسول الله..
وَلَيَجْتَهِدَنَّ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَأَشْيَاعُ الضَّلَالَةِ فِي مَحْوِهِ وَتَطْمِيسِهِ، فَلَا يَزْدَادُ أَثَرُهُ إِلَّا ظُهُوراً! وَأَمْرُهُ إِلَّا عُلُوّاً! (كامل الزيارات ص262).
ههنا تظهر معجزة السَّماء.. في حفظ عاشوراء..
هذه واحدةٌ من الإخبارات الغيبية لرسول الله صلى الله عليه وآله، وقد شَهِدَهَا القريبُ والبعيد، فلطالما بذل أعداء الله أكبر جهودهم في محو ذكر الحسين، بمحو قبره الشريف، ومنع الناس من زيارته.. فما ازداد أمره إلا علوّاً.. وأيامنا هذه خيرُ شاهدٍ على ذلك..
لقد كان لأعداء الله خططٌ وبرامج، وأساليبُ ماكرةٌ خبيثة، وبذلوا جهداً حثيثاً لطمس معالم عاشوراء وأحداثها بأكملها، كبيرها والصغير.
لقد أرادوا أن لا يُبقوا لأهل هذا البيت باقية، وأن لا يبقى لهم ذكرٌ على وجه البسيطة..
ولكن.. بعد أن وقعت الفاجعة الأليمة، حَفِظَت السماء مَن به البقيَّة الباقية من الأئمة عليهم السلام، فعاد السجَّادُ عليه السلام مع زينب عليها السلام، ناعية الحسين، لإكمال المسيرة.
لم ييأس الأعداء، ولم تذهب أمانِيُّهم، فأرادوا (تضييع) عاشوراء و(تمييعها)، تمهيداً لإخفائها وإخراجها من صفحات الحاضر والمستقبل، وسعوا لذلك سعياً حثيثاً، فمكروا ومكر الله، والله خير الماكرين.
لقد ظهر بعض اجتهادهم في طمس معالمها في أمورٍ كثيرةٍ نعرض منها لأمرين:
1. تبرئة القَتَلَة! وإخفاء هوية القَتلَى!
لقد نقلوا نصوصاً أودعوها في بطون كتبهم المشؤومة، يزعمون فيها أنَّ يزيد بن معاوية لم يأمر بقتل سيّد الشهداء!
بل أنَّه قد تألَّم لقتله!
وأنَّه كان يودُّ لو ينقص عمره في سبيل حفظ الإمام الحسين!
ثمَّ زادوا على ذلك ومَجُّوا الآذان باتِّهام الشيعة بقتل الحسين! فخالفوا بذلك العقل قبل النقل! فالعقل يقول أنَّ شيعة الرجل هم أتباعه الذين يطيعون أمره.. أفهل يُعقل أن يأمر الحسين أتباعه بقتله فيطيعوه؟!
ما اكتفوا بذلك.. بل عادوا وزعموا أنَّ الله قتل حسيناً! فبرؤوا أنفسهم بذلك.. ولزم من ذلك براءة الشيعة أيضاً حين نسبوا القتل له عزَّ وجل! فصار الله مُتَّهماً بقتل الحسين عليه السلام عندهم!!
وكأنَّ الله تعالى ظالمٌ! يَقهَرُ بعض عباده على قتل أحب الخلق إليه!
فأيُّ إله يعبد هؤلاء؟!
لقد كانت كلُّ تلك الأساليب طريقاً لتلميع صورة أعداء الحسين.. لذا مَنَعَ بعضهم مِن لعنَ يزيد! بزعم أنه لم يثبت أمره بقتل الحسين!
بل قالوا أنَّه لا يجوز لعن قاتل الحسين أياً يكن.. إذ لعله تاب قبل الموت!
لقد بلغ بهم الأمر أن يتوقفوا في لعن إبليس! كرمى لعيون يزيد بن معاوية! فقال قائلهم: ولا خطر في السكوت عن لعن إبليس مثلاً، فضلاً عن غيره!!
لقد دافعوا بذلك عن إمامهم إبليس.. فكانوا أبالسةً أبراراً بِسَيِّدهم!
ثمَّ بعد ذلك سَعَوا لإظهار القَتلَى كأنَّهم من الرُّوم أو التُّرك أو الدَّيلم! كأنَّهم لا يَمُتُّون إلى رسول الله بصلةٍ! وكأنَّ الرَّسول ما أوصى بهم!
لقد نُقِلَ أنَّ السبايا لمّا دخلن الكوفة: أَشْرَفَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْكُوفِيَّاتِ فَقَالَتْ: مِنْ أَيِّ الْأُسَارَى أَنْتُنَّ؟
فَقُلْنَ: نَحْنُ أُسَارَى آلِ مُحَمَّدٍ (ص)! (اللهوف ص144).
ما كان عمومُ النّاس قد عرفوا هؤلاء الأسارى، لقلَّة اكتراثهم بأمر دينهم وآل نبيِّهم، فلقد أثَّر فيهم الإعلام والنفاق الأمويين.
حتى أنَّ الإمام السجاد عليه السلام لما كان في الشام وأتيح له أن يتكلَّم، على منبرٍ يستمع إليه يزيد وأركان أهل الشام، لم يبدأ بكلامٍ حول الأمور السياسية أو أمور الخلافة.. مع أنَّ الناس يرونها فرصةً مهمةً لذلك..
فَبَعدَ حَمدِ الله والثناء عليه والصلاة على نبيه وآله، بدأ عليه السلام ببيان انتسابه للنبيِّ صلى الله عليه وآله!
فالأمرُ مجهولٌ تماماً عند كثيرٍ من الحاضرين! لا يعلمون أنَّ إمامهم الذي افترض الله طاعته عليهم أسيرٌ بين يديهم!
كان أوّل ما قاله عليه السلام: أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا أُعَرِّفُهُ بِنَفْسِي:
أَنَا ابْنُ مَكَّةَ وَمِنًى، أَنَا ابْنُ المَرْوَةِ وَالصَّفَا، أَنَا ابْنُ مُحَمَّدٍ المُصْطَفَى! أَنَا ابْنُ مَنْ لَا يَخْفَى!
أَنَا ابْنُ مَنْ عَلَا فَاسْتَعْلَى، فَجَازَ سِدْرَةَ المُنْتَهَى، فَكانَ مِنْ رَبِّهِ ﴿قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى﴾ فَضَجَّ أَهْلُ الشَّامِ بِالْبُكَاء! (الإحتجاج ج2 ص311).
هو بُكاءٌ يشبه بكاء أهل الكوفة.. وقد قالت لهم الحوراء عليها السلام: أَتَبْكُونَ وَتَنْتَحِبُونَ! إِي وَالله، فَابْكُوا كَثِيراً وَاضْحَكُوا قَلِيلًا، فَلَقَدْ ذَهَبْتُمْ بِعَارِهَا وَشَنَارِهَا، وَلَنْ تَرْحَضُوهَا بِغَسْلٍ بَعْدَهَا أَبَداً! (اللهوف ص147).
لقد قَلَبَت كلمات السجَّاد والحوراء الموازين، وأظهرت حقيقة القاتل والمقتول، وهي الحقيقة التي لطالما حاول المؤرخون إخفاءها حتى يومنا هذا!
2. منع التحديث عن عاشوراء
ما أراد الأرجاسُ طمس الواقعة في أيامهم فقط، بل أرادوا ومَن جاء بعدهم أن يُمحى ذكرُها إلى آخر التاريخ.
فمنعوا من رواية الواقعة، ومنعوا من كتابتها ونقلها، كما منعوا من تدوين حديث النبيِّ قبل ذلك.
يتجلى منعهم ويظهر بعدم وجود أيِّ مُصَنَّفٍ خاصٍّ بواقعة الطف طيلة أربعة عقودٍ بعدها! مع عظمة هذه الواقعة، وكونها مما لا نظير له في تاريخ الإسلام!
لقد حلَّ العام 100 للهجرة ولم يُكتَب كتابٌ واحدٌ يحكي هذه الواقعة الأليمة ويؤرِّخ لها فيما وَصَلَنا! ولئن كان قد كُتِبَ شيءٌ من ذلك، فإنَّ التاريخ لم ينقل لنا اسماً لكتابٍ قبل ذلك الوقت!
إلا أن يكون كتابُ الأصبغ بن نباتة قد كُتِبَ قبل ذلك التاريخ، وهو المتوفى بعد سنة 100 للهجرة، لكنَّه لم يصلنا أيضاً!
نعم في مرحلة لاحقة تَوالَت الكُتُب عن مقتل سيد الشهداء.. كمقتل جابر بن يزيد الجعفي، المتوفي سنة 128 للهجرة.
وهذان الكتابان من أقدم المقاتل التي بلغنا أنها كُتِبَت، لكنَّها كسواها، طُمِسَ عليها حتى لم يصلنا منها عينٌ ولا أثر!
ثم تلاها مقتل عمار بن معاوية الدهني، المتوفى سنة 133 هـ، الذي كان محبّاً لأهل البيت عليهم السلام، ووقع الكلام في تشيُّعه، ولم يصلنا كتابه أيضاً.. لكن وصلت بعض الروايات المتفرقة مما نقله عن الإمام الباقر عليه السلام حول واقعة عاشوراء، ولم يكن ذلك من طريقنا.. فقد تسلَّلت بعض تلك الروايات إلى كتب الطبري لاحقاً، وطالتها يدُ التحريف والتبديل والدّس.
أما أشهر كتب المقاتل، مقتل أبي مخنف المتوفى سنة 157 هـ، فإنَّه قد فُقِدَ أيضاً، ولكن حدَّث عنه هشام بن محمد الكلبي، وهو الذي وصلت عبره روايات أبي مخنف.. وهشام هذا كان مختصاً بآل محمدٍ عليهم السلام، قال عنه النجاشي: العالم بالأيام، المشهور بالفضل والعلم، وكان يختص بمذهبنا، وله الحديث المشهور، قال: اعتللت علةً عظيمةً نسيتُ علمي! فجلست إلىٰ جعفر بن محمد، فسقاني العلم في كأسٍ فعاد إليّ علمي! وكان أبو عبد الله يقرِّبه ويُدنيه ويبسطه (رجال النجاشي ص434).
وهكذا أحصى الباحثون المعاصرون عشرات المقاتل التي كُتِبَت في القرون الأولى، لأصحاب الأئمة عليهم السلام، ثمَّ لكبار علماء الطائفة، ككتاب مقتل الحسين للصدوق، وآخر للطوسي..
فهناك ما لا يقلّ عن 25 كتاباً باسم (مقتل الحسين) ذُكِرَت أسماؤها ولم يصلنا منها عينٌ ولا أثر! (موسوعة المقاتل الحسينية ج1 ص58).
وما لم يتمكَّن القومُ من إخفائه بالكامل تَرَكُوا فيه بصمتهم بقدر وسعهم، بالتزوير والتحريف.. والكذب على الله ورسوله..
فهم الذين اتَّخذوا يوم عاشوراء يوم بركة! وكذبوا على الله تعالى في ذلك!
يقول ميثم التمار وهو العالم بتعليم أمير المؤمنين: يَزْعُمُونَ لِحَدِيثٍ يَضَعُونَهُ أَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي تَابَ الله فِيهِ عَلَى آدَمَ.. (علل الشرائع، ج1، ص: 228).
وقد اعترف جملةٌ من علمائهم بوضع الأحاديث في فضل يوم عاشوراء!
على أنَّ نماذج التحريف والكذب والدسّ أكثر من أن تُحصى.. نترك البحث حولها لمحلٍ آخر.
كيف وصلتنا عاشوراء إذا ؟
لقد تسلَّلَت رواياتُ المقاتل هذه إلى كتب التاريخ العامة.. فهذا الطبريُّ مثلاً قد نقلَ روايات عاشوراء عن أبي مخنف، وأودعها في تاريخه.. قبل أن تُفقد نسخة أبي مخنف الأصلية.. بغضّ النَّظر عن مقدار مطابقة ما نقله للأصل أو تحريفه عنه.
ولأنَّ نقل أحداث عاشوراء بنفسها تؤرق الحكام وعلماء البلاط والسوء، تَنَبَّه بعضهم لخطورة ما وقع فيه الطبري، فقال ابن كثير (توفي سنة 774 هـ) أنَّ الطبري قد تَقَصّى نقل أحداث الثأر عن أبي مخنف، ثم قال:
توسَّعَ في إيراده بروايات أبي مخنف لوط بن يحيى، وهو مُتَّهَمٌ فيما يرويه، ولا سيما في باب التشيع، وهذا المقام للشيعة فيه غرامٌ وأيّ غرام! إذ فيه الأخذ بثأر الحسين وأهله من قتلتهم، والانتقام منهم (البداية والنهاية ج8 ص302).
لقد كان تَقَصِّي نقل الأحداث التاريخية التي يهتمُّ لها الشيعة خطأً فادحاً، بل جريمةً لا تُغتفر عند القوم!
هذا نموذجٌ من كتب القوم.. التي نقلت أحداث عاشوراء..
أمّا كتب الشيعة، فإنَّها اهتمَّت بهذه المسألة اهتماماً بالغاً، وأوصلت لنا ما أوصلت رغم كلّ الصِّعاب والتضحيات، ونقلت لنا ما أمكن من أحداثها ووقائعها، سواءٌ في كتبٍ مستقلة، أو أخبار مبثوثةٍ هنا وهناك.
ماذا فعل آل محمد عليهم السلام ؟
في مقابل الخطوات الهائلة والجهود الجبّارة التي قامَ بها أعداء الله لطمس الحقّ، وإخفاء هذه الواقعة الأليمة..
كانت الدَّمعة عند آل محمدٍ هي السلاحُ الأمضى!
إنَّ إظهار ما جرى في عاشوراء من أحداثٍ أمرٌ مُهمٌّ، لكن إن عجزنا عن إظهار ما نُريد منه، ومَنَعَنا أعداؤنا من التحديث به، ألا تحلُّ الدَّمعةُ محلَّه في بيان المظلومية وإظهارها؟! وهي التي تسيلُ على الخدود حُبَّاً وشفقةً ورحمةً على الحسين.. وهي التي لا يقدر أحدٌ على منعها..
كم هو أثرُ دمعةٍ تنحدرُ على خَدَّي إمامٍ عَظيمٍ ينتسبُ إلى سيد الكائنات، ويمثِّلُ الطُّهرَ والطهارة والشَّرَفَ والعِزّ.. لقد كانت صورة الإمام زين العابدين عليه السلام مما يهزُّ كيان الأمة.. أو ما تَبَقَّى فيه من شَرَف..
قال الصادق عليه السلام:
بَكَى عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَلَى أَبِيهِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (ع) عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ أَرْبَعِينَ سَنَةً! وَمَا وُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ طعاما [طَعَامٌ] إِلَّا بَكَى عَلَى الحُسَيْنِ!
حَتَّى قَالَ لَهُ مَوْلًى لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، يَا ابْنَ رَسُولِ الله، إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الهَالِكِينَ!
قَالَ: ﴿إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله ما لا تَعْلَمُونَ﴾.
إِنِّي لَمْ أَذْكُرْ مَصْرَعَ بَنِي فَاطِمَةَ إِلَّا خَنَقَتْنِي الْعَبْرَةُ لِذَلِكَ (كامل الزيارات ص107).
الإمام لا ينسى أباه، والذريَّة الطاهرة لا يفارقهم ذِكرُ الحسين..
وذِكرُهُ يَقلِبُ الدُّنيا إلى مأتم عزاء!
لقد كانت مآتم العزاء والبكاء والعويل والنَّوح تُقام في بيوت الأطايب، يبكي فيها الرِّجالُ والنِّساءُ والأطفال، بقدر ما تسمحُ به الظروف، فإن ضاقَت عليهم بكوا وحدهم.. انتظاراً لفُرجَةٍ من الزَّمَن.
إذا حَفِظَ المظلوم الظُّلامة التي وقعت عليه بحدود أسرته وأقربائه ومحبيه وأتباعه اليوم، فإنَّها سَتتوسَّعُ غداً وتنتشر مع تَغَيُّر الظروف.. أما لو ضَيَّعَها اليوم فإنها ستضيع للأبد.
هكذا تفاعَلَت الدموع بأمر السماء.. فصار للدَّمعة أثرٌ عجيبٌ.. صارت وتستنزل رحمة الرحمان في الدُّنيا.. وتطفئ النيران في الآخرة.. وبها يُحفظ ذكر الحسين عليه السلام.
وقد أحيا الأئمة ذكر الحسين بفعالهم قبل اللِّسان، وعَلَّمُوا شيعتهم على ذلك وأدَّبوهم، وبيَّنوا لهم عظيم الثواب، وحثُّوهم على البكاء والتباكي، وقول الشعر في الحسين، وزيارته، وإحياء أمره، وتحويل يوم شهادته إلى يوم حزنٍ عميم، في مظهر دينيٍّ إنسانيٍّ اجتماعيٍّ مَهيب.. تتعطَّل فيه كلُّ مظاهر الحياة في سبيل إحياء ذكر الحسين عليه السلام والبكاء عليه.
ولقد نقل الأطهار لنا جملةً من أحداث عاشوراء، بَثُّوها بينَ أصحابهم، فتلقَّفَها الشيعة، ونقلوها لنا في تاريخٍ كتبيٍّ وآخر شفهيٍّ، ما فارق الشيعة يوماً.. ولو بذلوا دماءهم في سبيل الحفاظ عليه..
إنَّ السيِّدَ الشريف، عظيم الشأن، الذي يتعرَّض للظُّلامة، عادةً ما يدعوه علوُّ مقامه إلى الإغماض عن كثيرٍ من الظلامات التي تقع عليه، والتركيز إما على أصل وقوع الظلامة، أو على بعض صورها التي يصلح ذكرُها وبثُّها، أو ينبغي الاهتمامُ بها..
وهكذا وجدنا في كلمات المعصومين عليهم السلام أهمّ صور عاشوراء التي تكفي لتظلَّ عاشوراء حيَّة..
إلى يوم يظهر الآخذ بالثار..
إلى يوم الكرَّة حيث يرجع الحسين عليه السلام وأصحابه، فينتقم الله لهم من قتلتهم، كما وعدهم بذلك.
بهذه الأمور وأمثالها.. حَفِظَ الله عاشوراء.. فكان ذلك أشبه بمعجزةٍ إلهيَّةٍ.. إذ يأبى الله إلا أن يُتمَّ نوره.
والحمد لله رب العالمين
السبت 17 محرم 1445 هـ، الموافق 5-8-2023م
|